مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زلغ بي لساني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 11 - 06 - 2010


إلى :
أنور المرتجي
ورشيدة بنمسعود
بقوة الأشياء
« لماذا لا يجيء الثلج في الصيف؟»
أبو حيان التوحيدي
مثلما عشب على منحدر
كم مخر إنسان الرمل عباب الريح ! لا هو جمع يديه وراء ظهره. ولا الريح كفّت عن سرقة الرمال من شواطئ اللغة . إلى متى؟ سوف يأتي يوم ويقف فيه لينين على قبر رامبو. لا لشيء، فقط كي يقول له وهو يقرأ باقة من شعره: « أنت هو الأهم». صحيح إذن: الغرقى هم أول من يصلون إلى الميناء. بعكس الشعراء. هؤلاء بحارة إلى الأبد.
كل شيء أو لا شيء
ليس للنقط والخطوط أحجام . هذه هي البديهية التي ميز أفلاطون - انطلاقا منها - بين مربعين : مربع فوق الورق أو فوق التراب، ومربع في ذاته أو فوق السحاب. الأول» سيمولاكر كاذب» . والثاني هو الحقيقي.
لحظة: ما معنى : كاذب ؟ حقيقي ؟ سيمولاكر؟ ثم، قبل ذلك، ما الحقيقة؟ وما غير الحقيقة ؟ وبخاصة في هذا السياق؟
عند الإغريق : « aléthéia » ( الحقيقة ) تتكون من « a » التي للنفي، ثم من « letheia » التي هي :
1 - إما صفة . وتعني: الخفي (latent) ، وبالتالي « aléthéia » ( الحقيقة ) - ولا سيما في تفسير متأخر
( هيدغر) - تفيد : انجلاء الخفي (dévoilement) . أو بعبارة أخرى: «ظهور الأشياء في اليوم الجلي للحضور».
2 - وإما اسم : ومعناه : النسيان (oubli) . وبالتالي ف « aléthéia » ( الحقيقة) - ها هنا - هي اللانسيان (non-oubli) .
تقول الأسطورة: أحد أنهار العالم السفلي، واسمه: « نهر النسيان» كان ينبغي للموتى - إن هم أرادوا أن يعودوا إلى الأرض - أن يشربوا منه. بهذا يمحون من ذاكرتهم كل أثر له علاقة بحياتهم السابقة.
بالمجمل إذن: الذاكرة هي التي تحدد - في هذا السياق - الحقيقة. أي هي التي تربط المعرفة بأصولها. ليس من خلال التاريخ ، ولكن من خلال الأسطورة.
تبعا لهذا المنحى في التفكير، حتى اللغة لن تشذ عن هذا. على أقل تقدير، لأن الحروف والكلمات ليس لها أحجام هي الأخرى. منطقيا إذن، سوف يكون النثر هو اللغة في ذاتها (الفكر الخالص؟ ) . أما الشعر فإنما « سيمولاكر كاذب» ، إنه» جنس من التصوير» (الجاحظ) . لا محالة ف « تصوير « و «تزوير» رضعا من ثدي واحد. ينسجم هذا والعبارة الشائعة في ريبرتوار النقد العربي : « أعذب الشعر أكذبه». دعك مما يقال عن تلك الأواصر الصوتية والدلالية التي بين «قصد» و» صدق « و» قصيدة». ها هنا شتان ما بين الحقيقة والمجاز. فاللفظ حصان، والمعنى عربة، والاستعارة لها شروط. ثم إن الإنجليز، هم الآخرون، يقولون: كتاب النثر لا يكذبون. ربما . ولكن أين : داخل النص أم خارجه ؟ ثم ما هو المقصود بالكذب : ما يتنافى مع الأخلاق؟ مع المنطق؟ مع الحقيقة ؟ مع الواقع؟
عند هذا الحد أين ينبغي أن يكون موقع قصيدة النثر: في الوسط، بين النثر والشعر؟ بين الحقيقة والكذب؟ بين الأليف والغريب؟ بين الخالص والهجين ؟ بين الجزل والركيك؟ بين الطول والقصر؟ أم أنها لا موقع لها بالمرة فوق هذه الخريطة الإبستيمولوجية ؟
عود على بدء. بالملموس: الوزن بالنسبة للذاكرة : حاجب ملكي. كيف؟ ببساطة، لأنه هو الذي يحفظ أصول البروتوكول عن ظهر قلب. وهو الذي يسهر على تنفيذه حسب ما تقتضيه الأعراف والتقاليد. ويل لمن عصا. أين كنا وأين أصبحنا! ثم ما دخلي أنا بالذات؟ أنا لست مهندسا. وأفلاطون لن يعمل بأقوالي . وقد يرمي بي خارج الأسوار . ثم إنني مثل جول رونار ( Jules Renard ) :
« ai une mémoire admirable j›: oublie tout j›»
(إن لي ذاكرة حية، فأنا أنسى كل شيء)
قصدي : ليس النسيان هو المرادف الحقيقي ل « فقدان الذاكرة» ( amnésie) . لا، بتاتا. هو - بالعكس - مضاد حيوي سريع المفعول، وينفع في علاج كثير من أمراض الذاكرة. أيضا، ليس ممحاة . قل : قلم رصاص. من هنا نكتب، ومن هنا نمحو . قل : ريشة ، ولكن حين تكون العلاقة المنسية بين الدوال هي السند الذي ترتسم فوقه تفاصيل المشهد. لا شيء سوف يمنعني إذن - بعد أن يرتفع البرج ( برج بابل؟ ) - من أن أعبر عما أحسست به وأنا أرنو إليه، ولو من الخارج، بعيني هاتين. أي أن أقول حقيقته. أقصد حقيقتي أنا. ما من شك، فالحقيقة فردية والمعنى مشترك . هذه تحس. وذلك يبنى . ذروة هذا كله : الإحساس بالبنية. ارم نفسك من فوق الجسر وقل لي بماذا أحسست.
في ما يخصني : أدرأ العين بوضع قطعة من حبل المشنقة في جيبي أولا. ثم بعد ذلك أفعل ما أريد: أشرب . أمشي على الماء، حتى وأنا نائم، بين الألف والياء . أحلم . وفي ذروة الحلم أغادر إلى حيث يغادر الأنبياء والفلاسفة والشعراء وهم يبحثون - كل من موقعه - عن حقيقة ما: هذا فوق ظهر حصان. ذاك فوق صهوة الريح. وآخر على قدميه . أنا، من فوق الهاوية. أحيانا، انظر من النافذة وكفى . أنظر مليا. وحين أتأكد من أن « عشب النسيان « ما يزال يانعاً حول شفاهي أفتح ذاكرتي على مصراعيها وألقي بكل ما فيها فوق رؤوس العابرين . للتو ، أنسى ما فعلت . ثم أبدأ من جديد . هكذا أنا . لي ذاكرة فراشة، لا ذاكرة فيل.
لهذا السبب، لا أحفظ شعري. ( هل يستحق؟ ). أنساه جملة وتفصيلا. أساسا، هل وجد الشعر ليحفظ أم لينسى؟ إذا كان ضروريا: الشعر يحفظ نفسه بنفسه. إذن أستثمر تعريف إدوار هيريو (Edouard Heriot) للثقافة لفائدة أطروحتي وأقول : « الشعر هو ما يبقى لديك بعد أن تكون قد نسيت كل شيء « . هذا هو الدرس الذي أخذه أبو نواس بحذافيره عن خلف الأحمر. حبذا لو كان المغاربة القدامى قد حفظوا هذا الدرس عن ظهر قلب. إذن كانت حصة الشعر لديهم أوفى. للأسف! حدث ما حدث: صدور تعج بالمتون. وذاكرة تنوء رفوفها بالأمالي والتعليقات والحواشي. أيُّ خلية بقيت فارغة - أي سليمة - في تلك الذاكرة؟
المجد للفراغ. ليس أي فراغ . ولكن ذلك الذي ينطوي على طاقة لا حدود لها. في الوجودية ( سارتر) : العش الفارغ ينعش المخيلة . يحفزها. ويثريها، على الأقل بأفقين: الغياب (غياب العصافير التي كانت تسكن العش) ، والانتظار ( إمكانية عودتها) .
حتى في ما مضى، ولا سيما في الطاو : الفراغ هو الذي يؤسس المعنى. هو الذي - كالظل - يتبع اللغة . لا يمل . ولا يقول : آي ، ظهري يوجعني . لا، ولكن ينحني في كل مرة. ويلتقط ما يبقى عالقا في شبكة اللغة، أو ما ينفلت من بين ثقوبها. أرأيت ؟ للثقوب والفراغات أهمية قصوى . هي الأصول والمصادر. وهي التي تسمح بالاستعمال الجيد لما حولنا أو لما نحن في أمس الحاجة إليه. مثلا: الباب، النافذة ، العجلة ، المزهرية، ما بين السطور ... الخ.
في الهايكو أيضا، ينبغي للشاعر أن ينسى ذاته. أن يفرغ منها. وأن يتفرغ لما هو أهم : الاحتفاء بالطبيعة ، بالقليل ، باللاشيء. أو - بالأحرى - بالمعنى الذي يقبع في قرارة اللامعنى : عاريا، متشظيا ، وفي منتهى اللمعان.
بهذا المعنى، عيب البلاغة من قبل : ملء الصفحة ، وإثقال كاهل الورق. وبالتالي كاهل الذاكرة بشتى صنوف الألفاظ والمعاني والاستعارات . ثم تغيرت أشياء كثيرة . صار على الورق أن ينسى ما فيه . هل تفاهمنا ؟ ربما لا . إذن ، لدي حل وسط : الذاكرة مكتبة . والنسيان هو أهم كتاب فيها. كونديرا ! كفى ضحكا . أنا لا أمزح . ماذا قلتُ ؟ نسيت .
ثلوج في عز الصيف
وجها لوجه، حول رقعة شطرنج في « مقهى الشعراء»، قال لي صاحبي : لماذا هذا العنوان: « بعكس الماء»؟ قلت : زلغ بي لساني . واستشهدت بقول سارتر:
( Le poète voit les choses à l'envers)
(الشاعر يرى الكلمات بالمقلوب)
ثم قطبت جبيني وأنا أفتح الجريدة على صفحة الكلمات المتقاطعة. أفقيا. رقم 3 . بضع خانات فارغة. والسؤال: ما هو لون حصان هنري IX الابيض؟ بدون تردد: سحبت القلم من غمده. وكتبت : أسود . قال صاحبي: لم هذا الجواب؟ كدت أقول: لأن مدادي (مزاجي؟) أسود ثم خشيت أن يفهم أنني أطابق - لغاية في نفسي فقط - بين التاريخ والوحي. فلجمت لساني قليلا. ثم قلت : لأن الحصان المقصود هاهنا ليس أي حصان . لا هو هذا الذي « يجر عنانه/ إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا « ( مالك بن الريب) ، ولا ذاك الذي يجري في سينما الغرب البعيد (Far west) . لا هذا ، ولا ذاك . ولكن ذلك الذي يخب فوق رقعة الشطرنج . ثمة ، حيث الأمور هكذا : عدد المربعات ( الكلمات؟ ) نهائي (68 مربعا ) ، بينما عدد الاحتمالات ( التأويلات؟) لا نهائي . والحال أن عدد البيادق ( الحروف؟) بعدد المحافل ، ولكن من لونين مختلفين ، وهما في الغالب : أبيض عند هذا اللاعب
( الكاتب؟) وأسود عند اللاعب الآخر ( القارئ؟ ) . أو العكس.
هل فهمت الآن ؟ لا. ولكن ، للحق: لم تكن أمامي أي رقعة شطرنج. أنا الذي كنت أمام ورقة بيضاء وهاتف من ورائي : لا تكتب. حذار أن تكتب. أين أنت من فيثاغورس؟ هاهنا حككت أنفي حتى دميَ ( أنا أكتب بأنفي ) ! كم أحسست بالضيق وأنا أتنفس في جسد واحد! كم طرقت ، وكم فتحت - في جدار اللغة - من باب أو ثقب أو كوة ! ولكن ، بلا فائدة.
يا صاحبي ! أهذه ورقة ليس غير؟ أم هذه جبال مكللة بالثلوج في عز الصيف؟ رويدك عما قليل سوف أعد إلى عشرة . ثم أجمد الماء في ركبة اللغة. لا تعجل علي إذن. وانظر معي إلى ما تحت الثلوج . ثمة فخاخ وطرائد.
دوائر غير قوقازية
« لا حركة ولا سكون» . ماذا عسى أي عروضي أن يفهم من هذه العبارة: غياب الوزن ؟ غياب المعنى؟ أم غيابهما معا؟ أنا يلزمني - بالضرورة - أن أغيب عن الوجود قبل أن أعثر على نفسي، في صميم الوجود. ما حاجتي للوزن؟ ما حاجتي للقافية؟
قديما ، ذهب هوراس إلى أن القافية تعوق عمل الشاعر وهو يبحث عن الصورة . فينلون ، هو الآخر، ذهب إلى أن الشعر يخسر بالقافية أكثر مما يربح . ذهب الاثنان هذا المذهب رغم أن القافية ، باعتبارها « مهيمنة» ، كان لها - في الماضي - ما يبررها، آنذاك ، دور الأذن كان أقوى. ليت شعري إذن كيف ذهب أبو العتاهية إلى ما هو أبعد، وقال: أنا أكبر من العروض!
ثمة تفسيران : أولهما رأى في هذا زراية بالعروض. وثانيهما رأى العكس، أي أن الشاعر أراد أن يقول إنه متمكن من العروض. شربه ماء . وصار في وسعه أن يذهب به أي مذهب، دون أدنى مشقة . للعارفين تفسير ثالث، وخلاصته أن المقصود من كلام أبي العتاهية هو أن ثمة ما يتعالى على العروض. أي ما يحتويه ويتجاوزه . عنيت : الإيقاع . عدة الشاعر هاهنا: الحس والموهبة والمراس، وليس المسطرة أو الحساب الذهني . هكذا أفهم لماذا كان القدامى يوصون الشاعر بعدم تعلم العروض. وهكذا أيضا أتعامل مع السؤال الذي طرحه أبو حيان التوحيدي: « لماذا صار شعر العروضي رديئا، قليل الماء».
شاعر آخر هو المتنبي، حام حول شيء من هذا وهو يرد على سيف الدولة قائلا: « إن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك. لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله، لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية».
كل هذا أدركه أبو العتاهية والمتنبي ومن لف لفهما. وهذا ما لم يدركه لا عباس بن فرناس، أول من فك - في الأندلس - كتاب « العروض» للخليل ، ولا أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، صاحب « الورقة» التي أشار في « عروضها « إلى أنه «لا يجوز أن يقاس على النوادر».
لا فض فوه . ولكن ، هل هنالك ما يبعث على السخرية أكثر من هذه النادرة: زعموا أن الرجلين - بعد أن شرقا بماء الشعر - تطلعا إلى ما فوق السحاب. صنعا جناحين : هذا من شمع، وذاك من خشب. ثم قفزا في الهواء. وإن هي سوى فاصلة صغرى وهاهما فوق التراب : « لا حركة ولا سكون»؟
فنجان في زوبعة
أنا لم يوصني الماء بأي شيء. في فجر عتيق، شمرت عن ركبتي. ثم طفقت ألعب مع الأمواج ، لم يكن من حولي لا معلم سباحة، ولا طوق نجاة. مر وقت غير يسير وأنا أحرك أطرافي كيفما كان: سباحة بالعرض، على الظهر، فراشة ، نعامة ، قنديل بحر، وخذ على هذا. كم غرغرت. كم تشنج في صدري من قفص ، ولا سيما قفص اللغة. كم لقفت . وكم أحسست بالرمل وهو يجر أقدامي من تحت. وفي الأخير، وجدت نفسي أعوم. بل وأستنشق بعمق، أحيانا تحت أمواج عاتية من قبل ، كنت أجد صعوبة كبيرة في رفع رأسي من بين أكوام الماء.
بعبارة أوضح: علاقتي ب « ميزان الذهب» لم تنشأ إلا في مرحلة متأخرة نسبيا. أي بعد أن التحقت بالجامعة . ليس من خلال أي درس ، أو أي محاضرة . ولكن من خلال دواوين الشعراء: القدامى والمحدثين . بشراهة وإدمان . هذا هو المحك الذي جعل تفعيلتي - آنذاك - تأخذ مجراها بين الشعاب والمنعطفات بسلاسة ، ولو نسبية ، حتى وأنا أكاد لا أعرف من أسماء الأبراج والمنازل والمارستانات التي تمر منها سوى النزر اليسير.
فلاش باك : د. صالح الأشتر وقف على ما أقول . كنت قد أعددت - تحت إشرافه - في كلية الآداب بفاس، خلال سنتي الثالثة ( 1970 - 1971) عرضا حول « روميات أبي فراس الحمداني «. وهو العرض الذي امتحنني فيه شفويا في آخر تلك السنة . لم تستغرق مدة المقابلة أكثر من 15 دقيقة ، غير أنني رأيت فيها ما لم أر من قبل : سمكة فوق ظهر جبل . من الذاكرة: خطان لا ينقاسان . ما هما؟ ما الفرق بين الخرم والخزم . قلت : نقطة . فقال : صفر . أنت راسب. ثم أضاف : ما زحاف المعاقبة؟ ما الصلم ؟ الإيطاء ؟ مخلع البسيط؟ قطر الميزاب ؟ سناد الردف؟ ياللهول! حتى الردف له سناد. ولربما أشياء أخرى. من يدري؟
طبعا، أكثر تلك المصطلحات كنت أسمع به لأول مرة . سمعي من هذه الناحية كان دون المتوسط إذن . ومع هذا فقد نلت في هذا الامتحان نقطة حسنة، لا أرى مبررا لها سوى ما قاله لي الأستاذ الممتحن وأنا أهم بالانصراف من أمامه . لك أذن موسيقية . ثم استشهد بقصيدة كنت قد نشرتها في بحر تلك السنة تحت عنوان: « يوميات في الأسر على هامش سفر التذكار» ، ونلت عنها من «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب» جائزة الشعر الأولى. لم يفته هذا. ولم يفته أيضا أن يربط بين موضوع الامتحان وموضوع القصيدة : تجربة أبي فراس الحمداني، في الشعر وفي الحياة. صدق أو لا تصدق.
مهما يكن . يا أبا حيان نب عني حتى هاهنا. واطرح السؤال التالي: ما هي الأذن الموسيقية:
- مصفاة ؟ هنا كسر ، هنا نشاز ... الخ
- غربال ؟ هذا شعر، هذا نثر، هذه قصيدة نثر، هذه قصيدة حرة ...الخ
- ضابط إيقاع؟
- قمطر فني ؟
أنا ، للتو وددت أن أسمع بأذني هذه - قبل أن تصاب بالطنين - ما يفيد أن لي عينا موسيقية أيضا. الآن ما عدت أعرف هل الحروف ملكات نحل أم زنابير. ولا عدت أميز بين الأوزان ورنات الهواتف المحمولة. أين تنتهي اللغة؟ وأين يبدأ اللغو؟ عقبة مثل هذه أتخطاها حين تكون عيني هي ميزاني . سواء تعلق الأمر بالأنغام والأعداد أو بالصوائت والصوامت أو بالرموز والإشارات . في هذا ، أنا كالعازف الأعمى : أغمض عيني وأعثر على الإيقاع . أتعثر فيه. ف»أتقراه بلمس» ( البحتري) . أشمه. وأراه كما هو ، على مخه . في الحقيقة ، ليس بأذني وعيني فحسب، ولكن بكل جارحة وبكل حاسة . لا جرم . فالإيقاع ظاهرة حية. خلايا تنمو وتتكاثر على هواها. بلا حساب مسبق. وبلا وصايا . الإيقاع ليس تكرارا ، ولا توازيا ، ولا ازدواجا، ولا تشاكلا وكفى . الإيقاع شكل وتشكيل وتشكل، بل وأكثر . هو عندي بمثابة الأسلوب عند ماكس جاكوب «حاجة إلى الجنون الأنيق « . قل : فنجان في زوبعة.
الجميلة، حين تأتي حينذاك ، سوف يليق بي أن أقول على لسان رامبو:
« Cela s'est passé. Je sais aujourd?hui saluer la beauté »
( لقد حدث هذا. والآن صرت أعرف كيف أطأطئ راسي للجمال)
قبل هذا، أي دوخة ! وأي دوار . دوني إذن وأقراط نفرتيتي خرط القتاد. إذ كي تستوي العبارة ، ويصفو المزاج كم يلزم من جيئة وذهاب ! من قدح! ومن قبضة يد فوق أقرب طاولة أو باب . كل الشعراء مروا من هنا : قلق، وسواس ، تأتأة ، هلوسة ، وغسل للأيدي بالماء والصابون عدة مرات . شهودي كثر:
قسطنطين كفافي : مهووس إلى أقصى حد . يشك في النقطة ، والفاصلة ، ونوع الحبر، والحيز الذي ينبغي أن يفصل بين الكلمة والكلمة. يكتب ويعيد : الكلمة ذاتها، والعبارة ذاتها، والنص ذاته. مرات ومرات. يفعل هذا حتى والأمر يتعلق - في مكتبه ، في وزارة الري - بمراسلة عادية . لا تغلبه في هذا سوى إلزا مورانتي. هي التي لا تتأخر عن ركوب أول طائرة ، ولو في أحوال جوية ترتعد منها فرائص الربابنة. لا لشيء . فقط لتغيير جهة الفعل، أو لتنظيف غليون السارد.
إميلي ديكنسن: هي الأخرى، مثل كفافي، مقلة في النشر .7 نصوص ليس غير. هذا هو كل ما نشرته طوال حياتها. أما ما تركته وراءها فيتجاوز 1700 نص. كلها بدون عناوين . ولكن مرقمة. تحت كل رقم تعويذة أو رقيم. ثم من بعد هذا الطوفان. هذه شاعرة غريبة الأطوار: خجول، منطوية على نفسها، كتوم، وتكتب بعبثية تكاد تكون مطلقة ، تكتب وترمي بما تكتب في قمطر رث. أحيانا على شكل رزيمات وكأنها أوراق نقدية . وأحيانا بلا مبالاة : فوق ظهر رسالة، فوق فاتورة، فوق ورق تلفيف، وهلم شعرا. هذا هو الظاهر. أما في العمق فخلف تلك العبثية: صرامة، وحرص، وتدقيق ، وتقليب للعبارة على جميع وجوهها المحتملة ، وغير المحتملة. إلى حد العصاب. هي لا تكتب إلا وميزان الماء بين أصابعها. لولا هذا هل كانت الحصيلة سوف تكون هكذا: النص مكان عبادة . التراكيب تعاليم. والأتباع في منتهى الخشوع، ولا سيما علامات الترقيم. لا نأمة زائدة . لا تنهيدة ناقصة . ولا شروي نقير.
ماكس جاكوب: مخطوطاته أشبه ما تكون بمزبلة شعرية . قصاصات غير مؤرخة . خطوط تحاكي رقصة الإوز، في يوم غائم . والقصيدة الواحدة بأكثر من صيغة . كيف يهتدي إذن مؤرخ الأدب أو الناقد التكويني ، بله القارئ العادي، إلى وضع اليد على جينيالوجيا النص؟ ناهيك عن معرفة المحطة التي انطلق منها، أو خط السير الذي سلكه ، أو الأعطاب التي وقعت أثناء الرحلة. كم مسافراً صعد؟ كم نزل؟ أين : في « مدينة أين «؟ ( سركون بولص). أم في « جزيرة يمكن» ؟ (Mary yellen stkls) . كم تأخيرا ؟ وكم وقوفا اضطراريا؟
هكذا هو الشاعر - صاحيا أو ثملا، ولربما حتى وهو يشخر - دائما، في حالة طوارئ .24/24 ساعة أشغال شاقة . أخماس في أسداس ، منذ المهد. بل منذ ما قبل التاريخ . كيف لا يصاب بالاكتئاب ؟ لا ريب، فالكتابة والاكتئاب، منذ الأول وهما صديقان لدودان . أليس أول ما بني فوق هذه الأرض مارستان ؟ ثم إن أول من نزل به كان ما يزال يتهجى ، ضعيف البصر، ثقيل السمع. ولكن ، لديه هوايتان مفضلتان : الشعر والصيدلة . والدليل : هذا الشعار الذي فوق المدخل: عالج نفسك بنفسك.
لأي سبب إذن قال فإن غوخ : « لست فنانا» ، وقال جاك دريدا : « لست فيلسوفا»، وقال محمد بنطلحة : « لست شاعرا»؟ لعل في لا وعي الشخص ما يفيد التشخيص . أو لعله في لا وعي المسودات . أو لربما في لا وعي القارئ . لو كان علي لقلت : في لا وعي المكنسة . حصل هذا لدي بالتدريج . في الأول ، كنت أقوم بجميع العمليات فوق ساحة المعركة نفسها، أو كما لو أنني في عيادة للتحليل النفسي وأنا فوق الأريكة . ياه ، ما أشبه تلك الأريكة بالورقة التي أمامي . عمليا، كنت أستعمل الورقة ذاتها إلى أن تمتلئ أو تكاد. ثم صارت درجة الامتلاء تتضاءل . قلّت الأسهم ، والدوائر ، والبقع السوداء. صرت أمزق . وأغير الورقة. ثم انتقلت إلى التكميش . هاهنا زادت كمية الورق المستهلك . صرت - إثر أدنى خبشة أو نبشة - أكمش وأرمي ، إلى أن تتكون أمامي مزبلة . أحيانا، مطرح بلدي، مثل هذه « الحركات التسخينية « أو « البروفات « أو « المناورات الشعرية « فيها كثير من مشاعر الشفقة والخوف. ولكن فيها أيضا من عناصر المتعة والتشويق ما فيها . وهذا ما ليس في وسع أي شاشة أو فأرة كمبيوتر أن توفره لي. أنا - في الكتابة - ما زلت أستعمل المحراث الخشبي.
كل هذا من أجل أن يروق المشهد: نبيذ معتق، وساقية عاتق. ماذا أريد أكثر؟ أيتها الجميلة! هاتي قدحين . واتبعيني . ها هي الورقة، كالفلك أو كالسرير . إن هي سوى لمسة أو بضع لمسات ليس غير ثم ينفرج كل شيء : الدفتان ، والافق، والسرير . ليس دائما؟ أحيانا لا ينفرج أي شيء . للتو ، أقفل الهاتف . وأهرع - من جديد - إلى سلة المهملات. أقلبها رأسا على عقب . في غاية الارتعاش. وعيني على قطعة غيار ما. ياللعجب! قبل قليل كانت هذه القطعة لا شيء ، متخلى عنها. وفي رمشة عين صارت كل شيء . لا بأس ، ما دام الهدف هو أن تستوي العبارة، وأن تثبت : على شكل أو على قرار. في النهاية: ما هو الشعر؟ قال صاحبي : هو فن التثبيت . قلت : يا للرهان! قليلون هم إذن.
رامبو حالة خاصة، نجح في ما هو أصعب: تثبيت اللامعبر عنه. ابتكر ألوان الصوائت (A noir , E blanc, I rouge , O bleu, U vert ) . وضبط أشكال وحركات الصوامت . باختصار: ثبت أكثر من دوخة. وأكثر من دوار فعل هذا في سن مبكرة. ولكن، حين أيقن أن العبارة دون الرؤيا رفع قبعته. ثم قلب طريقه . قلبه تماما.
ليتني أنا أيضا فعلت هذا . لا، أنا - هذه المرة - أمزج. هل هذا على قدر طاقتي؟ لا، ولكن لنفرض . إذن كنتُ فتحت عيني على اللغة وهي في كامل عربيها . أي قبل أن تنفصل عن جوهرها : الصمت المطلق . بجد: ليتني ما كتبت. عند الضرورة، كنت كتبت . ولكن، من وراء صمتي.
(*) مداخلة ألقيتها خلال اليوم الدراسي الذي انعقد حول تجربتي الشعرية بمبادرة من اتحاد كتاب المغرب/ فرع الصخيرات - تمارة ، بشراكة مع وزارة الثقافة وعمالة الصخيرات-تمارة ، وذلك بتاريخ28 05 2010 بالنادي الملكي للرياضات البحرية في سيدي العابد.
ساهم في فعاليات هذا اليوم الدراسي الأساتذة :أحمد بوزفور، نجيب العوفي، محمد البكري، رشيد يحياوي، محمد زهير، خالد بلقاسم ، محمد علوط ، محمد الصالحي، إسماعيل شكري ، محمد جودات ، إدريس الملياني ، أنور المرتجي ( كاتب الفرع) ، محمد الداهي ، أحمد العاقد ، محمد عزيز الحصيني .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.