الشاعر محمد بودويك محمد بودويك «قوة شعرية هادئة» دون مكابرة وادعاء، لا نحتاج لنقرأ قصائده لارتداء الكمامات الواقية، ولا للتسلح بالمكيفات البلاغية التي تعودنا، من شراسة زحفها على امتداد بلاغتنا الشعرية، على تقبل ملابسها المتسخة وقدميها الموحلتين.. محمد بودويك زرقة شعرية غير منحازة للتسكع في الصرير اللغوي الواسع، بل لارتجاف أعصاب موجة لاتتهمنا بأننا متخلفون شعريا، أو أننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل. محمد بودويك لم يراهن على إخراج النهر من الجرة، ولم يراهن على تحويل ضرع كلبة إلى دورق خمرة، ولا على المجازات التي تطبخ الإسنادات على نار هادئة. فبودويك يلتفت في شعره للتراث، ويبني معه علاقات جديدة تنتمي كلها لسؤال «الحوار الشعري الشامل»، ليس فقط مع المتنبي والبحتري وأبي العتاهية وأبي تمام وغيرهم من فحول الشعر.. بل مع كل النمور التي تربت في قفص الحداثة، وكل الذين يشرئبون باستعاراتهم إلى مرحلة ما بعد الحداثة.. محمد بودويك شاعر، وهل كان ذلك إرادة، بفعل اختيار ثقافي أو ورطة أو قدر؟ أشير بداية إلى أنني جربت كتابة الخواطر والقصة القصيرة في باكورة صباي، وبرنامج «حدائق الشعر» الذي كان يعده الصديق الشاعر محمد بنعمارة شاهد صدق على ذلك. لكن، بعد سقوط كتاب شعري في يدي -سقوط تفاحة نيوتن-وأحسبه ديوان نازك الملائكة : (عاشقة الليل)، وديوان (فدوى طوقان)، وأعمال «إيليا أبو ماضي الشعرية: (الخمائل/الجداول-تبر وتراب) تغير كل شيء، ووجدتني أقرض الشعر، أو كلاما أشبه بالشعر، ومن ثمة عكفت على قراءة «ميزان الذهب». وشرعت أقيس ما أُحَبِرُ على أوزان الخليل من دون معرفة بالزحافات والعلل. تلك مرحلة لاحقة. لذا، فكتاباتي الشعرية الأولى مفعلة (موزونة ومقفاة) ورومانسية، عليها نداوة أشعار أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه، ونفحات ريحهما الرومانسية. إنها إرادة محسوبة ورطتني فيها بعض الأعمال الإبداعية التي تصادى وجداني المكسور معها، ثم باتت اختيارا مفكرا فيه بعد ذلك. لكن ما الذي تبقى بالفعل من الشعر اليوم، حيث يبدو أن السينما والإشهار والصورة أكلت منه، بل حتى الواقع أصبح شاعريا في الشارع العام ولم نعد بحاجة لأطلال تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد؟ أبدا، الواقع كان ولا يزال نثريا بالمعنى القدحي أي سطحيا وخطيا.. وواطئا، نثريا باردا منمطا ومقمطا، في الدوام والمعاد اليومي، والتشابه الرملي الأصفر، منزوع الروح. سنحتاج، دوما، إلى جرعة ضوء، ودفقة دم، وديمة غيث، ودبيب حلم يربطنا بالغد المحلوم به، الغد الجميل، غدا الطوبى والأسطورة. فالشعر يبيعنا هذا الوهم، والكائن الحي العاقل في مسيس الحاجة إلى الوهم والخيال. المهرجانات الشعرية لا تثير أحدا، باسثنائك أنت ومن معك-وأنا منهم-لماذا هذا الإصرار عليها، هل هي نرجسية أم رفض للموت أم نزهة للأصدقاء؟ هذا الإصرار والعناد الطفولي الأرعن، مرده إلى كل تلك الأشياء التي ذكرت؛ فالمهرجانات والملتقيات، والعكاظات، تدغدغ المشاعر المترفة، تجعلك تصعر خدك للناس، متوهما أنك بلغت الجبال طولا، وأصبح النجم قاب قوسين من يدك. فالحضور الدؤوب استجابة دفينة وغير معلنة للبعد النرجسي في الإنسان، والأنا النابحة التي تسعى إلى حفر الأثر والتعدد في السياق الخاص والسياق العام؛ وبالتالي، فالمسألة، في البدء والختام تشاكس الموت محاولة طرده بالنذر والأصوات جميعها، هذا الموت الذي لا مرادف له غير الغياب والمحو. وبديهي أن الاختلاط والانخراط في سلك النظائر والأشباه والمغايرين نزهة بين أحذية كثيرة، وألوان مختلفة، وامتطاء للمركب النشوان الذي ما انفك الشاعر الهائل (رَامْبُو) يدعو إليه الخلان والأصفياء والشعراء الملاعين. هل يكذب الشاعر على نفسه في ذلك؟ الكذب -يا حميد- هو ملح مجلوبة من البحر الميت: (أصفى ملح وأحرف ملح وأقدس ملح هي ملح البحر الميت) ملح تُخَاصِمُ التحلل والتعفن، وتتيح الاستمرار والاستعذاب والاستلذاذ. ذلك أن الصراحة وقحة ذات تجاعيد وغضون وانكماشات تماما كحَيْزَبُونٍ تتوكأ على مكنسة السحر والريح والصفاقة! أبدا كل ما يحيط بنا مخيف بل مرعب بل جحيم. لنكن صادقين هل نعيش شعريا في عالم اليوم وفي حياتنا الخاصة؟ لذلك نلتجئ إلى الشعر، إلى الكتابة... إلى الخلق البديل. إذ الشعر واقع إبدالي افتراضي تخييلي به ومن خلاله نعتاش ونعيش، ونضفي على حياتنا الخاصة، حياتنا الكئيبة، بعضا من الألق والضوء، ونثارا من البنفسج والورد والكْلٌورُوفِيلْ، يجعلنا نحتمل الرماد والسواد والغبار، ويجعل منك ومني شَنًا وطبقة. كم مرة شعرت بالحاجة إلى الشعر لكي تقول شيئا عاديا، مجرد شيء عاد؟ كم مرة؟ هه هه!! دائما تلوذ أفكاري ومشاعري بهذا المارد القُمْقُمِي الذي هو الشعر. دعك من البلاغة ومراودة اللغة، وبناء نص مواز للوجود والموجود.. أتكلم ?حصرا-عن العادي والتافه والمبتذل والسَيار. فلدي نصوص قصيرات كالماليزيات أُشْبِعُهَا مشاهد القتامة والظلم والفقر واليأس العام، وأزركشها ?في الآن عينه-بالأمل ومخاييل البشارة والتغيير، أليس هذا دَيْدَنَ المثقف العضوي؟ ما آخر شيء، غير الدواوين، قرأته؟ أنهيت ?قبل فترة- قراءة رواية «عزازيل» للمصري يوسف زيدان وهي الرواية العربية الحائزة على جائزة بوكر العربية العالمية، وهي رواية دسمة وعميقة على كل حال، ذكرتني بأجواء وعوالم رواية «إسم الوردة» لأبرتوإيكو، من حيث نفسها وإلغازها وكثافتها، وسلاسة السرد فيها، وأبعادها المشبعة بعبق التاريخ والأسطورة والعجائبيات. وما هي الحكمة الأخيرة التي دخلت إلى كتابتك؟ واصل سعيك الحثيث أماما من دون أن تفقد القدرة على النظر إلى الخلف بين الفينة والأخرى. فلن تتحول إلى عمود ملح في كل الأحوال، ثم لا تحسب أن كل صيحة عليك. لماذا لا تتحول إلى الرواية خاصة وأن قصائدك الأخيرة فيها نفس طويل وسردي-حتى لا أقول نثري فيختلط الأمر؟ الأرضية قائمة، والسماد وفير، والمادة خصبة وَثَرة، والعوالم أتقراها بلمسي، وأستحضرها كل أوان وحين، إنها جرادة، سمائي الأولى، وأرضي الأم المسلوحة والمشطوبة بسكاكين الجحود والنكران. مدينتي ?جرمنال germinal المغرب-التي تنتظرني على قارعة العمر-لأحول سيرتها المكانية، وسيرة طفلها الذي هو أنا وحيوات أصدقائه ومجايليه، إلى سجل سردي وحكائي مصبوب في قالب روائي-شعري. تلح علي الفكرة كل حين، وقد ألحت علي من زمان بعيد. المثقفون صامتون، وبعضهم دخل في غيبوبة نصية، فلا قضايا اللغة ولا قضايا السياسة ولا قضايا المرأة أصبحت تستوجب منهم الكتابة والنقد والتعبير، هل نوشك على الانقراض؟ ما يحيرني هو تلك الإشكالية التي لا تَنِي تَنْطَرِحٌ على يد مفكرينا وفلاسفتنا، إشكالية السياسي والثقافي، وََمَنْ يَقُودُ من؟ هل في الأمر تكامل أم تنازع وتخالف ومفارقة؟ ومتى يبدأ الثقافي، ويكف السياسي عن غرس أنفه في الآتي والاستراتيجي؟ وأيان يتدخل السياسي... ويتحين الثقافي الفرصة ليسند الرهان والتصور والإجراء المرحلي أو البعيد؟ ألم تكن فورة النضال العام، وحركات التحرر الإفريقية والأسيوية والأمريكو-لاتينية وَقُودًا للمثقفين؟ ألم تكن الثقافة بمعناها السوسيولوجي وباعتبارها التحليل الملموس للواقع الملموس وراء إشعال فتيل الثورات، وتزويد اليومي والآتي بالحلم في غد عادل، غد لا طبقي، غد طوباوي. إذا، فالسياق الوطني والإجتماعي والمرحلة إياها استوجبت بحكم تظافر عوامل سوسيوثقافية-اندماج السياسي بالثقافي والعكس، حتى صرنا نسمي المثقف المنحاز إلى قضايا المعذبين في الأرض بالمثقف العضوي، وحتى صير إلى وَسْمِ المثقفين الذين يخوضون في قضايا اللغة والجماليات بالنخبويين المتعالين في أحسن الأحوال، وبالعدميين المتواطئين مع الغرب والأمبريالية والرجعية في أسوئها. الآن بَانَ أن الثقافة في عموم المجتمعات العربية انزاحت عن الجمرة والمطواة، واقتربت أكثر من الذات والمتعاليات. ولم يعد المثقف ضمير أمته أو قائد مجتمعه أو حامل رسالة إنسانية كونية إلى العالمين. وللتبدلات والتحولات، وانقلاب الرؤى والابيستميات يَدٌ طَولى في كل هذا. ومن ثمة فلا انقراض ولا يحزنون. لماذا يصر الشاعر على أن يكون أصدقاؤه المفضلون من الشعراء، هل هي القبيلة، آيت بودلير وبني الطيب المتنبي واولاد سيدي روني شار؟ هي القبيلة ?نعم-والهم المشترك، واشتراطات الجنس الإبداعي، إياه، ونفس الريح والروح والريحان على رغم ما يتبدى من خٌلْفٍ وتخالف واختلاف. لا أقصد النشيد الواحد الموطوء... واللغة المهتوكة والمنهوكة المتماثلة التي تعاور عليها القطيع كما يتعاور البقر على مرعى واحد مسيج بالأسلاك وموشوم بالنبت الشاحب والمداس. ومع ما في هذا الكلام من حقيقة نسبية وصدقية ما، فإن الشاعر اليوم محكوم بالإنصات والانتباه إلى كل الأجناس الأدبية، ومحكوم بجملة من الصداقات والعلائق الموصولة بمجال التشكيل والموسيقى والسرد والسينما، وإلا أضحى نواة يابسة ملفوظة، وقشرة بطيخ شائهة تسحقها الأقدام. بالقليل من الجدية، هل يشعر الشعراء اليوم أنهم كتلة لا تاريخية معزولة وأقلية تحرس النار؟ لم يشعر الشعراء يوما-في زعمي الشخصي-بأنهم كتلة تاريخية، الحقيقة ما أشرت إليه من أنهم كانوا دائما كتلة لا تاريخية، وعصبة معزولة وأقلية تحرس النار، ومع ما قدمه النقد من اجتهادات ومقاربات في شأن المدارس والتيارات حيث جَمعَ شعراء هنا سالكا إياهم ضمن توجه شعري ما، وشعراء هناك ضمن رَعِيلٍ يٌوَحِّدٌهم نزوع شعري آخر مفارق للأول، مع كل ذلك، ظل الشعراء الأفذاذ، سارقو النار، ناشرو الجمال في الكون، ومحاربو الشر المستطير الذي يَرينُ على الكون، ألصق ما يكونون بذواتهم وخصوصياتهم المخصوصة، أي ظلوا متفردين، فرادى، واحديين، كل يحمل سمة مائزة، وملمحا استثنائيا خاصا به: فأدونيس، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، ومحمد عفيفي مطر، ومحمد السرغيني، وحسب الشيخ جعفر، وأحمد المجاطي، وشوقي بغدادي، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وعبد الكريم الطبال، وعز الدين المناصرة، ومحمد عمران، ومحمد علي شمس الدين، ومحمد بنيس، ورفعت سلام، وسركون بولص، ومحمد الأشعري، وعباس بيضون، ووديع سعادة، والمهدي أخريف، ومحمد زكريا، ووليد خازندار....إلخ كل هؤلاء وغيرهم نجم وحيد، وديمة في حقله ومداره. امرأة لا تحصى-قصيدة جميلة لأنها قصيدة حياة وحب، كيف تشكلت بالفعل، وكم استغرقت منك...؟ مثلما في الحلم أم في ما بين اليقظة والنوم، أُلْهِمْتُ العنوانَ، وانثالت مفرداته وتفاصيله بغتة، وَسَرَتْ في زغب الكلمات ارتعاشات واختلاجات أدْرَكْتُ-بعد أن استوى النص خَلْقًا سَويًا أو هكذا خُيِّلَ إليّ ?أن الولادة السلسلة ما كانت لتتم لو لم يسبقها مَخَاضٌ التبست سيماءه حد المماهاة بين الجسد الحي الموار باللهب والحرائق، والأرض العطشى للماء، فيما العوالم تتصاقب، والكائنات تتصادى، والجسد النابض بالعنفوان يتنادى. ما فَضُلَ بعد الإنجاب الدافق، سوى المسح والمحو، وإزالة الزوائد واغتيال الزعانف. هكذا تشكلت: «امرأة لا تحصى». لماذا لا تتحدث السريانية من أجلها يا رجل! قد أتحدثها يوما-بي ما بها من عقابيل المواجع والفواجع والآلام وقسوة التنائي والبعاد-قد أتحدثها شرط ملازمتها بمعلولا وقضاء ما تبقى من العمر جنبها هائما في براري معلولا من أجل «لارا» السريانية. لكن ما حيلتي وقد اكتهلت وََوَخَطَنِي يأس عظيم، وَوَهَنَ العظم مني، وزوجتي متوفزة وأبنائي متربصون. هل لك مدة زمنية في الكتابة وهل تحتاج إلى قاموس مثلا؟ أحيا في الكتابة كما أحيا في الحياة، بمعنى أن استرسال اليومي وانعقاده في أيام فشهور فأعوام شبيه بما يحدث في الكتابة والإبداع. الاسترسال والانقطاع والمباغتات والفجائيات شيء لا قِبَلَ للوصف به، ولا معرفة للكائن المبدع بزمنيته ومواقيته، قد ينزل سريعا مِدْرارا كمطر الصيف، أو قد يَتَنَزلُ نصا مُنْثَلِمًا، يتشظى إلى شذرات وومضات. وفي كل الأحوال مدة الكتابة مُدَدٌ مستطيلات ومربعات ودوائر، وتنجيم؛ وأنا طوع الشكل الذي تلبسه بحسب المزاج والواقع والحالة النفسية. ثم إن اللغة التراثية التي تَسْتَكِنُّ في نصوصي كجرة الراعي في الحكاية، تأتي عفو الخاطر، وهي متأتية من افتتاني بالشعرية العربية القديمة.