«سيظل الشعر ضرورة وجودية وجمالية ما ظلت الحياة، لأنه ضوؤها، وأحد أنساغها، وبما أنه كذلك، فإن قسطا من الاعتكاف والاستغراق فيه، وإعلان المحبة والعشق له، موصل إلى التقاط رعشاته، واختلاجاته، ومفض إلى أغواره وقيعانه..» هو ذا الميثاق / الرهان الذي يعقده الشاعر والباحث محمد بودويك مع القارئ المفترض لآخر كتبه «خيط أريان»، الذي هو «عتبات وقراءات في الشعر» تتوزع على 12 عتبة و 7 قراءات. عتبات الكتاب، وهو ثالث منجز نقدي لمحمد بودويك بعد دواوينه الخمسة، تنحاز للشعر بدون لف ولا دوران، إذ «العالم أعمى من دون شعرائه»، وتعلن، بصوت بهي، مثلما يحدث مع الملوك: «مات الشعر.. عاش الشعر»، رغم أن «الشعر الحديث لم ينغرس كفاية في النفسية والذهنية العربية الحالية، كما انغرس الشعر القديم»، مثلما تطرح العتبات علاقة «الشعر والتكنولوجيا» المتوترة، لتنتصر للأول ضد مقصلة الثانية: «إذا مات الشعر وانتصرت التكنولوجيا انتصارها الماحق الساحق، سيموت الورد والعصفور والزرقة والماء... سيموت ما تبقى في الإنسان من إنسان!». تركب عتبات محمد بودويك بعدها «عربة من نار، يجرها أطفال مشتعلون نحو هبوب الحب والندى.. نحو الشعر»، متسائلة «لماذا يوم الشعر؟، مدافعة عن «الصدارة للكتابة» ومقاربة هموم الذات الشاعرة المؤرقة: «الشعرية» (أي «ما يخلق في بناء اللغة فجوات من الاهتزاز والتوتر بين الدوال والمداليل، مع اعتبار العذوبة والغنائية والإيقاعية بمعناها العريض») ، «قصيدة النثر» (أي ذلك «الإمكان الشعري من بين إمكانات أخرى» الذي «يتيح المبادهة والمخاطرة والخلخلة»)، قصيدة النثر إذن وما يحوم حولها/ في رحمها من إشكاليات. بعدها تحاور العتبات «القصيدة المغربية الأولى» ، بمعنى القصيدة التي بدأت «الخروج على النمط الشعري الموطوء والقصيدة الخطية الصدوية التي تنشر مسعاها قبل أن تفكر»، وهو الخروج «الذي استعلن في منتصف السبعينات، من دون حجب تشكلات ملامح القصيدة المغربية منتصف الستينات»، وتسائل «القصيدة المغربية المعاصرة وقضايا الغرض الشعري»، وذلك قبل الرسو في مرفئ العتبة الأخيرة، عتبة «راهن النقد الشعري في المغرب أو عري الإمبراطور»، العتبة حيث تنتصب علامات الاستفهام غير المهاذنة: «هل ما نشر ضمن كتب أو في مجلات وصحف سيارة نقد شعري؟ أم نقد للشعر؟ أم قراءة أم مقاربة أم مقترب؟ أم هذه جميعها تتعاضد وتتشابك في المفهوم الجامع: نقد؟» من جهتها، تتوقف قراءات محمد بودويك، في «خيط أريان»، عند تجارب شعرية متنوعة ومتعددة ذات سطوة وسطوع، في انتظار نشر امتداد لها في كتاب يعدنا الباحث بأنه آت مستقبلا. وتتوزع القراءات هذه على سبع دراسات نقدية: -«كمين لإبر النحل والعسل» أو عوالم سعدي يوسف الشعرية، -«وعي الواقع ووعي الشعر» أو بعض من تجليات الوصل والفصل في شعر عبد الرفيع جواهري، - تجربة محمد الأشعري، أو الشعر «مؤتلقا كقنديل ندى على شجر البلور»، -«حوار المرايا المؤتلقة وضوء السنبلة والميزان» في كتاب «الشاعر والتجربة» لحسن نجمي، -«حارس الخرائب المجيدة وأعشاب الأليغوريا المشتهاة»، والأمر لا يتعلق في هذا الفصل بغير عبد الحميد بن داوود في ديوان «التشظي»، -«قياس الفقدان أو تقشير المرايا» في «عطر الذاكرة» لعزيز الحاكم، -«مقدمة بين يدي الشعراء / المشاتل» ، وهو فصل يقرأ ضمنه بودويك الديوان الجماعي «ما قاله الضوء للسنبلة» الذي يضم قصائد لشعراء من أواخر العقد التسعيني، و هي التسمية التي يعلن الباحث تحفظه عليها إذ هي منهجية فحسب. ويؤثث المؤلف عتبات وقراءات «خيط أريان» بمزهريات متعددة ملؤها عبق النصوص الشعرية العالمية والمغربية والعربية، الكلاسيكية والحديثة، والاستشهادات النقدية والفلسفية، مما يجعل الكتاب غير أحادي الصوت، وفي ذلك نداء جلي من محمد بودويك، الشاعر الجميل والباحث اللبيب والقارئ النهم، نداء جلي للقراءة، وخاصة قراءة الشعر لأن «الشعر مفيد دائما، مفيد لأنه جميل» (الشاعر الألماني مارسيل رايش رانسكي)، ولأنه «بهمة الشعر تحيا أبدا شرارة الألوهية في الصوان البشري. وعندما تنهار الميثولوجيات، تجد القداسة لها في الشعر ملاذا، وربما قوة جديدة» (الشاعر الفرنسي سان جون بيرس).