يبدو أننا في حاجة إلى الفلسفة لأننا معنيون بمساءلة وجودنا وعصرنا؛ ومن شأن هذه المساءلة أن تسمح بالفعل الفلسفي في جو الفراغ والنقص، وبالتفكير الفلسفي في مناخ الآراء وصناعتها، من جهة أنهما معا (أعني الفعل والتفكير) تعبير عن وجودنا الهش، وقدرنا المتوتر. إن الفلسفة هي وحدها ما يتيح لنا فرصة وضع مسافة بيننا وبين ذواتنا، وبيننا وبين الأشياء الطبيعية والصناعية والتقنية، وتعلمنا كيف ننظر إليها بطريقة مغايرة لما هو شائع، ونقلب جهات النظر فيها، لأجل البرهان على أن الوجود أعقد مما يمكن أن تحيط به الظنون، حتى وإن بدت هذه أشد انتشارا وأكثر قبولا من غيرها. وارتباط الفلسفة بالإنسان وبأسئلته ومطالبه يجعلنا ?لا نتصور - كما يقول إتيان سوريو- وجود حياة بمعزل عن الفلسفة-، عن هذه الرغبة الملحاحة في التفلسف وفي إثارة السؤال دون انتظار جواب نهائي. لهذا كان دائما على الفلاسفة أن يواجهوا قدرهم، أن يحضروا في عدة جبهات ومواقع ليكسبوا في ?نهاية المطاف? فرصة تسمح بوجود حيز لهم بين الموجودات الأخرى. وأن لا يتوانوا ولو لطرفة عين، في التاريخ، عن واجب الدفاع عن وجود الحكمة وعن شرعية هذا الوجود بكل اللغات والحيل. إن الفلسفة، وهي بصدد إنشاء خطابها، تعي استحالة ذلك الدفاع إلا بتوفر شرطين: شرعية الحضور، ومواجهة الأقدمين. ومهمة الفيلسوف الدائمة هي الحسم في هاتين المسألتين لأجل، أو في أفق أن يترك أثرا مستقبلا يسجله التاريخ كفلسفة. فموت سقراط مثلا . هو إعلان حياة ورمز الدفاع عن الفلسفة، فلكي تحيا الفلسفة كان على سقراط أن يدافع عن مستقبلها، ولكي يتأتى له ذلك، كان عليه أن يجعل حاضره شهادة تعطش للانتحار من أجل الحقيقة. كان على سقراط أن يموت. وبهذه الجهة لا تكون الفلسفة خالدة فقط. بل إن مستقبلها ومستقبل الإنسان وجهان لعملة واحدة. (إتيان سوريو). وابن رشد أيضا كان يدرك جيدا خطورة إتيان فعل دون التشريع له: فإذا ?كانت الحكمة حقا أمرا خاصا بالإنسان، كالحال في الملكات الصناعية، فقد نقول إنه من المستحيل أن تخلو الإنسانية من الفلسفة تماما، ومن المستحيل أن تخلو من الصنائع الطبيعية، لأنه إن انعدمت الصنائع من جزء من الإنسانية، مثلا من الربع الشمالي من الأرض، فإن الأرباع الثلاثة الأخرى لن تخلو منها[...] إذن يمكن أن توجد الفلسفة في كل زمن» (ابن رشد). وهذا يعني، من بين ما يعني، استحالة خلو الأرض من الفلسفة أو افتقاد النوع البشري لها في زمن معين، ما دام النوع البشري خالدا، أو ما دامت الفلسفة لصيقة به في خلوده، وتساهم كعنصر من عناصر هذا الخلود. ولضمان هذا الخلود كان لا بد من اعتبار النظر الفلسفي واجبا. فهل كان هذا هو مصير الفلسفة من خلال بعض تجارب الفلاسفة؟ لا نملك إلا أن نصرح بالنفي؛ لأن من الفلاسفة من لم يترك أثرا فلسفيا. وهناك من دفن معه حكمته، وفشل في أن يجد لها مقاما بالمدينة، لأسباب ودواع متعددة، وهذا معناه عجز بعض الفلاسفة عن اجتراح تصوات يمكن أن يتلقفها أهل المدينة، هذا العجز الذي لم يكن، في نظرنا، إلا بسبب من إساءة مستفحلة في فهمها وتصورها، وفي خطل استخدامها وتبليغها. فعلى الرغم من الطلب العمومي المتزايد على الفلسفة، والذي يعود لأسباب مختلفة، أهمها فقدان الناس ثقتهم في الحلول والوصفات الجاهزة واستشعارهم العميق بخطورة غياب البدائل، الأمر الذي يجعل امتهان سبيل السؤال أمرا لا مفر منه. إلا أن الفلسفة كما تُقدم، وكما قدمت لأهل المدينة عبر تاريخ الفلسفة في الإسلام على الأقل، أبعد ما تكون عن إشباع فضولهم وملء فراغاتهم التي يمكن أن يولدها السؤال الذي قد يسألونه أو يصادفونه، الأمر الذي يجعل هذا الفراغ عرضة للأهواء والآراء. فالجمهور غالبا ما يكون محكوما ? وهذه نتيجة قبل أن تكون سببا . بالانفعالات والنزوات المنمطة من طرف سلطة قادرة على توحيد موقفهم وتوجيهه توجيها مضادا لكل ما من شأنه أن يزعج ويستفز. إن الجمهور يضحى بعد أن تُصنع مواقفه راغبا في أفكار مقبولة سهلة التناول ولا تستفز طمأنينته. إلا أن ما هو مهم هو مزعج بالضرورة، وهنا يأتي دور المتفلسف في تفكيك الآراء المفروضة، وإلغاء كل امتثالية ومقاومة الزيف والتسطيح. لابد من الاعتراف بأن الجمهور كان يطرح مشكلا دائما بالنسبة للفيلسوف، وقد وضعه في لحظات كثيرة أمام عدة اختيارات: هل يقبل به كما هو؟ هل يتواصل معه، وإن فعل، فضمن أي حدود؟ هل يأخذ مسافة محسوبة تجاهه؟ هل يرفضه، بل هل هو بحاجة أصلا إليه؟ وإن كانت له به حاجة، فهل هي من قبيل الحاجة الضرورية أم العرضية؟ والجمهور، هل هو كيان منفصل عن الفيلسوف، له عالمه الخاص به والذي تحكمه ثوابته التي يقتات منها، أم أن الفيلسوف حتى وهو في أقصى توحده وعزلته وهروبه إلى الأعالي يكتشف وجود الجمهور بداخله؟ في خضم الحياة اليومية، لا يرقى التساؤل عن العلاقات التي تربط الفيلسوف بالجمهور إلى مستوى الضرورة، لأنها مسألة يفرضها العالم المحيط الذي يشتركان فيه. إلا أنه قد يحدث للفيلسوف أن يعايش تجارب عارضة، لكنها خطيرة، تجعله يكتشف في الجمهور ما يؤسس عزلته، بل قد يضع فكرة الإبقاء على تواصل عادي يربطه به موضع شك ومراجعة. وفي هذا المناخ، عوض أن تكون المدينة أفقا هادئا ممكنا للتواصل بين الفيلسوف وأهل المدينة، نجده ينكشف كفضاء من الفجوات والقطائع والنتوءات تجعل من المدينة بالنسبة للفيلسوف مصدر تهديد وموضوع مقاومة. وهنا يكون الفيلسوف أمام مفارقة: فعندما يتسنم قمم الفكر ويقترب من الحقيقة يطرح أمامه واجب العودة إلى المدينة، إلى -الكهف العامر-، وكأن هذا الأخير وضعية تجريبية تسمح بتقويم تلك الحقائق وبقياس مدى قابليتها للتداول. فمتى كان الصمت والتوحد محكين للفلسفة؟! إلا أن الهاجس الأكبر هو الفشل، فشل الفيلسوف في إثارة الجمهور، وكأن الفشل جزء ممكن من الفلسفة. ومع ذلك فإن الفيلسوف هو الذي لا يكف عن الارتماء في أحضان الحياة، واجتياح سياجاتها الكثيفة برؤاه الثاقبة التي يجب أن يبرهن أنها قادرة على تأمل اليومي، والإصغاء لحشرجاته وتفاعلاته. فلا بد للفلسفة إذن من فعل الإنصات، الإنصات للتاريخ وللإنسان الذي يفعل فيه وينفعل به. لكن من قال بأن الفيلسوف لا ينصت؟! إن سقراط كان رجل سماع ممتاز. قبل أن يكون رجل تقويم للتصورات الشائعة. وفعل الإنصات يجب أن يكون مقرونا بفعل يوازيه خطورة، إنه تقوى الفكر، أي فعل السؤال. إن الفيلسوف هو الذي يطرح الأسئلة على الأجوبة التي تنصب من نفسها ?أجوبة مصيرية نهائية? لأجل إعادة النظر فيها وتقليبها. ومن هذه الجهة، يمكن القول بأن الفلسفة هي شكوك على الحلول والوصفات الجاهزة، وليست أبدا تقديم حلول ووصفات نهائية. وهكذا، فإن الفلسفة في هذا العصر لا تستطيع أن تقدم نفسها إلا عبر جمهور قارئ واسع، إلا بقدر ما يقرأها ويحبها أكبر عدد ممكن من الناس. إن الفلسفة بمعنى من المعاني جلوس على حافة ?الرأي العام? دون السقوط في مهاويه، إنها انخراط دائم في معمعات الحياة والتاريخ، لكنه انخراط ومشاركة عن بعد يسمح بالنقد والمساءلة الدائمين. ومن هنا كانت الفلسفة اغتراب دائم عن جسدها وعالمها كما يقال، تفارق كهفها الأصلي لتنفتح على شؤون العالم وتقدم نفسها على أنها صناعة ووظيفة وفن، لكنها وظيفة إنسانية تتعالى عن كل غرض، وفن لا يحمل بطاقة هوية محددة، وصناعة لا تحكمها ملة معينة. يبدو أن مطلب مدينة خاصة بمحبي الحكمة قد أضحى اليوم حلما عتيقا ? لكنه جميل ? لا تسمح به حال المدينة الفعلية، ومع ذلك فليست هذه الحال سوى حالنا بمعنى من المعاني، حال الحاجة إلى الفلسفة، كبديل لسيادة مطلقة وعنيفة للآراء ولفكر الحدث. إلا أن أسوء مصير على أية حال هو أن تقبل الفلسفة بعزلتها، في انتظار حصول ما لن يحصل. وانسجاما مع هذا التوجه الفكري والجمالي، فقد سعى الشاعر «محمد بودويك» إلى تأثيث فضاء قصيدته بثلة من الرموز وأسماء الأعلام (قاسيون، دمشق، معلولا، القلمون، بنيلوب، السيد المسيح، مارتقلا، يوسف، مريم، محيي الدين بن عربي...)، الحبلى بعمق تاريخي أو مدى جغرافي أو حمولة عقدية مقدسة. وهو ما يبرهن على ثقل الحقل المعرفي لهذا النص الذي يستلهه الشاعر بقوله: قاسيون إله غيم مغنى هوى وحزن رحب للندى والشعر وظل سابغ على محيي الدين شيخي وزهرة في جديلة يرتشف لونها نحل الأنبياء.1 إن «قاسيون» هو الجبل الشامخ الأشم المقلي بظلاله على قبر محيي الدين بن عربي الشاعر والفيلسوف المتوصف، وعلى نصب الجندي المجهول. فهذا الجبل ينحد بجبال لبنان من الجهة الغربية، وبجبال القلمون من الجهة الشرقية. ويروى أن تسميته باسم «قاسيون» تعود إلى شدة قساوته على الزرع والشجر، أو قساوته على أعداء الوثنية الذين عجزوا على تحطيم الأصنام المنصوبة فوقه. ويخبرنا التاريخ العمراني للشام أن هذا الجبل المسمى أيضا بجبل «الصالحية» وجبل «دير مروان» جسّد المقام الأول لساكنة دمشق. ولما نزلت هذه الساكنة إلى سفحه أمسى المكان المفضل والرئيس للتنزه والترفيه. ولذلك كان ولا يزال محطة للعشق والتدلل، ومرتعا خصبا للشعر والندى. أما محيا «دمشق» فيبدو من أعلى شرفته منظرا رائعا خلابا خاصة أثناء الليل لما تتأهب المدينة للتزين بمصابيحها وفوانيس حاراتها القديمة. ويعد «قاسيون» من أبرز الأماكن المقدسة في دمشق، إذ يحكى أن قبر ذي الكفل والنبي يونس يوجد فيه، وبه يوجد الغار الذي احتمى به النبي يحيى من مكر قوم عاد، وفيه تحصن النبي إلياس من بطش ملك قومه. ناهيك عن كونه المقام الطاهر الذي صلى فوقه إبراهيم ولوط وموسى وأيوب وعيسى. ولعل هذا الفيض من القرائن هو ما جعل الشاعر يخاطبه بقوله: قاسيون يتلهى بالأعصر تياها كطفل يخربش بالركض سهلا ويقطف بالشباك نجما.2 وإذا كان الخليفة العباسي «المأمون» قد شيد فوق هذا الجبل الأشم، المرصد الفلكي المذكور في كتب التاريخ، فإن القائد المغولي «تيمور لينغ» قد كاد له لما اجتث أشجار نخيله السامقة المتجذرة في صلب الصخر انتقاما من الإرث التاريخي والعمق الحضاري لبلاد الشام. وبحكم قداسة هذا الجبل وانطوائه على الكثير من المكرمات والمعجزات، فقد اختاره الشيخ محيي الدين بن عربي مأوى أبديا لجسده، ومن أجل التبرك بهذا الزاهد العارف بالله، وتبركا بطهارته، ناداه الشاعر بقوله (فيا شيخي مدّ لي يدك / أقل عثرتي / أرني المحجة، فقد تيمتني دمشق / أسكرني جمالها...). فابن عربي المدفون في سفح قاسيون هو ذاك الشيخ المتزهد المتصوف المتفرد المتعبد المتوحد المتجرد المسافر صاحب الحكمة الظاهرية والشعر الراقي والعلم الواسع والذهن الوقاد. نسب إليه مذهب الأكبرية بموجب لقب الشيخ الأكبر، وهو القائل: من قال بالحلول فدينه معلول وما قال بالاتحاد إلا الالحاد إذا كان الشيخ الأكبر حجة في المحبة والترحال، فكيف لا تطلب محجته في أرض خبر أسرارها واختارها قبرا لرفاته. وكيف لا ! وهو المعروف بالإلهام وأنوار الكشف، وبالتفرد في البحث عن الحقيقة وأسرار الكون غائصا في منعطفات الروح حتى يتحقق لذاته التحليق في معاني الجلال والجمال والكمال. وبما أن ابن عربي قد اطلع عن طريق التوحد والكشف والتجلي على مختلف مظاهر التنسك في كل المذاهب والأديان، وزار كثيرا من الأماكن والبلدان، فإن الشاعر محمد بودويك يستهديه كي يقل عثرته، سائلا إياه أن يهبه من شطحات رموزه زادا معرفيا روحانيا يبدد به حيرته ويشحذ خياله. ولئن سكر الشيخ وهو في «مكة» بحب «الفتاة» المسماة «نظاما» التي اتخذ منها رمزا ظاهريا لحكمته الخالدة3 المترجمة بأسلوب رمزي استعاري في ديوان «ترجمة الأشواق»، فإن شاعرنا محمد بودويك قد سكر بحب دمشق / لارا باعتبارها رمزا يوقظ في مكامنه الوعي بالذات والذاكرة والتاريخ، وهي مؤشرات وجدانية لاواعية تدخل الشاعر في علاقة حب صوفي مجرد مع طهارة الروح (لارا) وقداسة المكان (دمشق). يقول: يا محمد وطئت أرضا بتولا فأنعم بك من مُذنَفٍ وَلِهِ وأنعم بك نبيا في الحب ومجذوبا رسولا.4 أما جبل «القلمون» المذكور في وسط القصيدة، فيعكس عن طريق شموخه وصمود أثريائه، الصور الشاهدة على قصة حب أزلية بينه وبين بلدة «معلولا» التي تعد إحدى قرى «القلمون» المرتفع بنحو خمسمائة وألف متر (1500) عن سطح البحر. ولا أدل على ذلك من كون «معلولا» قد اشتقت من لفظ «معلا» الذي يفيد المكان المرتفع أو الهواء العليل حسب اللغة السريانية، الأمر الذي أهلها لكي تتبوأ موقعا من أبهى المواقع في خارطة الجغرافيا. وإذ تقع «معلولا» وسط جبال القلمون الصخرية الجرداء، وقد تفتق منها نهر عذب رقراق تنتشر على ضفافه أشجار مثمرة، فإن هذا التموقع جعل بيوتها معلقة ومتعانقة مع تلك الصخور الأثرية في علوّ سامق متشابك بشكل عجيب، يقول: من طحالب الجدران والقرون بين مباني قلمُون وبين كنيسة القديسة تقلا ملهما هفهافا رحلتني تعاليم السيد ووشْوَشَنِي حروف ذهب.5 إن ذات «محمد» الزائرة تحس، وهي بين جدران ومباني «معلولا»، بأنها وسط قطعة أثرية تتحدى صروف الدهر محتمية بما احتوته هندستها العمرانية من رسوم وتشكيلات فنية قل نظيرها في مجال صنائع الإنسان. ولعلها الهندسة الإبداعية التي حركت مخيلة الشاعر ليبدع نصا شعريا امتزجت فيه الحقيقة بالخيال، والتاريخ بالأسطورة، والحلم بالواقع، والطقوسي بالديني، سيما وأن أرض «معلولا» تطفح بموروث أقدم حضارة بشرية تجمع بين أثريات الكائن البدائي، وحياة الإنسان المعاصر، ويذكر أن كهوف «معلولا» استخدمت للإقامة والعبادة، ودفن الموتى. أما أديرتها وكنائسها فتشهد على كون أهالي «معلولا» من أوائل الذين اعتنقوا المسيحية، وقد استبيح دمهم من أجلها في زمن الاحتلال الروماني. ومن أبرز القديسين والقديسات الذين افتدوا المسيحية نذكر القديس «مار سركيس» والقديسة «مار تقلا» التي هب السيد المسيح لنجدتها من بطش الرومان قبل أن يعتنق إمبراطورهم الديانة المسيحية. وعلى إثر هبة السيد المسيح، يروى أن جبال القلمون قد انشقت عن فج شكل حاجزا بين القديسة الهاربة «ثقلا» وبين جنود الوثنية المحتلين. ومن ثم، أضحى هذا الفج ساقية يتوافد عليها الزوار ليعبوا منها ماء مطهرا للأدران شافيا للعلل. وهكذا، فقد أمسى الإرث التاريخي والثقل الاركيولوجي والإيكولوجي ل»معلولا»، وكذا أيقونات ونقوش الكنيسة «تقلا»، مجالا حيويا للجذب العقائدي والسياحي، ولذلك صارت صخور القلمون، وأثريات «معلولا»، وهندسة كنسية «تقلا» المدهشة (طفلا وجلا وقفت / دوختني الظلال والسلال / وتلفعت بمسامي وأيقونات القديسين / ونداءات الرسوم الواثبات / تتصادى كلسعات الحب...) أمورا قد تحيي نظام التعايش، وتقيم جسور المحبة الصافية بين مختلف الأجناس والثقافات والهويات سيما وأن «معلولا» لا تزال تتكلم اللغة السريانية الرامزة لسريان الماضي في الحاضر، واندغام الاختلاف في الائتلاف. وهكذا، فقد بدت أسماء الأعلام المؤثثة لهذا الكون الشعري نواة استراتيجية لتشكيله لأنها احتلت مكانا متميزا داخله. أما «لارا» كإسم أعجمي غريب عن معجم الأعلام العربية، فيدخل في علاقات تناصية مع كيانات ومرجعيات ونصوص أخرى، غير أنه يخيب أفق انتظار القارئ ليخلق الصدمة، فيخرق المألوف ويشحن القصيدة بدلالات تفتح المتن الشعري على معان متعددة سيما وأن اسم «لارا» لا ترتسم ملامحه الشعرية في هذا النص وفقا لمحاكاة النموذج أو طبقا للخلفية الدينية أوالثقافية الجاهزة. فهو إذن بهذا الامتصاص المحوِّل، ليس مناصة سطحية، وإنما تفجير لمتخيل شعري تتلاقى وتفترق أطرافه لتفسح المجال لاستخلاص إمكانيات دلالية غير متوقعة تتحول بموجبها واقعة «لارا» الدينية والثقافية إلى مادة منفتحة تستمد عمقها الدلالي من إيحاءات النص وتشكلاته التقنية والجمالية. ومن ثم فقد يتكشف أن الطابع النفسي لذات الشاعر المتماهية مع العمق التاريخي ل»معلولا» و»دمشق» قد كسر الثبوتية المرجعية ل»لارا»، وعمل على مسح الأطراس العالقة في ذهن المتلقي حول هذا الاسم العلم سواء في قصيدة «أولد وأحترق» للشاعر عبد الوهاب البياتي أو باعتبار «لارا» رمزا لواقعة تراجيدية إنسانية شكلت موضوعا للعديد من القصائد الملحمية، حيث مثلت «لارا» رمزا لعائلة إسبانية عريقة وقعت جميعها في كمين نصب لها من قبيل الموريين (Les Maures) بتحريض من خالهم راي فيلازكير (Ruy Velasques)6. وعليه، فإنه يتبين أن الشاعر محمد بودويك قد استعمل أسماء الأعلام في هذا المنجز الشعري في ارتباطها بالبعد الوظيفي والتأويلي المولد لعلاقات رمزية وإحالية ووصفية نابعة من علاقات سياقية داخلية بين الدوال والمدلولات. خاصة وأن أسماء الأعلام تحمل تداعيات معقدة، تربطها بقصص تاريخية وأسطورية، وتشير قليلا أو كثيرا إلى أبطال وأماكن تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان وفي المكان.7 وبناء على الإشارات والتداعيات المحمولة بين أعطاف أسماء الأعلام المستثمرة في النص، فإن استحضارها بسخاء، قد كثف الصورة الشعرية وخلق تجاذبات تناصية وجدلا بين سيكولوجيا الذات (محمد/ الشاعر) والمكان/ معلولا/ دمشق/ قاسيون/ القلمون) والتاريخ (لارا/ يوسف/ محيي الدين بن عربي/ تقلا..) حيث تشابكت وتكاثفت دلالات الأسماء مع شموخ الأمكنة. وقد نأت القدرة الفنية لهذا التركيب الجمالي بهذه الأسماء عن البعد المرجعي الذي تحتفظ به الرؤية والفكرة والدلالة في مسحة إبداعية ليخرج نص «لارا» متماوجا بين الرؤية والفكرة والدلالة في مسحة إبداعية استطاع الشاعر أن يمسك بموجبها بتجاذبات المحكي والمتخيل، وذلك عن طريق التداعيات اللغوية، والمراوغات التي أتاحها التلاعب الحر بالتركيب الذي أنتج نزيفا دلاليا أفضى إلى تناسل الأسئلة وتعدد المعاني. وهو ما تأكد من خلال الطاقة الدلالية التي ولدها التصوير الفني والانسياب الحكائي داخل هذا المنجز الشعري المنفتح بفضل الظلال الكثيفة التي تعكسها رموزه وأسماء أعلامه، إذ توضح أن الشاعر محمد بودويك يضمر، كالمعتاد، لطائف شعره في غياهب التأويلات العاشقة للتمرد على جاهزية المعنى والإيقاعات الرتيبة للرموز، مما يطبع نصوصه بالدينامية والحرية في استغلال الإمكانيات اللامحدودة للغة. ٭ الهوامش: 1 محمد بودويك: قصيدة «لارا». فكر وإبداع، الاتحاد الاشتراكي. الجمعة 19 دجنبر 2008. العدد 9051. 2 نفسه. 3 ابن عربي الفتوحات المكية. دار العلم للملايين. المجلد الأول. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى، ص5. 4 نفسه 5 نفسه. 6- Dictionnaire encyclopédique. « Lara ». 7 محمد مفتاح: استراتيجية التناص. المركز الثقافي العربي، 1985، ص65.