في الحقيقة، نحن مجتمع يُجيد اتهام الآخر وتجريمه، بل نجيد تخوين بعضنا؛ نجيد ذلك إلى درجة يمكن معها أن نوصف ب"الموهوبين" في هذا المجال أكثر من غيره، وأكثر من باقي الأمم غيرنا، والمتأمل -ولو قليلا- لنقاشاتنا وتواصلنا واختلافاتنا، سيلحظ ذلك جليا جلاء الشمس في عز الظهر... هذا مؤسف جدا. المؤسف أكثر أن تجد أشخاصا ينتمون إلى الطبقة "الأنتيليجنسية"، وتَفترض بحكم هذا الانتماء أنهم استثناء في هذا الباب، أي إنهم أكبر من أن يحتموا - كل ما ضاقت بهم أرض المعرفة والحوار- تحت يافطة نظرية المؤامرة، وألا يُشهروا، أثناء انهزامهم الفكري...بندقية التخوين، في وجه نظرائهم... إن المثقف في الوطن العربي/الإسلامي، على سبيل التعميم، والمغربي على سبيل التخصيص، أو المفروض أن يكون مثقفا، بحكم أنه جلس وقتا ليس بالقصير على طاولات الدراسة، وقضى ردحا طويلا من عمره مشرئب العنق أمام أساتذته، لم يسلم أيضا من عدوى، فوبيا، هذه النظرية. ربما السبب راجع لكون جلوسنا في الأقسام والمدرجات والمناظرات، لا يعني، بالضرورة، أننا نصير مثقفين. هذا ما توصلت إليه مؤخرا، وأعترف أني وصلت إليه متأخرا...فالدراسة لا تعني النضج والوعي دائما... الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا المنحى كثيرة كِثَرَ مشاكل هذا البلد العزيز، بدءا من برامجنا التلفزية، مرورا بنقاشاتنا الجامعية أو تلك التي تحصل في مواقع التواصل الاجتماعي، وانتهاء بما يجري في قبة البرلمان التي علت أكثر من اللازم، حتى صارت لا ترى هموم المواطن البسيط وما يقض مضجعه الشائك... لكني سأكتفي في هذا الباب (باب التخوين) بذكر واقعة حصلت معي ذات نقاش. كان النقاش دائرا حول اللغة العربية وأهميتها ومكانتها بين اللغات العالمية. يومها أسهب المتحدث في ذكر مزايا اللغة العربية، إلى أن ادعى أنها أفضل لغة في العالم، ودليله في ذلك أنها لغة القرءان ولغة أهل الجنة...اختلفت معه، ووضحت أنها ليست كذلك أبدا؛ صحيح أنها لغة جميلة ولها من الإمكانات الاشتقاقية والصرفية والبيانية والاقتراضية والدلالية...ما يجعلها لغة مميزة (كونها مميزة لا تعني أنها الأفضل)؛ لكن هذا لا يعني أنها أجمل لغة في الكون. وحاولت أن أوضح للمتحدث أن سبب نزول القرءان بالعربية ليس أمرا راجعا لجمالها، بل إن ذلك مرده إلى القوم الذي نزل فيهم هذا الكتاب السماوي، القرءان، وهذا موجود في القرءان نفسه، وبطريقة واضحة المعنى لا تحتاج إلى تأويل، حيث إن الله يقول {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} سورة إبراهيم، الآية 3، ثم يقول في موضع آخر {ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي} سورة فصلت الآي44. وهذا منطقي، بل وضروري، فمن غير المنطقي أن يبعث الله رسولا عربيا في قوم عرب، لكن بلسان غير عربي؛ وذلك ما جعل الكتب السماوية السابقة بلغة غير العربية، لأنها، ولسبب بسيط، لم تنزل في أمة تتكلم العربية... نظر إليَّ ساعتها بغضب وكأني عَيَّرْتُهُ بما ليس فيه، ثم حين أردفت قائلا: إنه لا يوجد حديث صريح منسوب إلى النبي يثبت أن لغة أهل الجنة هي العربية، وأن حديث "أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرءان عربي، وكلام أهل الجنة عربي"، الذي رواه الطبري، هو حديث موضوع لا يكفي اعتباره دليلا قاطعا، انفجر في وجهي صارخا: أنت رجل عنصري، وتريد أن تفهمنا أن الدارجة وأن الأمازيغية أفضل من لغتنا، لكن هيهات، إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا، لأن الله حفظها كما حفظ القرءان، ولن تجنوا من وراء ادعاءاتكم أنتم ومن يدعمونكم من الداخل والخارج إلا الخزي والسراب... صعقني حجم الاتهامات والغضب الذي شيَّع جوابه..كان الشخص، وهو بالمناسبة أستاذ، يتهمني بذلك "ويُخَوِّنُنِي"، مع أنه يعلم، علم اليقين، أني لست من عرق أمازيغي، وأني لست من دعاة الدارجة كلغة تدريس؛ بل ويعلم أني أستاذ للغة العربية، وفوق ذلك عاشق لها وأكتب بها، ومع ذلك سمحت له نفسه أن يكيل لي كل تلك الاتهامات، ولم يتوانَ في تهمه. طبعا لم أجبه بعدها، لأنه، في ظني، لا نقاش ينفع مع جوِّ الاتهامات ذاك. انسحبت بلطف، لكن الحادثة جعلتني أطرح عدة تساؤلات: ما الذي يجعلنا نُخوِّن كل من اختلف معنا دينيا، أو فكريا أو حتى شكلا أو لونا أو جنسا...؟. ألم يحن الوقت بعد لنرقى إلى درجة تجعلنا نسمو عن هذا المنطق الضيق الذي جعلنا نضيع طاقاتنا ومجهوداتنا سدى؟. ألم نبلغ مرحلة يصير فيها اختلافنا اختلاف أفكار ووجهات نظر ورؤى، لا اختلافات أشخاص ورصيد وطنية أو إيمان...؟. *أستاذ وباحث جامعي