الثامن من شهر مارس الجاري هو عيد المرأة، أو يومها العالمي، وكان الاسم الأوّل الذي اختير لتخليد هذه الذكرى هو "اليوم العالمي للمرأة العاملة"، قبل أن يُعتمَد في أروقة الأممالمتحدة بصفة رسمية في 8 مارس من عام 1975 التي دعت الدّول الأعضاء فيها إلى الاحتفال بهذا اليوم. ومن ثمّ أصبحت نساء العالم تحتفل كلّ عام إحياءً لمبادرة الأممالمتحدة كخطوة جبّارة لإقرار مساواة تامّة، ومُنصفة بين الجنسيْن، ورفع الوعي السّياسيّ، والاجتماعيّ في شؤون وقضايا المرأة، ومكتسباتها، وإخفاقاتها، وانكساراتها، وتسليط الأضواء الكاشفة على المشاكل، والمشاغل، والصّعاب التي مازالت تعاني منها المرأة إلى يومنا هذا في مختلف أنحاء المعمور. ومازالت المجموعات النسائية في مختلف أرجاء العالم تُحيي، وتحتفي بالفعل بهذا اليوم، ويشاركها الرّجال في هذا الاحتفال بتنظيم مختلف التظاهرات، والملتقيات، والأنشطة في مختلف المجالات الاجتماعيّة، والسياسية، والثقافية، والفنية، والعلمية والتاريخية وسواها. وتشارك الأممالمتحدة المرأة كذلك في الاحتفال بهذا اليوم، والتي جعلت بلداناً عديدة تقرّره يومَ عيدٍ وطني. حيث تسارع النساء في جميع القارات للاحتفال بيومهنّ العالمي على الرّغم من الحدود الوطنية، والفروق العِرقية، واللغوية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، التي تفصل بينهنّ، إذ يعملن على استعراض تاريخ النضال المرير الذي خاضته المرأة بدون هوادة من أجل تحقيق المساواة، والعدل، والسلام، والتنمية على امتداد عقود عديدة خلت. مغزى يوم المرأة العالمي ويوم المرأة العالمي هو في الواقع تتويج لقضيّة المرأة المناضلة صانعة التاريخ. وتعود هذه القضية في أصلها إلى نضال المرأة على امتداد القرون من أجل المشاركة في المجتمع على قدم المساواة مع الرّجل. ويخبرنا التاريخ أنه في اليونان القديمة قادت "ليستراتا" إضراباً موسّعاً عن الجنس ضدّ الرّجال من أجل وضع حدٍّ للصّراعات، والمواجهات وإنهاء الحروب. ومن النساء الشّهيرات في تراثنا اللّائي تجاوزن الرّجالَ حكمةً وفطنةً، وذكاءً ودهاءً، نذكر منهنّ على سبيل المثال وليس الحصر: شهرزاد (منقدة بنات جنسها)، وزرقاء اليمامة، وكليوباترة، والخنساء، وصاحبة ابن زيدون ولاّدة بنت المستكفي، وشجرة الدرّ، وزنوبيا، والستّ الحرّة حاكمة تطوان، وفاطمة الفِهرية مؤسِّسة أقدم جامعة في العالم وهي "جامعة القروييّن" بفاس وسواها كثير. وكما هو معروف هناك العديد من النساء في الغرب اللاّئي أدركنَ مراتبَ عليا من الشّهرة والذيوع في مختلف المجالات، وفي خضمّ الثورة الفرنسية، نظمت النساء الباريسيّات تجمعات كبرى للدّعوة إلى تحقيق المزيد من "الحرية والمساواة، والأخوّة"، إذ نظّمنَ مسيرات إلى قصر فرساي للمطالبة بحقّ المرأة في الاقتراع. وظهرت فكرة يوم المرأة العالمي لأوّل مرّة في أواخر القرن التاسع عشر، ومستهلّ القرن العشرين، حيث واكب نضال المرأة خلال هاتين الحقبتين تطوّر صناعي موسّع، واضطرابات وقلاقل، إذ عرف المجتمع نموّاً ديموغرافياً كبيراً، وظهرت أيدلوجيات راديكالية جديدة. وعلى إثر الإضرابات والاحتجاجات النسائية التي حدثت في الثامن من مارس (آذار) من عام 1908 حيث تظاهرت الآلاف من العاملات اللائي كنّ يشتغلن في مصانع النسيج في مدينة نيويورك، بسبب الظروف الصّعبة غير الإنسانيّة التي كنّ يعملن فيها، وللمطالبة بمنح النساء حقّ الاقتراع، وخفض ساعات العمل الطويلة، ووقف تشغيل الأطفال، وقد أطلقن على حملتهن الاحتجاجية اسم "خبز وورود"، إذ حملن قطعاً من الخبز اليابس، وباقات من الورود خلال هذه التظاهرات. كما كانت للحركات العمالية البروليتارية في بداية القرن العشرين تأثيراتها في بداية التفكير في الاحتفال بهذا اليوم للتعريف بإنجازات المرأة في المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية وسواها، إلاّ أنّ بعض الباحثين يرجّح أنّ الاحتفال بهذه المناسبة جاء غداة المؤتمر الأوّل للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي المُنعقد في باريس عام 1945. بداية تحرّر المرأة الباحث الرّوماني "أوجِينْ وِيبَرْ"، المعروف بدراساته عن التاريخ الفرنسي على وجه الخصوص، كَتَبَ يقول إنّ "شارل بيغوي" يَرَى أنّ العالمَ قد تغيّر في الحقبة الزّمانية المحصورة بين القرنين المنصرمين، أكثر من الفترة الزمانية الممتدّة من ولادة السيّد المسيح حتى عصرنا الحاضر. هذا الحُكم قد يبدو مُبَالَغاً فيه، إلاّ أنّ "أوجين ويبر" يبرّر ذلك بكلّ بساطة عندما يذكر لنا أنّه في الحقبتيْن الموالييْن لنهاية القرن كان صاحبُ هذا القول شاهداً على كثير من التغيّرات والتطوّرات التي طرأت على مختلف وسائل الحياة، والأنشطة، والتقنيات، التي كانت تميّز، أو تطبع بشكل واضح مظاهر الحياة اليوميّة في ذلك الأوان، ففي ذلك العصر ظهرت السّينما، والسيّارة، والعديد من المُخترعات الأخرى، وأمكن استغلال وقت الفراغ بشكل جيّد؛ الحركة، الأخبار، الرّياضة، الأنشطة المُبتكرة، وسواها من مظاهر الحياة اليومية الأخرى. كلّ ذلك كانت له جذور، وأصول، وتأثيرات مباشرة وفعّالة على التغيير الجِذري الذي عرفه عالمُنا المعاصر، كذلك اليوم في هذه المجالات برمّتها، وفي سواها من مظاهر ومرافق الحياة. حاول "أوجين ويبر" التعريف بما أسماه: "روح العصر" والإرادة الوطنية في تجديد الإيمان في العِرْق، أو الجِنس، أو العُنصر الفرنسي إزاء الخطر الألماني الدّاهم (رجالاً ونساء)؛ بل إنّ هناك علامات، وأمارات أخرى متعدّدة لبداية تخطّي أو تجاوز كلّ ما لم يكن ممكناً تخطّيه أو تجاوزه من قبل، ومن هنا طفقت تبرز بإلحاح مطالب تحرير المرأة، وإشراكها بشكلٍ فعّال في النهضة الجديدة التي بدأت تعرفها المجتمعات العصرية في مختلف المجالات. تعرّض "أوجين ويبر" للتغيير الهائل الذي عرفته المرأة في خضمّ هذه التطوّرات التي بدأت تطرأ على المجتمع الجديد، إذ كانت القوانين الغربية في ذلك الوقت تعتبر المرأة مخلوقاً ناقصاً، وفي هذه الفترة مثلاً تمّت الموافقة لأوّل مرّة بأن تكون المرأة صالحةً لأداء الشّهادة في المحاكم، وبدأت تظهر بالتالي إرهاصات لبداية تحرّرها وانفتاحها على المجتمع، وفكّ بعض القيود عنها فيه. ولا بدّ أنّ القارئ يعرفُ جيّداً أنّ مجتمعاتٍ أخرى تُنْعَتُ بالمتأخّرة، وغير المتمدينة، لم تضع المرأةَ في هذا الموضع من السّخرية والازدراء !. ويُخبرنا الكاتب أنه في هذه الحقبة أيضاً أمكن للمرأة لأوّل مرّة أن تفتح حساباً مصرفيّاً خاصّاً بها، وأن تحصل على رسائل جامعية عليا مثل الدكتوراه. وفي 1900 فقط سُمِح للمرأة لأوّل مرّة كذلك في فرنسا الالتحاق بكلية الحقوق كباقي زملائها الرجال. ويقول الكاتب إنه مع التغيير الذي طرأ على وضعية المرأة، ومع الاعتبار الجديد الذي أصبح يُمْنَح لها وَقعَ أو طرأ تغيير كبير على "الموضة" (أي طرائق، وأساليب، وتقاليع، ومبتكرات، وتفنّن لبس المرأة، وزينتها، وتطريتها)، حيث أصبح رداء المرأة بسيطاً يخلو من التعقيدات الهجينة، والأنسجة الفضفاضة المبالغ فيها، والبَهْرَجة المتوارثة التي كان يفرضها عليها العصر، وتقيّدها بها التقاليد. وعلى الرّغم من التقدّم الهائل الذي أحرزته المرأة في مختلف المجالات في عصرنا الحاضر، فإنها مازالت - مع ذلك- فينظر البعض تلك "الإلزَا ترِيُولِيه"، مُلهِمة الكاتب الفرنسي المعروف "لويس أراغون"، ذات العيون السّاحرة التي يتوق إليها كلّ شاعر، أو أديب، أو فنّان، أو مبدع ليستلهمَ من سحرها، وحدّة ذكائها، وروع دهائها، ورقّة دلالها، وطلاوة عذوبتها، وتواتر عذاباتها، موضوعاتٍ آسرةً لشِعْره، وفِكْره، وفنِّه، وأدبِه، وإبداعاتِه. ومثلما كانت المرأة – في عُرْفهم - مَصدرَ إلهام ووحيٍ وإبداع لدى الكثيرين، فقد شطّ الخيالُ لدى بعض المفكرين الآخرين بالمقابل في وصفها وصفاً مُجْحِفاً، - حتى وإن كان في مستوى "فردريك نيتشه" - إذ قال عنها ذاتَ مرّةٍ مُستهتراً، هازئاً، مُزدرياً، ظالماً، متجنّياً، متعالياً، ومُبَالِغاً: "إنّها راحةُ الجندي بعد المعركة".. !. بين شوقي وحافظ والمرأة- في عُرف آخرين - مازالت ذلك المخلوق القويّ، الضعيف الذي هو في حاجة دائماً إلى كلمات الإطراء، والإعجاب، والإبهار، وأيضا إلى التصفيق.. والتصفيق الحادّ غير المُنقطع، وقد عِيبَ على أمير الشعراء أحمد شوقي كونه وضع المرأةَ هو الآخر في تلك الخانة الضّيقة التي تظلّ فيها ومعها توّاقةً إلى الثناء، شغوفةً بالانبهار، إذ قال فيها أو عنها: خدعوها بقولهم حَسناءُ ** والغواني يَغرّهنّ الثناءُ.. نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ ** فكلامٌ فمَوْعِدٌ فلقاءُ.. ! ولم يتوانَ شاعر النّيل حافظ إبراهيم هو الآخر ليقدّم بدوره نصحَه، بالمقابل، ووِجهةَ نظره في المرأة، وبشكل خاص في أمّهات، وبنات، وصبايا أرض الكنانة قائلاً : الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها ** أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى ** في الدّورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّها ** في المَوقِفَينِ لَهُنَّ خَيرُ وِثاقِ. ويقول الشاعر المَنبجيّ أبو عبادة البحتري في قصيدته المشهورة "البِرْكَة" : ما بالُ دجلةَ كالغيرَى تُنافسُها ** في الحُسْن طوراً وأحياناً تُباهيها ! فما كان له أن يقول إنّ دجلة تغار، وتنافس، وتُباري "بِرْكَة المتوكّل" في الحُسن والبهاء لولا أنّ صورة المرأة كانت حاضرةً في مخيّلته، وماثلةً نصبَ عينيْه، ذلك أنّ أبا عبادة يعرف جيّداً أنّ المرأة تغار وتخشى، وتترقّب، وتنظر، وتنتظر، وتتلهّف، وتتوق إلى كلمات الإطراء، وتنزع إلى الإغراء، وتميل إلى التحلّي بالجمال، والرقّة، والكمال، وهي في ذلك تسعى لتتفوّق وتبذّ رفيقاتها، وأخواتها، ونظيراتها من بنات جنسها جمالاً، وبهاءً، وذكاءً، ودهاءً، وجاذبيةً، وفِطنة. بين نيتشه وفاغنر وإذا عدنا إلى الفيلسوف فردريك نيتشه لوجدنا أنه كان يقاسمُ مُعاصرَه الموسيقار الشّهير رتتشارد فاغنر حبّ الغادة الإيطالية لُوسَالُومِي ذات الحُسْن الباهر، والجمال الظاهر، فالأوّل كان يمثّل بالنسبة لها الصّرامةَ، والشّهامة، والجديّة (الفلسفة والعقل أو الفكر الخالص)، وكان الثاني يمثل العاطفةَ المتأجّجة، والرقّة والعذوبة، والخيال المُجنّح (الموسيقى والقلب أو العاطفة) وبعد حيرة وقلق وتردّد بين هاذين العبقريين مالَ وازورّ قلبُ الفتاة الحسناء أخيراً إلى ريشارد فاغنر، فأحبّته دون نيتشه، فشَعَر هذا الأخير بغيرة شديدة، وحنق، ونكد، وضنك، ومضض، وألم، وامتعاض، فكان من فرط غيظه وغضبه يصعد إلى غرفة صغيرة منزوية توجد في سطح منزله ويحزّ أصابعَه بسكّين حادّ حتّى تُدْمىَ أناملُه، وبعد ذلك، عندما حاق به اليأس، وأخذ منه الإحباط كلّ مأخذ في الظفر بحبّ وقلب معشوقته لوسالومي، قال معلّقاً على هذا الحدث الذي أثّر في حياته تأثيراً بليغاً قولتَه الشّهيرة التي ما فتئ العشّاقُ، والمُحبّون، والمتيّمون الذين لم يظفروا بقلب معشوقاتهم يردّدونها إلى اليوم.. قال ساخراً، متهكّماً، مُزدرياً، مُنتقصاً من قيمة الموسيقار فَاغْنر: لقد حلّق طائرٌ في سماءِ حبّي، واختطفَ الملاكَ الذي أحببت، ولكنّ عزائي الوحيد أنّ هذا الطائر لم يكن نِسْراً..! وراء كلّ عظيم امرأة ! ويرى كثيرون أنه ما من نجاح، أو فلاح، أو تطوّر، أو تغيّر، أو قفزة، أو طفرة إيجابية في تاريخ البشرية، وفي مسار الناس، والحياة، والبشر إلاّ وكان للمرأة دخل أو يد فيها، ولولا ذلك لما قال "نابليون" قولته الشهيرة في المرأة.. (وراء كلّ عظيم امرأة ).. ! ولما قال هو كذلك في السّياق نفسه: "إنّ التي تهزّ المهدَ بيسارها، تحرّك العالمَ بيمينها" ! ولولا ذلك للمرّة الثالثة، لما قال "باسكال" عن كليوباترة: "لو كان أنفها مستقيماً لتغيّر وجه التاريخ".. ! وحمداً الله لأنّ أنفها من حسن الحظّ كان مُحْدودباً، نوعاً مّا، ولم يكن مستقيماً، ولذلك لم يتغيّر وجهُ التاريخ..!. وبكلّ تأكيد ليس منّا أو فينا من يشكّ أنّ المرأة الفاضلة هي أمّ قبل كلّ شيء..هي أمّ لكلّ الرّجال..هي التي أرضعتْه، ورعتْه، وفطمتْه، وربّتْه، ودللته، حتى شبّ عن الطّوق..وحتى أعطته الطاقةَ، والقدرةَ، والقوّةَ على أن يرفع أصبعَه ويشير إليها قائلا : إنّك امرأة.. ولا أحد يشكّ كذلك أنّ عظمة الرجل إنّما تأتيه عن طريق المرأة، وهي نصفُ الرجل الآخر الذي لا يستغنى عنه أبداً، وهو دائم الحنين إليها، ولا يزال يركض وراءها. ولا أحد يشكّ - للمرّة الثالثة - أنّ المرأة هي التّربة الطيّبة التي تنبت فلذات الأكباد الذين من أجلهم نحيا، ثم هي في الأخير كما يقول الكاتب الإيرلاندي الساخر جورج برنارد شُو، التي تجيدُ صنعَ ذلك الحَساء اللذيذ الذي تقدّمه لنا ممنونةً كلّ مساء لننسى به أتعابَ اليوم، وضنكَه، ونكدَه، وهمومَه..! الجميع يعرف هذا جيّداً، ولكن في الوقت ذاته مع ذلك هناك مَنْ ما فتئ يتطاول، ويتحامل دون رويّة على هذه المرأة وينتقصُ من قدْرها. إلاّ أنّ الحقيقةَ التي لا مراء فيها هي أنّ كل امرأة أيّاً كانت لا شكّ أنّها جديرة، وقمينةٌ، وحَرِيّةٌ، وأهْلٌ بكلّ تقدير واحترام، وإعجاب وإكبار. مباريات جمال السّافرات والمُحجّبات..! بعد المعارك الضارية التي خاضتها المرأة عن جدارة واستحقاق بحثاً عن ذاتها، ونفسها، وعزّتها، وكرامتها، وشخصيتها، ومساواتها، وحقوقها المشروعة، قرّرت منذ زمن غير قريب أن تخرج بهذه المعارك الطاحنة من حيّزها الضيّق إلى مجال أوسع، وفضاء أرحب في مختلف أرجاء المعمور..عندئذٍ خلقت لنفسها أحقاداً، وأعداء ومتوجّسين، ومناهضين لها في كلّ مكان.. واستخفافاً بها، واستهتاراً بأنوثتها، وانتقاصاً من ألمعيتها نصُبوا لها الكمائنَ، وفرشوا لها المكائدَ، فأوجدوا ما يسرّ الأغلبية السّاحقة، ويغضب الأقلية القليلة.. بتنظيم ما يُسمّى بمباريات ملكات جمال العالم !. "ويا للعُجب" فقد أصبحوا ينظمون حتى مسابقة ملكة جمال المُحجّبات، فقد حملت لنا الأخبار في الأيام الأخيرة أنّ المغربية نسرين الكتاني فازت بلقب ملكة جمال المُحجبات العرب 2018 في حفل أقيم في 3 مارس الجاري بمصر. وتنافست 16 فتاة من مختلف البلدان العربية للحصول على لقب الدورة الرّابعة من المسابقة، وهذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها "حسناء" مغربية مُحجّبة في المسابقة، ومن الصّفات التي تعتمدها لجنة التحكيم توفر "الحِشمة والوَقار" (!)، واختيار اللباس التقليدي والعصري الذي ينسجم مع إطلالة المرأة المُحجبة..! وأيُّ خداعٍ يكتنف هذه الكلمة، ذلك أنّه ليس من اليُسْر والسّهولة أن يُعرِّفَ الإنسانُ الجمالَ !، فقد حار في تعريفه حتى كبار الفلاسفة، والمفكّرين، والأدباء على مرّ العصور، وتعاقب الدهور. ونصب هؤلاء المنظّمون على المنصّة شرذمة من السّكارى والصعاليك لتقول: إنّ الجمالَ هو طولُ القِوام، وهيَافةُ الخَصْر، وبروزُ النّهدين، وتناسقُ الأرداف، ورشاقةُ السّيقان، ولمعانُ الشّعر وانسداله وانسيابه.. !، والتعرّف على عواصمفرنسا، وبريطانيا، واليابان..! ومعايير "الحِشمة والوقار" عند المُحجّبات ! بالإضافة إلى مقاييس، أخرى لا تمتّ بصلة إلى مكانة المرأة الحقيقية، وقيمتها، وجوهرها، وكنهها، ومنزلتها، ودورها الريّادي، ومهمّتها الأساسية الشّريفة التي لا محيد لنا أبداً عنها في تكوين الأسرة، والإسهام في بناء المجتمع حيث تعتبر المرأة نصفه، في تربية النشء، واستمرارية الحياة. والفائزة منهنّ في تلك المسابقات المخزية تُتَوَّجُ بتاج من الذّهب الخالص الإبريز المرصّع بالماس والزمرّد، ويوشّح صدرُها بقلادة غالباً ما تكون مطرّزة بالماس أيضاً..وعلاوةً عمّا تقدّم يوهب لها مبلغ كبير من المال نظير جمالها.. !، ناهيك عن الشّهرة الواسعة التي تنتظر الفائزة المحظوظة من إبرام لعقود الدّعاية والماركيتنغ والإشهار، ولو كانت ذات حظ أوفر، ونصيب أكبر لاقتيدت إلى أستوديوهات هوليود، أو بوليود، أو إلى مختلف مدن صُنْع الفنّ السابع لِتَمْثُلَ وتُمَثِّل أمام مشاهير الممثلين العالميين أمثال جورج كلوني، أو شارُوخان أو سواهما !!. الأسود لا يليق بك مع ذلك مازلنا نقرأ هنا وهناك بعض الترّهّات والخُزعبلات حول المرأة من كلّ نوع، فما بالك بالقائل - حتى وإن كان كلامُه مردوداً عليه -: "المرأة أصناف، ونماذج، إنها في حيرة من أمرها، فالتي ترتدي الميني متصابيّة، والتي ترتدي الماكسي مُعقّدة، والتي ترتدي الميدي مُعتدلة، والتي ترتدي البنطلون مُسترجلة، والتي ترتدي الشورتْ امرأة لعوب، والتي ترتدي الجلبابَ محتشمة"، والتي ترتدي النقابَ أو الحِجابَ إرهابيّة..! ناهيك عن بعض التقاليع الدخيلة التي انتشرت مؤخراً بيننا انتشار النّار في الهشيم، بدلاً من الألبسة التقليدية المتوارثة الجميلة التي كانت موجودة، ومُستعملةً، ومنتشرة بيننا، ممّا عرفناه، وألفناه من خِمَارٍ شفيفٍ أسودِ، أو لثامٍ خفيفٍ زبرجدِ، وجلباب فضفاض، وحايك مُحتشم، وأردية مزركشة، وأغطية ملوّنة حسب البلدان، والأوطان، والمناطق، والجهات، والضّواحي، والأرباض، والتي تتعدّد وتجدّد على امتداد السنة، وتغيُّرات، وتقلّبات الطقس، وتبدّل المواسم والفصول. إلاّ أننا نعود بعد كل ذلك وذاك لنذكّر في ختام هذه العُجالة بقول الشاعر القديم : "إِذا المَرءُ لَم يدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ/ فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ. وليس أقبح ولا أسوأ لدى المرأة أن تتجرّأ وتقول لها هذا الرداء أو ذاك اللباس، أو ذاك اللّون يليق، أو لا يليق بها أو عليها، كما أنّك لا تستطيع أن تنتقص حبّة خردل من جمالها، أو هندامها، أو منظرها، أو هيئتها، أو مظهرها..! *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا