يرى البعض أنّ المرأة ما زالت تلك " الإلزا" التي يتوق إليها كلّ شاعر، أو أديب، أو فنّان،أو مبدع ليستلهمَ من سحر عيونها،وذكائها، ودهائها،ودلالها،ورقّتها، وعذوبتها، وعذابها، موضوعات آسرةً لشِعْره ، وفِكْره،وفنِّه، وأدبِه،وإبداعاتِه، ومثلما كانت المرأة – فى عُرْفهم - مصدرَ وحي وإلهام لدى الكثيرين، فقد شطّ الخيالُ ببعضهم بالمقابل فى وصفها وصفاً مُجْحِفاً، – حتى وإن كان فى مستوى " فردريك نيتشه " – حيث قال عنها مُستهتراً ،هازئاً،مُزدرياً، ظالماً ، متجنّياً ،ومُبَالِغاً :" إنّها راحةُ الجندي بعد المعركة".. ! ما زالت – فى عرف آخرين - ذلك المخلوق القويّ- الضعيف الذي هو فى حاجة إلى كلمات الإطراء، والإعجاب، وأيضا إلى التصفيق .. والتصفيق الحادّ غير المُنقطع ،،وقد عيب على أمير الشعراء أحمد شوقي كونه وضع المرأةَ هو الآخر فى تلك الخانة الضّيقة التي تظل فيها ومعها توّاقةً إلى الثناء،شغوفةً بالإنبهار،ألم يقل فيها : خدعوها بقولهم حسناء.ُ...والغواني يغرّهنّ الثناءُ... نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ.....فكلامٌ فمَوْعِدٌ فلقاءُ.. ! ولم يتوانَ شاعر النّيل حافظ إبراهيم هو الآخر ليقدّم بدوره نصحَه ، بالمقابل ،وِجهةَ نظره فى المرأة، وبشكل خاص فى أمّهات، وبنات،وصبايا أرض الكنانة قائلاً : الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها...أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا...بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّمَا إيراقِ لَيسَت نِساؤُكُمُ حُلىً وَجَواهِراً...خَوفَ الضَياعِ تُصانُ في الأَحقاقِ لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى...في الدّورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ تَتَشَكَّلُ الأَزمانُ في أَدوارِها...دُوَلاً وَهُنَّ عَلى الجُمودِ بَواقي رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّها...في المَوقِفَينِ لَهُنَّ خَيرُ وِثاقِ. ويقول أبو عبادة البحتري في قصيدته المشهورة "البِرْكَة" : ما بالُ دجلةَ كالغيرَى تُنافسُها......فى الحُسْن طوراً وأحياناً تُباهيها . فما كان له أن يقول أنّ دجلة تغار، وتنافس،وتُباري " بحيرةَ المتوكّل" فى الحسن والبهاء، لولا أنّ صورة المرأة كانت حاضرةً فى مخيّلته، وماثلةً نصبَ عينيه ،ذلك أنّ أبا عبادة يعرف جيّداً أنّ المرأة تغار وتخشى، وتترقّب ، وتنظر، وتنتظر، وتتلهّف،وتتوق إلى كلمات الإطراء ، وتنزع إلى الإغراء،وتميل إلى التحلّي بالجمال، والرقّة، والكمال ، وهي فى ذلك تسعى لتتفوّق وتبذّ رفيقاتها، وأخواتها، ونظيراتها من بنات جنسها جمالاً، وبهاءً، وذكاءً، ودهاءً، وجاذبيةً، وفِطنة. ونعود إلى الفيلسوف فردريك نيتشة الذي كان يقاسمُ الموسيقار الشهير رتتشارد فاغنر حبّ الغادة الإيطالية لُوسَالُومِي ذات الحُسْن الباهر، والجمال الظاهر،والهيدب الزّاهر، فالأوّل كان يمثّل بالنسبة لها الصّرامةَ، والجديّة والفكر الخالص ، (الفلسفة والعقل أو الفكر ) وكان الثاني يمثل العاطفةَ المتأجّجة ، والرقّة والعذوبة ،والخيال المجنّح ،( الموسيقى والقلب أو العاطفة) وبعد حيرة وقلق وتردّد بين هاذين العبقريين مالَ، وإزورّ قلبُ الفتاة الحسناء أخيرا إلى ريشارد فاغنر فأحبّته دون نيتشة، فشعر هذا الأخير بغيرة شديدة، وحنق، ونكد، وضنك،ومضض، وألم، وإمتعاض ،فكان من فرط غيظه وغضبه يصعد إلى غرفة صغيرة منزوية توجد فى سطح منزله ويحزّ أصابعَه بسكّين حادّ حتّى تُدْمىَ أناملُه ، وبعد ذلك، عندما حاق به اليأس،وأخذ منه الإحباط كلّ مأخذ فى الظفر بحبّ وقلب معشوقته لوسالومي، قال معلّقاً على هذا الحدث الذي أثّر فى حياته تأثيراً بليغاً قولتَه الشهيرة التي ما فتئ العشّاقُ،والمُحبّون، والمتيّمون الذين لم يظفروا بقلب معشوقاتهم يردّدونها إلى اليوم ، قال ساخراً ،متهكّماً ،مُزدرياً، مُنتقصاً من قيمة الموسيقار فَاغْنر : لقد حلّق طائرٌ فى سماءِ حبّي ، وإختطفَ الملاكَ الذي أحببت ، ولكنّ عزائي أنّ هذا الطائر لم يكن نسراً..... ! كما يرى البعضُ الآخر أنه ما من نجاح، أو فلاح، أو تطوّر،أو تغيّر، أو قفزة، أوطفرة إيجابية فى تاريخ البشرية، وفى مسار الناس،والحياة، إلاّ وكان للمرأة دخل أو يد فيها،ولولا ذلك لما قال "نابليون" قولته الشهيرة فى المرأة.. (وراء كلّ عظيم إمرأة ).. ! ولما قال أيضاً فى نفس السّياق : (إنّ التي تهزّ المهدَ بيسارها، تحرّك العالمَ بيمينها ).. ! ولولا ذلك للمرّة الثالثة ، لما قال" باسكال" عن كليوباطرة أنّه ( لو كان أنفها مستقيماً لتغيّر وجه التاريخ ).. ! وحمداً الله لأنّ أنفها من حسن الحظّ كان مُحْدودباً، نوعاً مّا، ولم يكن مستقيماً..!. وبكلّ تأكيد ليس منّا أو فينا من يشكّ أنّ المرأة الفاضلة هي أمّ قبل كلّ شئ .هي أمّ لكلّ الرّجال، وأمّ لكلّ رجل..هي التي أرضعتْه، ورعتْه،وفطمتْه، وربّتْه، ودللته، حتى شبّ عن الطّوق..وحتى أعطته الطاقةَ، والقدرةَ،والقوّةَ على أن يرفع أصبعَه ويشير إليها قائلا : إنّك إمرأة.. ولا أحد يشكّ كذلك أنّ عظمة الرجل إنّما تأتيه عن طريق المرأة ..وهي نصفُ الرجل الآخر الذي لا يستغنى عنه أبداً، وهو دائم الحنين إليها.. ولا يزال يركض وراءها ، ولا أحد يشكّ - للمرّة الثالثة - أنّ المرأة هي التّربة الطيّبة التي تنبت فلذات الأكباد الذين من أجلهم نحيا...ثم هي فى الأخير كما يقول برنارد شو التي تجيدُ صنعَ ذلك الحساء اللذيذ الذي تقدّمه لنا مشكورةً، وممنونةً كلّ مساء لننسى به أتعابَ اليوم ، وضنكَه، ونكدَه، وهمومَه... الجميع يعرف هذا جيّداً ولكنه فى الوقت ذاته مع ذلك ما فتئ يتطاول، ويتحامل دون رويّة على هذه المرأة وينتقصُ من قدْرها، إلاّ أنّ الحقيقةَ التي لا مراء فيها هي أنّ كل إمرأة أيّا كانت، لا شكّ أنّها جديرة،وقمينةٌ ،وحريّةٌ، وأهلٌ بكلّ تقدير وإحترام، وإعجاب وإكبار. وبعد المعارك الضارية التي خاضتها المرأة عن جدارة، وإستحقاق بحثا عن ذاتها، ونفسها،وعزّتها، وكرامتها، وشخصيتها ،ومساواتها،وحقوقها المشروعة ، قرّرت منذ زمن غير قريب أن تخرج بهذه المعارك الطاحنة من حيّزها الضيّق إلى مجال أوسع، وفضاء أرحب فى مختلف أرجاء المعمور ..عندئذ خلقت لنفسها أحقادا، وأعداء ومتوجّسين،ومناهضين لها فى كلّ مكان.وإستخفافا بها ، وإستهتارا بأنوثتها ، وإنتقاصا من ألمعيتها نصبوا لها الكمائنَ،وفرشوا لها المكائدَ، فأوجدوا ما يسرّ الأغلبية السّاحقة ، ويغضب الأقلية القليلة.. بتنظيم ما يسمّى بمباريات ملكات جمال العالم ! ! . وأيّ خداع يكتنف هذه الكلمة ، ذلك أنّه ليس من اليُسْر والسّهولة أن يُعرّف (بتشديد الرّاء) الإنسانُ الجمالَ !،فقد حار فى تعريفه حتى كبار الفلاسفة، والمفكّرين، والأدباءعلى مرّ العصور، وتعاقب الدهور. ونصب هؤلاء المنظمون على المنصّة شرذمة من السّكارى والصعاليك لتقول: إنّ الجمال هو طول القوام، وهيافة الخصر، وبروز النّهدين، وتناسق الأرداف، ورشاقة السّيقان،ولمعان الشّعر وإنسداله وإنسيابه.. ! ،والتعرّف على عواصمفرنسا...وبريطانيا، واليابان... ! بالإضافة إلى مقاييس، ومعايير أخرى لا تمتّ بصلة إلى مكانة المرأة الحقيقية ، وقيمتها، وجوهرها،وكنهها،ومنزلتها، ودورها الريّادي،ومهمّتها الأساسية الشريفة التي لا محيد لنا أبدا عنها فى تكوين الأسرة ، والإسهام فى بناء المجتمع التي هي نصفه، وتربية النشء، وإستمرارية الحياة . والفائزة منهنّ فى تلك المسابقات المخزية تُتَوَّجُ بتاج من الذهب الخالص الإبريز المرصّع بالماس والزمرّد،ويوشّح صدرُها بقلادةغالبا ما تكون مطرّزة بالماس أيضا.وعلاوةً عمّا تقدّم يوهب لها مبلغ كبير من المال نظير جمالها.. ! !، ناهيك عن الشّهرة الواسعة التي تنتظر الفائزة المحظوظة من إبرام لعقود الدّعاية والماركيتنغ والإشهار، ولو كانت ذات حظ أوفر، ونصيب أكبر لأقتيدت إلى إوستوديوهات هوليود، أو بوليود ،أو عندنا فى مدينة صُنْع الفنّ السابع بورزازات لِتَمْثُلَ وتُمَثِّل أمام مشاهير النجوم ،والممثلين العالميين من أمثال جورج كلوني، أو شاروخان !!. إنك ترى معي ولا شك أنّ الأمور مازالت بخير حتى الآن ولكن...دعْني أخبرُك أنّه حدث تغيير جذري عمّا كان عليه الأمر من قبل بالنسبة لهذه المباريات، فقد حدث ذات مرّة أن جرت مباراة عالمية من هذا القبيل فى العاصمة البريطانية بإحدى المسارح الكبرى فى مدينة الضباب، غير أنّ الأمورَ لم تَجْرِ فى مجاريها الطبيعية،إذ تخلّلت هذه المباراة ، هذه المرّة وفى مرّات أخرى كثيرة،مفاجآت لم تكن فى الحُسبان،مفاجآت مثيرة وغريبة فى آن واحد،قد يكون من الطريف أن تعرف بعضها ، الشئ الأوّل فى هذه المباغتات هو أنّ "إحدى جمعيات تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها " فى بريطانيا – وما أكثرها- عارضت معارضة شديدة الإستمرار فى إجراء مثل هذه المهازل السخيفة، وتنظيم أشباه هذه التظاهرات المخزية التي تنتقص من قيمة المرأة، وتجعل منها بضاعةً أو سلعةً تُباع وتُشترى ، والتي تحطّ من قدرها أكثر ممّا ترفع منه ! وتعبيراً من هذه الجمعيات عن مدى إستيائها،وحنقها، وغضبها ،ومقاطعتها ،وعدم رضاها عن هذه السّخافات وضعت عبوات متفجّرة عند مدخل المسرح الذي تقام فيه هذه المباريات، وإنفجرت بالفعل هذه العبوات الناسفة محدثة دويّاً هائلاً، وخلقت حالات من الرّعب،والذّعر، والهلع فى قلوب الناس إصطكّت،معها أسنان المتباريات، وإرتعشت لها فرائصُهنّ، وسيقانهنّ البضّة، ، وإرتفعت أصوات مجلجلة داخل القاعة الكبرى التي شهدت المباراة بعد أن تسلّلت عدّة فتيات من ذات الجمعيات خلسةً،وإندسّت خفية بين الجموع الغفيرة محدثات صخباً، ولجباً، ودأباً ،وضوضاءً، وصراخاً ، وصيّاحاً، وإحتجاجاً،وإهتياجاً على إقامة أمثال هذه الأضحوكات ! !، وكانت من بين لافتات الإحتجاج التي حملتها ورفعتها النّساء عند باب المسرح وبداخله تقول: " لابدّ لهذه المباريات أن تنتهي قريبا..أجساد النساء إستُخدمتْ من طرف الرّجال لبيع بضائعهم من الجوارب إلى المشدّات ، فكلّ السّلع الإستهلاكية، لقد أهانوا كرامتنا، وحطّوا من قدرنا.." ووُزّعت مناشير بنفس تعابير الإحتجاج والتذمّر والسّخط ، ثمّ إنّ عناصر مجهولة إندسّت بين الناس، ورمت بقوارير ذات روائح كريهة حتى تثير الإشمئزاز فى نفوس الحاضرين، والحاضرات الشئ الذي إضطرّهم (نّ) إلى الإنسحاب مُهرولين، مُهرولات، مَخذولين.. ومَخذولات بعد تدخل البوليس نفسه.. ! وتساءلت الصّحافة،وإستفسرت وسائل الإعلام فى اليوم التالي لهذه الحوادث عن مدى جديّة، ومصداقية،وجدوى هذه التحرّكات، والإحتجاجات المعارضة والمناوئة لمثل هذه التظاهرات ..وهل هي تمّت بالفعل تحت واعز الدّفاع عن المرأة، وصوْن كرامتها..؟ أم هي كانت بدافع الغيرة والحقد،والحسد، وتحجّج هؤلاء، وأولئك المعلقون والمعلّقات أنّ المرأة هي فى عراك مع نفسها، ومع بنات جنسها ،ومع الرجال أيضا الذين غالبا ما يكونون وراء تنظيم هذه التفاهات،والإسفافات لإهانتها. مع ذلك مازلنا نقرأ هنا وهناك بعض الترّهّات،والخُزعبلات حول المرأة من كلّ نوع ...فما بالك بالقائل - حتى وإن كان كلامه مردوداً عليه - ..عندما يقول:" المرأة أصناف، ونماذج،وهي فى حيرة من أمرها..فالتي ترتدي الميني متصابيّة، والتي ترتدي الماكسي معقّدة ، والتي ترتدي الميدي معتدلة ، والتي ترتدي البنطلون مسترجلة ، والتي ترتدي الشورتْ إمرأة لعوب، والتي ترتدي الجلبابَ محتشمة "، ناهيك عن بعض التقاليع الدخيلة التي إنتشرت مؤخراً بيننا إنتشار النّار فى الهشيم ، بدلاً من الألبسة التقليدية المتوارثة الجميلة التي كانت موجودة ،ومُستعملةً عندنا ، ومنتشرة بيننا،ممّاعرفناه، وألفناه من خِمَار شفيف، ولثام خفيف، وجلباب فضفاض، وحايك محتشم، وأردية مزركشة ، وأغطية ملوّنة حسب البلدان، والأوطان، والمناطق، والجهات ،والضّواحي، والأرباض، والتي تتعدّد وتجدّد على إمتداد السنة، وتغيّرات، وتقلّبات الطقس،وتبدّل المواسم والفصول،إلاّ أننا نعود بعد كل ذلك لنذكّر فى ختام هذه العُجالة بقول الشاعر القديم : إِذا المَرءُ لَم يدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ... فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ . *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- كولومبيا.