كل دولة من الدول إلا وتجتر خلفها تاريخا تتقاطع فيه النجاحات والإخفاقات والخطوات الجريئة بالتعثرات والكبوات، وبين هذا وذاك تطفو اللحظات المشرقة والمجيدة، خاصة تلك التي ترتبط بالوطن وتعبر عن روح الهوية وأحاسيس الانتماء؛ ففي حياة الناس ذكريات لا تنسى ومواقف بطولية تستحق التسجيل والتأمل واستخلاص العبر. والمغرب، كغيره من الأوطان، ينفرد تاريخه الطويل بالعديد من الأحداث والوقائع المشرقة التي لا تزال ترصع بنيان الذاكرة وتصون صرح الهوية. وفي هذا الصدد، فقد عاش المغرب المعاصر والراهن عددا من الأحداث البارزة التي ارتقت إلى مستوى الأعياد الوطنية التي يحتفي بها المغاربة كل سنة ليس فقط من أجل استحضار ما قام به الأسلاف من تضحيات جسام، سواء على مستوى بناء الوطن أو على مستوى الدفاع عن حوزته، بل أيضا لما تحمل هذه الأحداث من رمزية متعددة المستويات. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر، أن نسوق الأعياد التي تؤرخ لحقبة الاستعمار بدء بحدث 11 يناير 1944 (تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال)، وحدث "ثورة الملك والشعب" (20 غشت 1953)، وحدث "الاستقلال" (1956م)، بالإضافة إلى الأعياد الوطنية التي تؤرخ لحقبة ما بعد الاستقلال، وفي طليعتها حدث "المسيرة الخضراء" (6 نونبر 1975م). وهذه الأعياد المجيدة لها مكانتها في قلوب المغاربة لما تحمله من دروس وعبر. وفي ظل احتفالات الشعب المغربي بذكرى "11 يناير"، سنتوقف عند هذه الذكرى التي تعد حلقة من حلقات كفاح خاضه العرش والشعب في سبيل مكافحة الاستعمار وتحقيق الاستقلال واستكمال مسلسل الوحدة الترابية، سنركز أولا على سياق الحدث الذي لا يمكن فهمه دون مقاربة الظروف السابقة التي أفرزته، ثم سنلقي الضوء في مرحلة ثانية على الحدث في حد ذاته من حيث التعريف به واستقراء أهم النقط التي وردت في بيان عريضة المطالبة بالاستقلال، على أن نختم بإبراز أهمية الحدث وما يحمله من دروس وعبر. أولا: عريضة 11 يناير 1944م. السياق التاريخي: لا بد من الإشارة ابتداء إلى أن حدث 11 يناير 1944م أحاطت به ظروف داخلية معقدة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي دولي، والظرفان معا ساهما في بلورة الوثيقة والإقدام على صياغتها وتوزيعها على الجهات المسؤولة. وفي هذا الصدد، يمكن الانطلاق من حدث خضوع المغرب لنظام الحماية (1912م) حيث تقاسمته كل من فرنسا (في الوسط) وإسبانيا (في الشمال والصحراء)، فيما احتفظت "طنجة" بوضع المنطقة الدولية. وقد برز رد فعل المغاربة مبكرا من خلال اندلاع شرارات المقاومة العسكرية التي عمت كل المناطق، وبرز خلالها زعماء كبار (أمثال أحمد الهيبة، مربيه ربه، موحى أوحمو الزياني، عسو أوبسلام، محمد بن عبد الكريم الخطابي...) أحرجوا المستعمر في عدد من المعارك رغم محدودية الوسائل وضعف التنسيق والتواصل، لكن وبما أن العبرة بالخواتم، فقد تم القضاء على هذه المقاومة من طرف جيش الاحتلال الذي سخر كل ما لديه من وسائل لكسر شوكتها. ومع مطلع سنة 1934م استكملت فرنسا سيطرتها على التراب المغربي بعد أن استسلم معظم الزعماء، لتشرع في استغلال البلاد اقتصاديا واجتماعيا وإداريا. ستعرف المقاومة المغربية أول منعطف لها، ويتعلق الأمر ببروز معالم حركة وطنية بالمدن تبنت الخيار السياسي كآلية سلمية لمواجهة سلطات الاحتلال الفرنسي والإسباني، حركة وطنية برزت في ظرفية حرجة أبانت من خلالها فرنسا عن حقيقة مخططاتها الاستعمارية من خلال إصدارها لما يعرف ب"الظهير البريري" (16 ماي 1930م) الذي توخت عبره عزل الأمازيغيين عن العرب بإخضاع كل طرف منهما لقوانين خاصة تكريسا لمبدأ "فرق تسد". ومن حسنات هذا الظهير أنه أسهم في توحيد صفوف الحركة الوطنية الناشئة، وعكس انسجاما في مواقف المغاربة (عربا وأمازيغ) تجسد على أرض الواقع في موجات الاحتجاجات الواسعة التي عمت كل المدن المغربية كتعابير عفوية وتلقائية دلت على أن الجماهير المغربية متشبثة بوحدة الوطن وسيادة الشرع وسلط الملك. لكن أهم متغير في تلك الفترة خصوصا، والحياة السياسية المغربية عموما، كان هو تشكل أول حزب سياسي مغربي من طرف قادة الحركة الوطنية (علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني ومحمد بلافريج)، ويتعلق الأمر ب"كتلة العمل الوطني" (1933)، التي نددت بالاستغلال الاستعماري مسخرة في ذلك عدة وسائل وأساليب سلمية من قبيل تأسيس الجرائد والمجلات والمدارس الحرة ومقاطعة مختلف السلع والبضائع الأجنبية، فضلا عن الاحتفال بعيد العرش باعتباره رمزا للوحدة الوطنية. وفي ظل هذا الحراك السياسي، تم تقديم "برنامج الإصلاحات" (1934م) إلى السلطان محمد بن يوسف والإقامة العامة بالرباط وإلى الحكومة الفرنسية، تميز بلهجته المعتدلة؛ حيث لم يعترض على نظام الحماية، وطالب الحكومة الفرنسية باحترام روح ومنطوق معاهدة فاس. وعلى غرار المنطقة الفرنسية، فقد شهدت المنطقة الخليفية (الخاضعة لإسبانيا) هي الأخرى مطالب إصلاحية تقدم بها الوطنيون في هذه المنطقة إلى سلطات الاحتلال الإسباني، لم تنص بدورها على المطالبة بالاستقلال، بل اكتفت بمطالب إصلاحية سياسيا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا. وفي ظل تجاهل سلطات الحماية لهذه المطالب الاصلاحية، واصلت الحركة الوطنية نضالها واشتدت المواجهات والاحتجاجات على سياسة الاستغلال الاستعماري (السطو على الأراضي الزراعية التي يملكها الفلاحون المغاربة، تحويل مياه واد بوفكران لتسخيرها في سقي أراضي المعمرين الفرنسيين...). وقد واجهت الإقامة العامة هذه الأوضاع المضطربة بالقمع وتضييق الخناق على قادة الحركة الوطنية (نفي، فرض الإقامة الجبرية...)، لكن المتغير الذي سوف يطبع الحياة السياسية لاحقا، هو انشقاق صفوف الحركة الوطنية سنة 1937م في وقت كانت فيه الظروف تفرض المزيد من الوحدة والتكتل وطرح الخلافات جانبا، ترتب عنه (في المنطقة الفرنسية) تأسيس حزب "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب" (بزعامة علال الفاسي) وحزب ''الحركة القومية" (بزعامة محمد الحسن الوزاني). الانشقاق نفسه حصل في المنطقة الخليفية (الإسبانية)؛ حيث تأسس حزب "الإصلاح الوطني" (بزعامة عبد الخالق الطريس) وحزب "الوحدة المغربية" (بزعامة المكي الناصري). لكن إذا كان عمل الحركة الوطنية لم يبارح خلال فترة الثلاثينات حدود المطالبة بالإصلاحات، فقد بدا واضحا أن رؤية الوصول إلى الاستقلال عن طريق الإصلاحات كانت رؤية غير صائبة ولا يمكن أن تحقق أية أهداف حقيقية على أرض الواقع في ظل سياسة استعمارية جمعت في آن واحد بين يديها سلطة الاستغلال المكثف للخيرات وسلطة التضييق والقمع والقتل؛ لذلك كان من المنطقي ومن أجل الإصلاح، لا بد من الاستقلال. في هذا الصدد، سوف تعرف الحركة الوطنية تطورات خلال فترة الأربعينات من سماتها البارزة تجاوز رؤية المطالبة بالإصلاح وتبني نهج "المطالبة بالاستقلال"، وهذا التحول الجذري استفاد من الظروف الخارجية الدولية المرتبطة أساسا بمجريات الحرب العالمية الثانية التي انخرطت فيها الدول الإمبريالية، ومنها احتلال الدولة المستعمرة (فرنسا) من قبل القوات النازية وصدور "ميثاق الأطلسي" (1941م)، ولقاء أنفا بالدار البيضاء (1943م ) الذي أبدى فيه الرئيس الأمريكي (روزفيلت) تفهمه وعطفه ببذل الجهد لتحقيق الأماني المغربية في الاستقلال بعد نهاية الحرب، بالإضافة إلى تعزز الحركة الوطنية بظهور أحزاب سياسية جديدة (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي...)، وإقبال العمال المغاربة على العمل النقابي، فضلا عن النجاحات التي حققتها الحركات الاستقلالية بالمشرق العربي والتي مهدت للاستقلال وشكلت بذلك دافعا محفزا لزعماء الحركة الوطنية. إذن، في ظل هذا السياق التاريخي العام الذي تقاطعت فيه تطورات الوضع الداخلي بالمتغير الدولي، أصدرت الحركة الوطنية "عريضة المطالبة بالاستقلال" في 11 يناير 1944م التي أكدت بوضوح وبشكل مباشر على "مطلب الاستقلال"، بعد أن اكتفت في مرحلة سابقة بالمطالبة بالإصلاح في ظل الحماية. وكما كان متوقعا، فقد واجهت سلطات الاستعمار المطلب المغربي بأساليب عنيفة تجسدت في شن جملة من الاعتقالات التي طالت عددا من الموقعين، واقترفت عددا من الإعدامات ذهب ضحيتها آلاف من المغاربة، وبدا واضحا أنها فقدت البوصلة بنفي الملك محمد بن يوسف وتنصيب بن عرفة مكانه في محاولة منها تغيير الوضع السياسي القائم، لكن المغاربة واجهوا التضحية بالتضحية والوفاء بالوفاء، وأشعلوا فتيل ثورة الملك والشعب (20 غشت 1953م)، واعتمدوا على العمليات الفدائية لاستهداف المصالح الاستعمارية. وأمام ذلك، لم تجد فرنسا بدا من تغيير نهجها والسماح بعودة الملك من المنفى، لتدخل في مفاوضات الاستقلال، ويتم توقيع معاهدة إنهاء الحماية الفرنسية ثم الإسبانية. وهذا التلاحم المتين بين الملك والشعب جسد قيم الوفاء والتضحية والصمود بين ملك مجاهد وشعب مكافح. مضمون عريضة المطالبة بالاستقلال والموقعون عليها: مضمون الوثيقة: عبارة عن عريضة تقدم بها حزب الاستقلال الذي ضم أعضاء من الحزب الوطني السابق وشخصيات حرة بتاريخ 11 يناير 1944م، أي جاءت بعد مضي 32 سنة من توقيع الحماية، مما يفرض مساءلة المرحلة السابقة لتقديم هذه العريضة. وفي هذا الصدد، يمكن إبداء الملاحظات التالية: -غياب مقولة المطالبة بالاستقلال قبل 11 يناير 1944م. -أخذ الحركة الوطنية بنهج المطالبة بالإصلاحات (فترة الثلاثينات) في ظل نظام الحماية. -عدم إيلاء المقاومة العسكرية التي اندلعت شراراتها رسميا عقب توقيع عقد الحماية إلى حدود مطلع سنة 1934م ما يكفي من الاعتبار والاهتمام، لأن هذه المقاومة العسكرية التي تحدت المستعر بوسائلها المحدودة، كانت بحق تعبيرا واضحا عن رفض الاستعمار والدفاع عن استقلال المغرب والذود عن وحدة أراضيه، بشكل يعكس ذلك الشعور الفطري لدى المغاربة باستقلالهم الذي يستمدونه من البعد التاريخي لكفاحهم لكل تدخل أجنبي طرأ على بلادهم في السابق. وعلى ضوء هذه الملاحظات، لا يمكن حصر "مقولة الاستقلال" في حدث 11 يناير 1944م، بل هي مقولة تجد سندا في كل الأشكال النضالية السابقة، بما فيها المقاومة العسكرية، وحصر "فكرة الاستقلال" في حدث 11 يناير يعد تحجيما لمرحلة المقاومة العسكرية وتقليلا للأدوار البطولية التي قادها مقاومون لم يكن أمامهم سوى سلاح فتاك اسمه "حب الوطن". مهما يكن من جدال، لا بد من الإشارة إلى أن المغاربة قاوموا المستعمر بشتى السبل الممكنة والوسائل المتاحة، وفق خيارات تكيفت مع الأوضاع القائمة، ابتدأت بالاعتماد على الخيار العسكري الذي لم يحقق الأهداف المرجوة، ليتم الانتقال إلى الخيار السلمي الذي تبنى "سياسة المطالب" في مرحلة أولى (فترة الثلاثينات)، قبل أن ينتقل إلى "سياسة المطالبة بالاستقلال" في مرحلة ثانية (فترة الأربعينات) استغلالا للمتغيرات الدولية المرتبطة أساسا بتطورات الحرب العالمية الثانية. وبالرجوع إلى وثيقة المطالبة بالاستقلال، فقد تقدم بها -كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا-حزب الاستقلال الذي ضم أعضاء من الحزب الوطني السابق وشخصيات حرة بتاريخ 11 يناير 1944م، وباستقراء مضمونها، يلاحظ أن الموقعين وعددهم ستة وستين، مهدوا لمطلب "الاستقلال" بجملة من الدفوعات أو الحيثيات يمكن إبراز خطوطها العريضة على النحو التالي: -إشارتهم إلى أن الدولة المغربية تمتعت بحريتها وسيادتها وحافظت على استقلالها طيلة ثلاثة عشر قرنا الى أن فرض عليها نظام الحماية في ظروف خاصة. - توضيحهم أن الغاية من هذا النظام ومبرر وجوده كان هو إدخال الإصلاحات التي يحتاجها المغرب في ميادين الإدارة والعدلية والثقافة والاقتصاد والمالية والعسكرية دون أن يمس بسيادة الشعب المغربي التاريخية ونفوذ جلالة الملك. -تأكيدهم أن سلطات الحماية بدلت هذا النظام بنظام مبني على الحكم المباشر والاستبداد لفائدة الجالية الفرنسية والموظفين الفرنسيين. -إشارتهم إلى أن الجالية الفرنسية استحوذت على مقاليد الحكم واحتكرت خيرات البلاد دون أهلها، وأن نظام الحماية حاول تحطيم الوحدة المغربية بكل الوسائل ومنع المغاربة من المشاركة الفعلية في تسير شؤون بلادهم ومنعهم من الحريات الخاصة والعامة. - إبرازهم أن طبيعة الظروف التي يجتازها العالم غير الظروف التي أسست فيها الحماية، من قبيل مشاركة المغرب الفعالة في الحروب العالمية بجانب الحلفاء، واعتراف هؤلاء في وثيقة الأطلسي بحق الشعوب في حكم نفسها بنفسها... إلخ. عقب هذه الحيثيات التي غلب عليها الجانب التبريري لمطلب الاستقلال، استعرض الموقعون مطالبهم الأربعة الكبرى، منها ما يرتبط بالسياسة العامة ومنها ما يرجع للسياسة الداخلية، وهي على النحو التالي: 1) المطالبة باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل ملك البلاد محمد بن يوسف (محمد الخامس). 2) الالتماس من جلالة الملك التدخل لدى الدول التي يهمها الأمر، الاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه. 3) أن يطلب انضمام المغرب للدول الموافقة على ميثاق الأطلسي والمشاركة في مؤتمر الصلح. 4) الالتماس من جلالة الملك أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي يتوقف عليها المغرب. - الموقعون: وقع على عريضة المطالبة بالاستقلال عدد من الموقعين يختلفون من حيث الأنساب والأعمار، فمن الناحية "الجينيالوجية" أمضت على الوثيقة عناصر تنتمي إلى الأندلسيين والمورسكيين (أحمد بلافريج، عثمان جوريو...)، وإلى العنصر العربي (محمد بن سودة، عبد الوهاب الفهري، عبد القادر حسن العاصمي...)، وإلى العنصر الأمازيغي (عبد الله بن محمد الركراكي، عمرو بناصر، عبد المجيد الزموري...)، وإلى العنصر الشريف (أحمد بن عثمان بن دلة الادريسي، محمد بن العربي العلمي، محمد البقالي، عبد الهادي الصقلي، أبوبكر القادري...)، وإلى العنصر الفاسي القديم والقح (أحمد بن الطاهر المنجرة، عبد الكريم بن جلون، التويلي، عبد الجليل القباج...)، وإلى العنصر السلاوي الأصيل (عبد الرحيم بو عبيد، الطاهر زنيبر، قاسم الزهيري...)، وإلى العنصر الجبلي الذي استوطن بالمدن (محمد الأغزاوي، عبد السلام المستاري...). ومن الناحية العمرية، يلاحظ تفاوت أعمار الموقعين، وقد كان أصغرهم هو "عبد الله الرحماني" (عمره آنذاك 21 سنة) وأكبرهم سنا هو الحاج "محمد الرفاعي" (عمره آنذاك 58 سنة). وقد أمضت على الوثيقة امرأة وحيدة هي "مليكة الفاسي"، وهي بذلك تشكل صورة متوهجة ومشرقة للمرأة المغربية في ذاكرة الحركة الوطنية. أما على المستوى المهني، فقد حملت الوثيقة توقيعات فئات اجتماعية مختلفة من رجال أعمال وتجار، ورجال تعليم ومدراء مدارس، وفلاحين، ورجال الصحافة، وموظفين وقضاة. ثانيا: حدث 11 يناير.. دلالات وعبر. بعد أن تم تأطير حدث تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944م) ووضعه في سياق الظروف الداخلية والخارجية التي أفرزته ومقاربة مضمون هذه العريضة والأشخاص الموقعين عليها، لا بد من الإشارة إلى أن الحدث الذي رفع إلى مستوى العيد الوطني، شكل منعطفا حاسما في تاريخ المغرب زمن الحماية لاعتبارين اثنين: -أولهما: أنه جاء تتويجا لمسلسل طويل من النضال متعدد المستويات، تم من خلاله اختبار كل الخيارات (المقاومة العسكرية، المطالبة بالإصلاحات...) قبل أن تنضج فكرة المطالبة بالاستقلال استغلالا للمتغيرات الدولية (هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، ميثاق الأطلسي، لقاء أنفا بالدار البيضاء، نجاحات الحركات الاستقلالية بالمشرق العربي...)، والداخلية (خروج فرنسا عن روح معاهدة فاس وجنوحها نحو الحكم المباشر المبني على الاستغلال والقمع). -ثانيها: ما ترتب عن هذه العريضة من أحداث داخلية لاحقة، في طليعتها نفي الملك محمد بن يوسف واندلاع شرارة ثورة الملك والشعب (20 غشت 1953م) التي أربكت حسابات المستعمر. ويمكن إبراز بعض الدروس والعبر التي تحملها هذه الذكرى المجيدة على النحو التالي: - أن العريضة لم تكن لتخرج إلى حيز الواقع وترفع كسلاح فتاك في مواجهة المستعمر، لولا التنسيق المسبق والمحكم بين الملك محمد بن يوسف وأعضاء الحركة الوطنية، بمعنى أن مطلب الإصلاح وجد البيئة المناسبة للنجاح، من حركة وطنية ناضجة وفاعلة وملك متفاعل ومساند لم ينصع للمؤامرات الاستعمارية، وهذا التلاحم بين العرش ومكونات الشعب بكل أطيافه وتعبيراته، كان هو المدخل الوحيد الذي مكن من مواجهة المستعمر وإجهاض كل مخططاته. - العريضة حملت توقيع كل الشرائح الاجتماعية من عرب وأمازيغ وأندلسيين وموريسكيين وأشراف وجبليين وسكان المدن الكبرى، وهذا يعكس صورة راقية تم من خلالها تجاوز الخلافات العرقية أو الاجتماعية الضيقة من أجل قضايا الوطن، وهنا لا بد من التذكير بأن وحدة الصف وطرح الخلافات السياسوية الضيقة صمام الأمان لمواجهة التحديات التي تواجه المغرب اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا وغيرها. - المستعمر حاول اختراق الوحدة الوطنية من خلال تنزيل ظهير 16 ماي 1930 تكريسا لمبدأ "فرق تسد"، لكن المغاربة تصدوا لذلك بالرفض والمزيد من التكتل والتوحد بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية والمهنية، ووحدة الصف كانت بمثابة السلاح الفتاك الذي حطم كل المخططات الاستعمارية. - الموقعون على العريضة كانوا يقدرون ما سيصدر عن سلطات الاحتلال من ردود فعل عنيفة، إلا أنهم أشهروا سلاح مطلب الاستقلال غير مكترثين بما يمكن أن يطالهم من قمع وسجن وتنكيل، وهذه عبرة أخرى تعكس أن حب الأوطان من الإيمان، والإيمان هو من يهب الصمود والتحدي وقوة التحمل. - أن الملك محمدا بن يوسف، وهو يتبنى مطلب الإصلاح بدون قيد أو شرط، لا شك أنه كان يدرك رد فعل الإقامة العامة ويقدر حجم الخطر الذي يمكن أن يطاله بمعية الأسرة الملكية، بل أكثر من ذلك يسجل له التاريخ زيارته إلى مدينة طنجة الدولية في ظرفية حرجة وإلقاؤه خطابا فيها (10 أبريل 1947م)؛ وهذا تحدٍّ صارخ لسلطات الاحتلال الفرنسي والإسباني، وتعبير واضح عن وحدة المغرب. - أن العريضة حملت توقيع امرأة وحيدة (مليكة الفاسي)، وهي تعد ولا شك أيقونة في عريضة كل موقعيها رجال، وهذه صورة مشرقة للمرأة المغربية التي بإمكانها أن تقدم الكثير للوطن وبإمكانها أن تكون شريكا للرجل في بناء هذا الوطن، وقيمة حضور "مليكة الفاسي" لا يمكن تقديرها إلا إذا تم استحضار طبيعة المجتمع المغربي وقتها، الذي كان مجتمعا محافظا ورجوليا بامتياز لا يسمح بخروج المرأة من البيت، فكيف يسمح لها بممارسة العمل السياسي بل وتوقيع عريضة كل موقعيها رجال. - لا بد من التأكيد أن بناء الوطن مسؤولية تتحملها المرأة والرجل، الحضري والريفي والجبلي، الفاسي والمراكشي والسلاوي والرباطي والدكالي...، العربي والأمازيغي والأندلسي...، فالوطن وطن للجميع، ومن واجبات المواطنة أن يتم تمكين كل الطاقات والقدرات والكفاءات المغربية من الإسهام في بناء الوطن بدون تمييز أو إقصاء. تأسيسا على ما سبق، فقد شكلت عريضة المطالبة بالاستقلال حدثا بارزا في تاريخ المغرب المعاصر، وأثثت لفضائه النضالي، ودفعت بالرغبة في الانعتاق والتحرر إلى أقصى حد ممكن، وأكدت التحام العرش والشعب، وأرقت مضاجع الاستعمار والموالين له، وجسدت حقيقة تاريخية لا يزال المغرب يستوحي ذكراها كل سنة، ويقابلها بالتبجيل والإكبار، وتقام على هامشها مهرجانات خطابية تبرز جلال الحدث، ووقعه التاريخي وأهمية استحضاره، ودلالاته العميقة التي ينطوي عليها، والقراءات الحيوية التي تهمه على مستوى البنية السطحية والبنية العميقة؛ ما يفرض في كل ذكرى استحضار ما قام به الأسلاف من تضحيات جسام في سبيل الذود عن حمى الوطن، واستلهام ما يزخر به الحدث من دروس وعبر وقيم وطنية، فما ننعم فيه اليوم من أمن واستقرار وطمأنينة أدى ثمنه الأسلاف الذين تحملوا وزر كل السياسات الاستعمارية الظالمة التي زاغت عما تعهدت به من إصلاحات، وحولت النظام إلى حكم مباشر مبني على الاستغلال المفرط والقتل والتنكيل والتجويع. وهي مناسبة لجميع المغاربة، خاصة المسؤولين منهم، أن يستلهموا من هذه الذكرى الغالية، الوطنية الصادقة التي تنتصر لقضايا الوطن، وأن يطرحوا حساباتهم الضيقة ويتحلوا بروح المسؤولية وبالضمير المهني وبحس المواطنة، من أجل الإسهام في بناء الوطن الذي تواجهه تحديات عدة، في طليعتها قضية الوحدة الترابية (آنيا)، واستكمال مسلسل الوحدة الترابية (مستقبلا)، وكذا تحدي التنمية الشاملة ورفع مظاهر الإقصاء عن الكثير من المجالات الترابية الفقيرة والهشة. وهذه التحديات الكبرى لا يمكن كسب رهانها إلا بمسؤولين/مواطنين يقدمون الحلول الممكنة للمشاكل المستعصية ويصغون لانتظارات الساكنة؛ وهذا لن يتأتى إلا بتضييق الخناق على الفساد وتعقب المفسدين وتفعيل مبدأ "ربط المسؤوليات بالمحاسبة"؛ فمن "يفسد" يخون وطنا ضحى من أجله الأسلاف تجويعا وتفقيرا وقمعا وقتلا وإعداما؛ لذلك لا بد أن نستلهم من هذا الحدث قيم الوطنية التي تبقى بمثابة المدخل الرئيس الذي لا محيد عنه لخدمة هذا الوطن العزيز. *أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي باحث في القانون [email protected]