من المفارقات التي يمجها الحس السليم ويرفضها العقل أن يستمر تطبيق المادتين 147 و 148 من مدونة الأسرة رغم تناقضهما من جهة وتعارض المادة 148 مع الدستور . إذ من الشذوذ الفقهي والقانوني أن يستمر المشرّع بالعقلية الذكورية إياها التي تحمّل المرأة وحدها كل تبعات الإنجاب خارج إطار الزوجية ( تثبت البنوة بالنسبة للأم عن طريق واقعة الولادة ... تعتبر بنوة الأمومة شرعية في حالة الزوجية والشبهة والاغتصاب) ، بينما المادة 148 تعفى الأب البيولوجي من أية تبعات (لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية). إن هذا التشريع يكرس الظلم الاجتماعي في حق المرأة والذي طال مئات السنين دون أن ينفتح على منظومة حقوق الإنسان ، وضمنها حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب . فالعلاقة الجنسية التي ترتب عنها الإنجاب تمت بين الرجل والمرأة ما يستوجب تحميلهما معا مسئولية البنوة وأثرها ، ولا عذر للمشرع المغربي ولا للحكومة في أن يظلا سجيني الاجتهادات الفقهية المحافظة التي تنطلق من معاداة المرأة وامتهانها . بل على الحكومة والمشّرع أن ينفتحا على الاجتهادات الفقهية التي كانت سابقة لزمانها وأجازت للأب البيولوجي أن يلحق به ابنه من علاقة غير شرعية . فليس كل الفقهاء متفقين على "تحريم" هذا الإلحاق ومنع النسب ، بل يوجد تيار مهم من الفقهاء الذين أفتوا بجواز أن يُنسب الابن من علاقة خارج إطار الزواج لأبيه الطبيعي حتى يتمتع بكل حقوقه الشرعية ، وهو قول عروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وإسحاق بن راهويه، كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني" (9/123). ويمكن أن نورد جملة من هذه الاجتهادات التي صدرت حتى ممن عُرفوا بتشددهم . 1 روى الدارمي في "السنن" (3106) عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ ". قَالَ بُكَيْرٌ : وَسَأَلْتُ عُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ " . 2 قال ابن القيم : " كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الزِّنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ ، وَادَّعَاهُ الزَّانِي : أُلْحِقَ بِهِ ... وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ 3 قال ابن مفلح رحمه الله : " واختار شيخنا أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش : لحقه " انتهى من "الفروع" (6/625). 4 قال الشيخ ابن عثيمين : " الولد للزاني ، وذلك لأن الحكم الكوني الآن لا يعارضه حكم شرعي فكيف نلغي هذا الحكم الكوني ، مع أننا نعلم أن هذا الولد خلق من ماء هذا الرجل ؟ فإذا استلحقه وقال هو ولده فهو له ... 5 وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء ، يلحقونه ويقولون : إن هذا الولد ثبت كونه للزاني قدراً ، ولم يعارضه حكم شرعي ، فلا نهمل الحكم القدري بدون معارض ، أما لو عارضه الحكم الشرعي فمعلوم أن الحكم الشرعي مقدم على الحكم القدري " انتهى من "فتح ذي الجلال" (12/318). 6 قال ابن القيم : " الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِيهِ ، فَإِنَّ الْأَبَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ ، وَهُوَ إِذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمِّه ِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا ، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الزَّانِيَيْنِ ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُمَا ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِالْأَبِ إِذَا لَمْ يَدِّعِهِ غَيْرُهُ ؟ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ". انتهى من "زاد المعاد" (5/381). لم يعد ، الإشكال المتعلق بإثبات النسب قائما بفضل التطور العلمي والتقني الذي يسمح بالتحليل الجيني والتعرف على الأب البيولوجي ،وبذلك يتحقق المقصد الشرعي وهو إثبات الأنساب وتجنب اختلاطها . من هنا يتوجب على القطاعات الحكومية المعنية بالتشريع وبالأسرة وبالطفل أن تقتنع أولا ، على نحو ما فعلت الوزيرة بسيمة الحقاوي حين صرحت أمام البرلمانيين“أنا مع أن نثبت العلاقة الترابطية بين الفاعل والطفل، يعني أن نستعمل اليوم ADN لأجل أن نجد لكل طفل أباه، أو على الأقل، المسؤول على إنتاجه“. وثانيا أن تمارس قناعتها داخل الحكومة والبرلمان معا قصد اعتماد التحليل الجيني لإثبات النسب وتحميل الأم والأب البيولوجي تبعات الابن على قدم المساواة . وهذه مناسبة سانحة أمام الحكومة وهي تعدّ الخطة الوطنية للنهوض بحقوق الإنسان ، أن تتعامل بكل جدية مع هذا المشكل وتتبنى المطالب التي ترفعها الهيئات النسائية والحقوقية في الموضوع . ومن شأن وضع قانون يلحق الابن خارج إطار الزوجية بأبيه البيولوجي أن يضمن لهؤلاء المواليد حقوقهم أسوة بالمواليد "الشرعيين" فيما يتعلق بالنسب والإرث وباقي الحقوق الاجتماعية . الأمر الذي سيحد من ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم ويوفر لهؤلاء الأبناء ظروف التربية الحسنة والرعاية المتواصلة والحماية الآمنة من التشرد والضياع . ومن شأن هذا التشريع أن يحقق الانسجام بين التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب واقرها الدستور فيما يتعلق بالحقوق والمساواة في المواطنة.