أثار موضوع خطأ الإدارة إشكالا عبر التاريخ حول معايير التمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي بغية تحديد المسؤولية ومن تم ربطها بالمحاسبة. وحتى بعد تقرير المسؤولية يظل الإشكال قائما حول مدى تناسب الجرم المرتكب بالجزاء الواجب التطبيق، حيث لا سبيل للحديث عن العدالة أكان ذلك في مواجهة المرؤوس برئيسه أم بين المواطن والإدارة. وهو ما نسعى إلى تفصيله من خلال عرض مواقف كل من الفقه والقضاء في الموضوع قبل التطرق إلى قضاء التأديب وما يستتبع ذلك من تحريك للدعوى عبر النقاط التالية: موقف الفقه من الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي حاول بعض الفقه إيجاد التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي عبر معايير أهمها: 1- معيار لافريير ، وهو معيار النزوات أو الأهواء الشخصية و يطلق عليه أيضا معيار الخطأ العمدي والدي بمقتضاه يكون الخطأ شخصيا متى ارتكبه الموظف بسوء نية و كان القصد من وراء تصرفه الخاطئ البحث عن فائدته الشخصية، أو كان مرد دلك الانتقام أو التفشي أو المحاباة. 2- معيار هوريو ، وهو معيار الخطأ المنفصل حيث يكون الخطأ شخصيا ادا أمكن فصله عن أعمال الوظيفة ماديا أو معنويا ، أما ادا كان من غير الممكن فصله عن الوظيفة فان الخطأ يعتبر حينئذ مرفقيا مهما بلغت درجة جسامته. 3- معيار دوجي و هو معيار الغاية و طبقا له يكون الخطأ مرفقيا ولو بلغت درجة جسامته مبلغا كبيرا ادا قصد الموظف بتصرفه تحقيق غرض من الأغراض المنوطة بالإدارة، في حين يكون الخطأ شخصيا عندما يتعلق الأمر بتحقيق غرض شخصي حتى ولو كان هذا الخطأ بسيطا. 4- معيار جيز ومفاده أن الخطأ يكون شخصيا ادا كان الخطأ جسيما بحيث لا يمكن اعتباره من المخاطر العادية التي يتعرض لها الموظف في قيامه بواجباته الوظيفية كأن يأمر العمدة بهدم مبنى دون سند من القانون. 5- معيار دوك راسي و تقوم التفرقة فيه بين الخطأ الشخصي و الخطأ المصلحي على أساس موضوعي يرتبط بطبيعة الالتزام الذي أخل به ، فادا كان هدا الالتزام من الالتزامات العامة التي يقع عبئها على الجميع فان الإخلال به يعتبر خطأ شخصيا ، أما ادا كان الالتزام من الالتزامات التي ترتبط بالعمل الوظيفي فان الإخلال به يعد خطأ مرفقيا. كأن أن يأمر أحد الضباط جنوده بأن يتبعوه لارتكاب جريمة "قضية طوردجمان" في حكم مجلس الدولة بتاريخ 13-02-1948، حيث ثمة خطأ شخصيا من جانب الضابط و خطأ مصلحيا من الجنود.(1) موقف القضاء من الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي اعتبر القضاء الفرنسي الخطأ شخصيا ادا ارتكبه الموظف خارج نطاق الوظيفة مهما كان جسيما أو بسيطا و مهما كان صدوره عن حسن نية أو بسوء نية من طرف الموظف مرتكب الخطأ، كما لو قام رجل الجمارك باستعمال سلاح الخدمة خارج نطاق العمل لتصفية خلافاته الشخصية. وقد يكون الخطأ شخصيا حتى ولو ارتكب أثناء العمل عندما يكون فعل الموظف الذي ألحق الضرر منقطع الصلة بواجبات الوظيفة كقيام رجل الأمن بضرب متهم لم يقاوم أمر القبض عليه. كما اعتبر القضاء الفرنسي الخطأ شخصيا ادا اقترن عمل الموظف بنية سيئة مثل اتفاق أحد موظفي التلغراف مع مقاول على حجز التلغرافات المرسلة لمقاول آخر منافس له إضرارا به، أو ادا كان الخطأ جسيما كقيادة سيارة مملوكة للدولة في حالة سكر واضح. أما القضاء العادي في مصر فلم يكن يميز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المصلحي في قضائه السابق على سنة 1964 فكان يطبق قواعد القانون المدني، في حين تبنى مجلس الدولة هذه التفرقة منذ إنشائه و كان يستعين في أحكامه بالمعايير التي قيل بها جميعا في مجلس الدولة الفرنسي، و من أمثلة ذلك ما قضت به محكمة القضاء الإداري المصرية في حكمها الصادر بتاريخ 29 يونيو 1950 بقولها: "أنه من المبادئ المقررة في فقه القانون الإداري أن الموظف لا يسأل عن أخطائه المصلحية و إنما يسأل فقط عن خطئه الشخصي، وفيصل التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المصلحي يكون بالبحث وراء نية الموظف، فإذا كان يهدف من القرار الذي أصدره إلى تحقيق الصالح العام كان خطؤه مصلحيا، أما إذا تبين أنه لم يعمل للصالح العام أو كان يعمل مدفوعا بعوامل شخصية، أو كان خطؤه جسيما، فإنه يعتبر خطأ شخصيا يسأل عنه في ماله الخاص"(2). ومن سمات القضاء الإداري المصري أن له الولاية العامة على الأخطاء التي يرتكبها العاملون بالقطاع العام بمن فيهم شاغلي الوظائف العليا عن أخطائهم الشخصية حتى ولو تعلق الأمر بجرائم الأموال. أما بالنسبة للمغرب فقد تمت الإشارة إلى الخطأ الشخصي و الخطأ المصلحي ضمن قانون الالتزامات و العقود، فنجد الفصل 79 ينص على أن " الدولة و البلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها"، كما ينص الفصل 80 على أن "مستخدمو الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم ولا تجوز مطالبة الدولة و البلديات بسبب هذه الأضرار إلا عند إعسار الموظفين المسؤولين عنها ". ونعتقد أن القاضي الإداري بما لديه من خبرة واطلاع على العمل والقوانين الإدارية يجب تمتيعه في ظل ولاية قضائية عامة بحق الرقابة على تصرفات الإدارة بشكل يستشف من خلاله الخطأ الشخصي من الخطأ المصلحي، بل و يجب إسناد الاختصاص بالبث في أخطاء الموظفين الشخصية كما هو الحال في الأخطاء المرفقية إلى القضاء الإداري أسوة بالتطبيق القضائي المعمول به في مصر مع ما يستتبع دلك من إحداث مؤسسة النيابة الإدارية العامة و إلحاق قسم جرائم الأموال بهذه المحاكم الإدارية(3) لكونها من جهة أولى جرائم ترتكب من طرف موظفين عموميين تستهدف الأموال العمومية إعمالا للمعيار العضوي، ومن جهة ثانية لإضفاء بعض الطابع الزجري على الأحكام التي تصدر عن القضاء الإداري في مثل هذه الجرائم و المخالفات حتى لا يبقى قضاء حبيس الإلغاء والتعويض. ولا يضر في شيء توسيع صلاحيات القاضي الإداري للبث في جرائم الموظفين شريطة ارتكابهم لها أثناء مزاولة مهام الوظيفة, مع توقيع الجزاء المناسب حتى و لو تعلق الأمر بعقوبات سالبة للحرية. فالموظف الذي يعرقل مصالح الناس عمدا و يتماطل في ذلك ابتغاء مصلحته الشخصية كالارتشاء، أو الرئيس الذي يتسبب في حرمان مرؤوسه من العلاوات أو يتسبب بشططه - بما له من سلطة تقييم الأداء- في عدم ترقية الموظف العامل تحت إمرته بغير وجه حق إنما تجب مساءلته متى تبين بما لا يدع مجالا للشك انحرافه في استعمال السلطة ، لتخلف شرط المروءة لديه المنصوص عليه في الفصل 21 من قانون الوظيفة العمومية و الذي يعتبر شرطا لولوج الوظيفة العمومية. ولأن العدالة في مثل هذه الوقائع لا تستقيم فقط برد المظالم و إنما تكتمل بالاقتصاص. كما أن الطرح الذي يرى في أن مساءلة الموظف عن أخطائه من شأنه أن يدفع به إلى الجمود وعدم الابتكار هو أمر مردود، لأن واقع الحال ببلادنا لا يوحي بأخذ المبادرة و إنما هي إجراءات منصوص عليها مسبقا في المذكرات و المناشير المصلحية ليس على الموظف سوى تطبيقها بحذافيرها حتى إذا التبس عليه الأمر التمس من رؤسائه تفسيرا لها. كما أن القضاء الإداري يراعي في تطبيقاته هامش السلطة التقديرية المقررة لفئات معدودة من الموظفين أمثال رجال الجمارك و الشرطة و قضاة النيابة العامة، فلا يكون الخطأ شخصيا إلا إذا كان جسيما، و في ذلك تقول المحكمة الإدارية بالرباط في حكم لها: "... وحيث حدد قانون المسطرة الجنائية حالات الاعتقال الاحتياطي و نص عليه باعتباره تدبيرا استثنائيا تقتضيه مصلحة التحقيق و خول للنيابة العامة في إطار سلطة الملاءمة بمناسبة تطبيق هذا الإجراء صلاحية تقدير الحاجة إليه بحسب ظروف و ملابسات كل قضية، حماية للمتهم نفسه من خطر أي رد فعل عن الجريمة المرتكبة، على أن تراعي في ذلك خطورة الفعل الجرمي المرتكب و درجة تأثيره على الأمن و السلم المجتمعي. وحيث أن من شروط التعويض عن الاعتقال الاحتياطي كصورة من صور الخطأ القضائي أن يكون خاطئا أو تعسفيا و نتج عنه ضرر مادي أو معنوي... فلا يعدو أن يكون قرار الاعتقال الاحتياطي في ضوء ما ذكر إلا استعمالا للسلطات المقررة قانونا...". وقد يرى البعض في توسيع صلاحيات القاضي الإداري هذه ضربا لمبدأ فصل السلط، فنقول ان الامر لا يعدو كونه تطبيقا لروح القانون الذي ينبغي ان يسود الجميع أفرادا كانوا أم هيئات عمومية، و من ثم فإن توجيه القضاء أوامره إلى الأجهزة الإدارية لا يمكن تصوره إلا في حال خروج هذه الأخيرة عن نطاق المشروعية، كما أن الأجهزة الإدارية في حقيقتها ليست سوى مجموعة أشخاص أناط بها المشرع إصدار قرارات خدمة للصالح العام في حدود القانون حتى إذا صدرت عنهم خدمة لنزواتهم الشخصية وزاغت عن مجراها الطبيعي، تولت السلطة القضائية مهمة ردعها وردها إلى جادة الصواب، وفي ذلك تقول محكمة القضاء الإداري بمصر: "إن مبدأ الفصل بين السلطات لا يعني استئثار كل سلطة بالوظيفة المخولة لها حتى و لو نص القانون على خلاف ذلك، بل إن قاعدة الفصل بين السلطات وفقا لما أجمع عليه فقهاء القانون العام في العصر الحديث و طبقا لأسس النظام الديمقراطي والمبادئ الدستورية تقوم على عدم فصل السلطات فصلا تاما، و إنما هي تمثل فصل السلطات فصلا محدودا بتعاونها و تساندها بحيث تتداخل الاختصاصات بينها أحيانا بما يحقق الصالح العام"(4) وبالتالي إذا كان المشرع المغربي قد خول القضاء الإداري بسط رقابته على القرارات و الأعمال المادية الصادرة عن الأجهزة الإدارية، فإنه في موقع آخر من خلال الفصل 237 من القانون الجنائي قد أوشك على مجانبة الصواب عندما لم يستثن قضاة المحاكم الإدارية من مقتضيات هذا الفصل، حيث نص على ما يلي: " يعاقب بالتجريد من الحقوق الوطنية كل من ارتكب من رجال القضاء أو ضباط الشرطة أحد الأفعال الآتية: - 1 التدخل في أعمال السلطة التشريعية، و ذلك إما بإصدار نظم تشتمل على نصوص تشريعية، و إما بتعطيل أو توقيف تنفيذ قانون أو أكثر. - 2 التدخل في المسائل المخولة للسلطات الإدارية، و ذلك إما بإصدار نظم متعلقة بإصدار هذه المسائل، و إما بمنع تنفيذ أوامر الإدارة.". وغني عن البيان أن أحكام وأوامر القضاء الإداري تتعلق بالخصوص بإلغاء وإيقاف القرارات الصادرة عن جهة الإدارة إذا شابها عيب يستوجب إلغاءها، كعيب الشكل، وعدم الاختصاص، و مخالفة القانون، و السبب، و الانحراف في استعمال السلطة. حيث نصت المادة الثامنة من القانون رقم 90-41 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية على ما يلي: "تختص المحاكم الإدارية مع مراعاة أحكام المادتين 9 و 11 من هذا القانون بالبث إبتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة و في النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية و دعاوي التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال و نشاطات أشخاص القانون العام، ما عدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام. وتختص المحاكم الإدارية كذلك بالنظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات ومنح الوفاة المستحقة في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة وموظفي إدارة مجلس النواب وموظفي إدارة مجلس المستشارين وعن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات والضرائب ونزع الملكية لأجل المنفعة العامة، وبالبث في الدعاوي المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة العامة والنزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية و المؤسسات العامة، و ذلك كله وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون. و تختص المحاكم الإدارية أيضا بفحص شرعية القرارات الإدارية وفق الشروط المنصوص عليها في المادة 44 من هذا القانون" ومن هنا نعتقد أن المادة 237 أعلاه من القانون الجنائي، ربما لم يشملها التعديل الذي لحق فصولا أخرى من هذا القانون خاصة وأن الظهير الشريف رقم 1.59.413 بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي قد صدر بتاريخ 26 نونبر 1962. قضاء التأديب في اتجاه إحداث النيابة الإدارية العامة لا خلاف بين الفقهاء حول ضرورة التمييز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المصلحي لما في ذلك من تحديد للمسؤولية وما يتفرع عنها من مساءلة، إلا أن الإشكال الذي يظل عالقا يتمحور حول مدى تناسب العقاب مع درجة الجرم المرتكب و ما إذا كان ذلك يصب في اتجاه تحقيق العدالة و إحقاق الحق لرفع الحيف عمن تضرر من تصرفات الإدارة و مساءلة الموظف الذي تسبب بفعله في إحداث الضرر. فبخلاف الجرائم الجنائية التي تم حصرها من طرف المشرع و التي تخضع لقاعدة "لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص"، فإن الجرائم التأديبية يصعب حصرها لتنوع الأفعال التي قد تشكل مخالفة في إطار الوظيفة العمومية، فهي أشبه بجرائم التعزير في الشريعة الإسلامية حيث لا تحدد بنص و ليس لها عقوبة معينة سلفا مثل جريمة الربا و الشتم إلى غير ذلك، عكس الجرائم المنصوص عليها و على عقوبتها كالحدود التي يعتدى فيها على حق من حقوق الله أو جرائم القصاص التي يعتدى فيها على حقوق العباد (5). وإذا كان التشريع الإسلامي قد أعطى للقاضي سلطة توقيع العقاب المناسب في جرائم التعزير لبلوغ العدل الأمثل كما يستدل على ذلك في مثل قوله تعالى: " و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" (6) فإن القاضي الإداري بإمكانه تحقيق العدالة المنشودة إذا ما تم تمتيعه بسلطة توقيع الجزاء الأنسب ضد مقترفي المخالفات من موظفين و إداريين، شريطة إحداث مؤسسة النيابة الإدارية العامة و إشراكها في إجراءات التحقيق كطرف محايد مهمته الدفاع عن القيم المثلى للجهاز الإداري التي تقتضي توقيع العقاب على كل من يعبث بهذه القيم باسم الإدارة العمومية أو المصلحة العامة .ففي حكم صادر عن إدارية الرباط بتاريخ 06-01-2000 يظهر بجلاء نوع الاستهتار الذي قد يصدر عن بعض الموظفين أصحاب القرار و يظل في منأى عن كل مساءلة شخصية، بل و ينسب خطؤه إلى جهة الإدارة و هي منه براء. ومما جاء في الحكم :" وحيث إن المحكمة بعد دراستها لكافة معطيات القضية تبين لها بأن الطاعن قد ركز على وسيلة واحدة و هي انعدام السبب. وحيث إنه بعد تفحص المحكمة لهذه الوسيلة تبين لها بأن الإدارة المطلوبة في الطعن قد خططت مع الموظف المسمى خ.أ لنصب كمين للطاعن بغية الإطاحة به، و هو تصرف لا يضفي الشرعية على القرار الذي اتخذ بعد التهييء له من قبل. و حيث إنه ليس من أخلاقيات الإدارة سلوك هذا الطريق، لا سيما و أن وسائل إثبات المخالفات في حق أي موظف يجب أن تكون قانونية و مشروعة (7) ولنا أن نتصور حجم الضرر النفسي و المادي الذي قد يحدث جراء هذا السلوك في مثل هذه الوقائع، لكننا لا نتصور أية مساءلة لمن تسبب في الضرر في غياب الآليات القانونية التي تسمح بذلك. من هنا يبقى إحداث مؤسسة النيابة الإدارية العامة تحت إشراف المفوض الملكي للدفاع عن الحق و القانون -إن أمكن ذلك - ضرورة تفرض نفسها، لتباشر مهمة تقصي الحقائق واستنطاق الموظفين بما فيهم شاغلي الوظائف العليا مثلما سنلمسه في مميزات هذا الجهاز. مميزات النيابة الإدارية العامة في مصر تختص النيابة الإدارية في مصر بإقامة الدعوى التأديبية و مباشرتها أمام المحاكم التأديبية و يحق لها الاطلاع على المستندات اللازمة لمباشرة التحقيق و استدعاء الشهود و سماع أقوالهم و تفتيش أشخاص و مساكن المتهمين و كدا مقر عملهم إضافة إلى إمكانية توقيف المتهمين عن العمل عند الاقتضاء تماشيا مع مصلحة التحقيق. وتحتفظ بعد الانتهاء من التحقيق بحق توقيع الجزاء التأديبي على المتهم الذي تبثت إدانته أو حفظ التحقيق ادا لم تتبث الإدانة، كما يحق لها أن تحيل المتهم إلى المحاكمة التأديبية. ومن محاسن مؤسسة النيابة الإدارية العامة، بالإضافة إلى ما سبق، أنها تباشر التحقيق إما بناء على طلب جهة الرئاسة إذا عهدت إليها بذلك، و إما من تلقاء نفسها في المخالفات التي تثيرها هيئات المراقبة أو في المخالفات التي تتلقى بشأنها الشكايات بعد تقدير مدى جديتها، و في هذه الحالة تقوم النيابة الإدارية بإخبار الوزير أو الرئيس الذي يعمل الموظف المعني تحت إمرته لتفادي ازدواجية التحقيق من جهتين، جهة الإدارة و جهة النيابة الإدارية. و يدخل في اختصاص النيابة الإدارية كل المخالفات التي تصدر عن الموظف بما فيها الجرائم المالية، كما تعتبر صاحبة الولاية العامة في ما يتعلق بإجراءات التحقيق، حيث أوجب القانون على الجهة الإدارية المختصة بالنسبة لسائر المخالفات أن توقف إجراءات التحقيق إذا ما باشرتها النيابة الإدارية وألزمها بإحالة أوراق الملف إليها (8). و تنتهي نتيجة التحقيق التي تباشرها النيابة الإدارية إما بإحالة الملف على الجهة الرئاسية لتوقيع أحد الجزاءات أو حفظ الملف، وإما بإحالة الملف على أنظار محكمة التأديب المختصة. وتشكل النيابة الإدارية العامة ضمانا للنزاهة و الحياد في إجراءات التحقيق و ما يتفرع عنها من قرارات، ما دامت هيئة تابعة للسلطة القضائية بعكس اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء التي تضم ممثلين عن الإدارة و آخرين عن الموظفين، قد تميل قراراتها إلى جهة الإدارة بفعل المحاباة أو التملق للسلطة الرئاسة.(9) تبقى الإشارة في الأخير إلى ضرورة تطوير آليات تدخل القضاء الإداري على منوال ما تم سرده لحماية الحق بوجه عام سواء للدفاع عن الموظف المرؤوس من جور رؤسائه المباشرين أو للدفاع عن المرتفق و المتعاقد و المواطن من ظلم و تعنت الإدارة و ذلك كله عبر الاتجاه نحو تقليص هامش الخطأ المصلحي و التوسع في مجال الأخطاء الشخصية كأساس لربط المسؤولية بالمحاسبة، و هو ما نجده المثال الواقعي لتفعيل الخطابات الملكية حول إصلاح الإدارة في شقه المتعلق بالرقابة القضائية على قراراتها و تصرفاتها و الله أعلى و أعلم. --------------------------- (1) انظر محمد عبد الواحد الجميلي: قضاء التعويض مسؤولية الدولة عن أعمالها غير التعاقدية ص 323 و 324. (2) نفس المرجع ص 336. (3) تم إحداث قسم جرائم الأموال في أربع محاكم إستئنافية بكل من الرباط، البيضاء، مراكش، وفاس بالمرسوم رقم 2.11.445 صادر في 4 ذي الحجة 1432 الموافق ل 17 غشت 2011. (4) محمد عبد الواحد الجميلي مرجع سابق ص 55 و 56 (5) ماجد راغب الحلو : القضاء الإداري ص 493 دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية 2010 (6) سورة التوبة آية 118 و صورة التعزير في الآية الكريمة قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم بهجر ثلاثة من الصحابة لم يلتحقوا بالجيش في غزوة تبوك كعقاب لهم عن تخلفهم دون عذر، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. (7) المحكمة الإدارية بالرباط حكم عدد 13 بتاريخ 06-01-2000 منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16 سنة 2004 الجزء الثاني ص 84 . (8) م.ر.الحلو مرجع سابق ص 515 و 516 . (9) الفصل 11 من قانون الوظيفة العمومية ينص على أنه: يؤسس كل وزير في الإدارات أو المصالح التي تحت نفوذه، لجانا إدارية متساوية الأعضاء يكون لها حق النظر، ضمن الحدود المقررة في هذا القانون الأساسي وفي المراسيم الصادرة بتطبيقه وتشتمل اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء على عدد متساو من ممثلين عن الإدارة يعينون بقرار من الوزراء المعنيين بالأمر، ومن ممثلين عن المستخدمين ينتخبهم الموظفون العاملون أو الملحقون بالإدارة أو المصلحة المعنية بالأمر. وفي حالة تعادل الأصوات، فالأرجحية للرئيس المعين من بين ممثلي الإدارة.