لا زالت المدرسة العمومية المغربية تعاني من أزمة معقدة متعددة الأبعاد والمستويات، يتداخل فيها البيداغوجي بالاجتماعي و النفسي و الإقتصادي والثقافي، والمستوى الماكرو المرتبط بالسياسة التربوية والنسق التربوي التعليمي بشكل عام بالمستوى الميكرو المتعلق بالفاعلين الممارسين للفعل التربوي والإداري والتدبيري داخل هذا الحقل.لقد تكرست هذه الأزمة عبر سلسلة من التدخلات والسياسات العمومية ،والتي تميزت عموما بطابع ترميميBricolage ، من خلال استكمال برامج وسياسات سابقة ،لاسيما بعد اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 والذي شكل وثيقة مرجعية حاولت كل الإصلاحات والبرامج والمخططات المتعاقبة النهل من مبادئها و خطوطها العريضة. ورغم التحسن الكمي المتعلق بتعميم التمدرس و توسيع العرض المدرسي، ظل النظام التعليمي المغربي يعيد إنتاج نفس الإخفاقات النوعية بشكل أفرز لنا تضخما في خطاب التشخيص، وهو خطاب يقف باستمرارعلى الأعطاب البنيوية والوظيفية Dysfonctionnements للنظام، يتمثل أهمها في عدم قدرته على التكيف مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي، فكفايات الخريجين وطبيعة خبراتهم ومؤهلاتهم العلمية والعملية لا ترقى إلى المستوى المطلوب،مما يعيق قيام المدرسة بوظيفتها في الاندماج المهني والاجتماعي، وتحصين منظومة القيم الخاصة بالمجتمع المغربي،والتي أصبحت تشهد تصدعات مرتبطة بالتحولات القيمية في عالم أصبح فعلا قرية صغيرة على حد تعبير الباحث الكندي Marshall McLuhan. بالإضافة إلى ذلك، فالإشكالات العرضانية لهذا النظام متعددة، وتتمفصل بين حالة التيهان في تحديد نموذج بيداغوجي ملائم ومقاربات ديداكتيكية فعالة،وقضايا مرتبطة باللغات المدرسة و لغات التدريس،والتكوين الأساسي و المستمر، وغير ذلك من الأعطاب المعروفة. ويمكن القول إن هذه الأعطاب تندرج في إطار مشهد عام يتسم بانعدام رؤية لمشروع مجتمعي متكامل و مندمج ،تنخرط فيه مختلف القوى الاجتماعية ،و تندرج إشكاليات المدرسة في صلبه،مشروع يحاول الإجابة عن سؤال جوهري:ما طبيعة المواطن الذي نريد في هذا الوطن؟. إن الوضع الحالي يستدعي كذلك الحسم في طبيعة المدرسة المغربية الواحدة والموحدة للأمة، بدل واقع التشردم، إذ يصعب الحديث في واقع الأمر عن مدرسة مغربية واحدة بل عن مدارس متعددة ،مما قد يؤسس لحرب أهلية غير معلنة في ظل التناقضات القيمية و التمايزات الاجتماعية التي يكرس لها هذا الوضع. يبدو أن احتدام التحولات الاجتماعية لم يعمق فقط من هذه الأعطاب البنيوية، بل كشف لنا كذلك عن عجز الفاعلين ضمن الحقل التربوي و التعليمي عن مواكبة واستيعاب هذه التحولات العميقة،والتي لا يمكن مقاومتها بأي شكل من الأشكال،خاصة مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي،حيث أصبحت هذه الفضاءات الرقمية تمارس تنشئة اجتماعية لهذه الأجيال الجديدة قد تكون مضادة للقيم التي ترسخها التنشئة التقليدية بعيدا عن رقابة الراشدين أو المربين. لقد لاحظنا أن حرص السلطة الوصية على القطاع على تقنين العلاقات بين مكونات الفضاء المدرسي،وحرص الفاعلين التربويين المباشرين من أطر تربوية و إدارية على نهج أسلوب الصرامة و الآليات الردعية لكل الانحرافات الممكنة داخل هذه الفضاءات، أفرز آثارا غير متوقعة Effets émergents لم تكن في الحسبان،تمثلت في مظاهر العنف ضد الأساتذة و كذا بعض الانحرافات الأخلاقية التي ساهمت الشبكات الافتراضية في إماطة اللثام عنها، كتناول المخدرات أو بعض السلوكات الجنسية الاندفاعية وغير السليمة ،كما أن المقاربة الأمنية و الزجرية أبانت عن فشلها في تقويم سلوكات المتمدرسين والحد من هذه الانحرافات. لقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم إلى استحضار البعد الإنساني والعلائقي في التعامل مع أجيال شبكات التواصل الاجتماعي،عن طريق الحوار والإنصات لهمومهم ومشاكلهم، ومحاولة تفهم أوضاعهم النفسية والاجتماعية، بدل أسلوب التعالي والتراتبية الكلاسيكية التي لم تعد تخدم الفعل التربوي.فالمتعلم يبقى إنسانا له احتياجاته الفيزيولوجية و النفسية و هواجسه الخاصة وإكراهات معينة تحتاج إلى تفهم وتوجيه ومصاحبة. إن أنسنة العلاقة بين أطراف العملية التربوية تقتضي توفر الفاعلين على مؤهلات نفسية و قدرات تواصلية تمكنهم من إرساء و ترسيخ هذه العلاقة،كما تتطلب كذلك إرساء آليات الوساطة الاجتماعية التي يجب أن يقوم بها أهل الاختصاص. لم يعد مستساغا اليوم ربط مأزق النظام التعليمي المغربي بالإرادوية السياسية للدولة،بل بالنظر إليه كفعل جماعي يتميز بتعدد الفاعلين المتدخلين، داخليا وخارجيا، وطنيا و جهويا و محليا، ليس فقط في صنع القرار لكن كذلك في تنفيذه وأجرأته. لذلك فنجاح أو فشل السياسة التعليمية رهين كذلك برهانات هؤلاء الفاعلين ومصالحهم المتضاربة أحيانا، بل كذلك بتمثلهم للإصلاح في حد ذاته،والتي تجعلهم يعتمدون استراتيجيات معينة قد تعيق بلوغ الإصلاح غاياته، وبشكل يجعله أشبه بحكاية صخرة سيزيف الأسطورية التي لا تكاد تصل نحو قمة الجبل لتتدحرج نحو السفح،ولتعلن عند بداية مسلسل جديد من العذاب الأبدي.