لا يختلف إثنان في كون مظاهر العنف داخل الوسط المدرسي التي أخذت في الأيام الأخيرة منحى تصاعديا مقلقا، وإن كانت لا ترقى إلى مستوى "الظاهرة" بالمعنى المتعارف عليه في علم الإجتماع، إلا أنها أصبحت مؤشرا دالا على تراجع دور الأسرة والمدرسة في مجال التربية والتهذيب. ولأن العنف بالمؤسسات التعليمية، ولاسيما الاعتداء على نساء ورجال التعليم، يبقى سلوكا مشينا، مرفوضا تربويا وأخلاقيا ونفسيا واجتماعيا، فقد وجه المجتمع المغربي بكل أطيافه، إدارة تربوية ونقابيون ومختصون اجتماعيون، الدعوة، وبإلحاح، إلى ضرورة التصدي للعنف بالوسط المدرسي، وخاصة عبر الرفع من مستوى فعالية التدابير المتخذة ميدانيا، واسترجاع الأسرة والمدرسة لأدوارها التربوية والقيمية. وفي هذا السياق، أكد مدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الرباطسلاالقنيطرة، محمد اضرضور، أن موضوع العنف داخل الوسط المدرسي لا يمكن فصله عن ظاهرة العنف التي أصبحت تجتاح العديد من الفضاءات العمومية، مما يؤشر، برأيه، على أن المدرسة كمؤسسة اجتماعية لم تعد تستطيع مواكبة التحولات السوسيو- اقتصادية والثقافية التي تعتمل داخل المجتمع. وأوضح أضرضور، أن المدرسة كمؤسسة ليست بمعزل عن المجتمع وما يشهده من تحولات وتغييرات اجتماعية وثقافية وقيمية، لافتا، بالمقابل، إلى أنه لا ينبغي التعامل مع العنف والسلوكات المشينة بالوسط المدرسي كما لو أنه ظاهرة تنسحب على المنظومة التربوية برمتها. وشدد على أن دور المدرسة يكمن، بالأساس، في معالجة هذه السلوكات عن الطريق التعاون مع الأسرة والسلطات وباقي الفاعلين المعنيين إلى جانب وسائل الإعلام من أجل تطويق تداعياتها، موضحا أن الوزارة الوصية تتوفر على رصيد وثائقي وإطار تنظيمي مهم في مجال التصدي للسلوكات المشينة أو المنحرفة، من قبيل التعاطي للمخدرات، الشغب، الاعتداء على الممتلكات العمومية، أو الغش في الامتحانات. وأكد أن الوزارة تراهن على الدوام على الحلول التربوية من أجل تجويد مخرجات المنظومة التعليمية وفق مقاربة تشاركية، لاسيما عن طريق الارتقاء بدور جمعيات آباء وأولياء التلاميذ وتمثين أواصر التواصل معها، وبرمجة أنشطة الأندية والوحدات المدرسية والتشجيع على الأنشطة الترفيهية والرياضية في الأوساط التعليمية. واعتبر المتحدث أن الوظائف التربوية تسبق الإجراءات الإدارية، على اعتبار أنه ينبغي للمدرسة أن تضطلع في المقام الأول بدورها التربوي قبل التفكير في وضع آليات التعامل من المتورطين في سلوكيات العنف، مبرزا أن عدم استطاعة المدرسة مواكبة المستجدات التي يشهدها المجتمع يلزمها أولا بتغير مقاربتها وآليات التدبيرية والوظيفية في اتجاه الاستثمار أكثر في الحوار والتواصل والإنصات للتلميذ، خصوصا المراهقون منهم إن المدرسة، يضيف المتحدث، ليست فقط وسط لتلقي المعرفة بل هي فضاء لتهذيب السلوك، لذا فإن التصدي للعنف يقتضي بالضرورة توسيع دائرة الانخراط في الأنشطة الموازية، لافتا إلى أنه كلما ازداد ضغط المقررات والامتحانات كلما كان التلميذ أكثر ميلا لتبني سلوكات عدوانية، بما يفضي إلى انهيار القيم داخل الفصل الدراسي. وفي نفس المنحى، يوضح السيد أضرضور، فإن كرامة رجل التعليم، من أساتذة وأطر توبوية، تبقى فوق كل اعتبار، وأن سلاح المدرسة الحقيقي هو الانفتاح على التلاميذ وتحفيزهم على الانخراط في أنشطة تتيح لهم تفجير طاقاتهم وابراز مواهبهم، بعيدا عن أي توجه "لعسكرة" المدرسة أو تبخيس لدور المدرس. وشدد على أن المجتمع يسير في اتجاه الانفتاح والتشبع بثقافة الحقوق والواجبات المنوطة على السواء بالتلميذ والمدرس، مشيرا إلى أن المدرسة أصبحت مطالبة بتحسين أدائها عن طريق ابتكار حلول جديدة لكي تكتسب ثقة التلميذ. واعتبر أن دور المدرس يكمن، بالأساس، في إرجاع هذه الثقة عن طريق إشراك الآباء وتحميلهم المسؤولية، لافتا إلى أن العديد من المؤسسات التعليمة تشهد، للأسف، تعطيلا لمهام جمعية الآباء التي تبقى موجودة فقط حبرا على ورق ولا يتم اللجوء إليها إلا خلال بداية الموسم الدارسي لجمع الواجبات المفروضة على التلاميذ. وأكد أن صيرورة الإصلاح التربوي تقتضي تقييما منتظما لمخرجات وأهداف المنظومة التعليمية، مشددا على أن جميع البرامج والاستراتيجيات التي تم وضعها لإصلاح هذه المنظومة هي في الأخير عبارة عن اقتراحات وحلول لمشاكل وليست "وصفة نهائية" لحل جميع معضلات التعليم، من قبيل محاربة الغش في الامتحانات، الذي تحول من "غش ورقي" إلى "غش إلكتروني" تستعمل فيه أحدث الأدوات التقنية. وخلص إلى أن طبيعة العملية التربوية لا تعرف الحلول الجاهزة بل تستوجب عملا دؤوبا وحرصا متواصلا على مواجهة مظاهر أي انحراف حال بزوغه، لاسيما عن طريق الاستثمار في بناء منظومة إعلامية لتمكين الوزارة والأكاديمية من الإطلاع المنتظم على ما يجري بمختلف المدارس المتواجدة بالمدن والقرى التابعة للجهة، والتي يقدر عددها بأكثر من 1300 مؤسسة تعليمية يدرس بها و950 ألف تلميذ، فضلا عن تفعيل مرصد جهوي لمحاربة العنف داخل الوسط التربوي لمحاصرة هذه السلوكات المنحرفة، وذلك بتعاون مع السلطات والأسر والفاعلين في القطاع. من جانبه، عزا الكاتب العام للجامعة الحرة، المنضوية تحت لواء الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، يوسف علاكوش، في حديث مماثل، الوضع المتردي الذي تعرفه العديد من المؤسسات التربوية، بالأساس، إلى السياسات الحكومية المتبعة في القطاع، وكذا انتشار الصورة النمطية التي أصبحت لصيقة بالمعلم والمدرسة العمومية، وهو ما جعل العلاقة بين المدرسة والتلميذ ترتد إلى علاقة استفزاز وتوتر. واعتبر أن المدرسة لم تعد قادرة على تقويم سلوكات التلميذ من أجل اندماج تام في كل مجالات الحياة، مشددا على أن الشارع دخل، هو الآخر، بحمولته السلبية في مجمل التغييرات التي تشهدها المؤسسات التعليمية. وأكد ذات النقابي أن تجاوز هذا الوضع ومحاصرة ظاهرة العنف يقتضي تضافر جهود جميع الفاعلين، من سياسيين وحقوقيين ونقابيين، مشددا على أن السبب المباشر لتفشي ظاهرة العنف هو تردي الفعل التربوي داخل المؤسسة التعليمية، بعد تخلي المدرس عن دور المربي والمهذب ليقتصر على التحصيل المعرفي، وكذا بعد انصراف الأسرة إلى تتبع فقط النتائج المحصلة وتسجيل أبنائها في المعاهد العليا. وخلص المتحدث إلى أن تخلي كلا من المدرسة والأسرة عن دورها التربوي هو الذي أفضى إلى تنامي ظاهرة العنف والعنف المضاد داخل الوسط المدرسي، مشددا على أن الحل لا يكمن في سن قوانين زجرية بل في إرادة جماعية تروم في العمق إرجاع المدرسة إلى سابق عهدها وتحصين قدسية مهنة التدريس. من جانبه، أكد الأكاديمي عبد الرحيم العطري، المتخصص في علم الاجتماع بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، أن أحداث العنف الأخيرة التي شهدتها عدة مدارس عمومية لا يمكن استقراؤها خارج سياق التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها حاليا المجتمع، موضحا أن ذلك يعد مؤشرا على تحول قيمي خطير بشأن الصورة والمكانة الاعتبارية المرتبطة على السواء بالمدرسة والمدرس. وأبرز هذا الخبير، أن ما وقع يحيل بشكل مباشر على تقلص الأدوار المنوطة بمؤسستين مركزيتين، وهما المدرسة والأسرة، وذلك بعد أن أصبح دور الأسرة المتعلق بالتربية والتنشئة مقتصرا على "توفير المرقد والمأكل"، ومهمة المدرسة على الوظيفة التلقينية فقط. وتأسيسا على ذلك، يضيف الأكاديمي، أصبح الشباب يعيش وضعا يتسم بالضياع وفقدان البوصلة التربوية والثقافية والاجتماعية الصحيحة، "بمعنى أننا حطمنا ما زرعناه من خلال تخلي المدرسة والأسرة على دورهما الحقيقي" في بناء جيل قوي محصن ضد العنف. واعتبر الباحث في علم الاجتماع "ما وقع لا يمكن اختزاله في كونه مجرد حالات معزولة بل إنه ناقوس خطر ومؤشر هام يدعونا إلى إعادة النظر في أسس المنظومة القيمية والتربوية والتفكير في المآل الذي ينتظر شبابنا في ظل منظومة تعليمية معطوبة". وشدد على أن المدرسة العمومية والأسرة أصبحتا على السواء في حاجة ماسة إلى التحصين حتى يكونا باستطاعتها تخريج شباب منتمي إلى وطنه نابذ للعنف ومعتز بقيمه الثقافية والمجتمعية، معتبرا أن الشباب أصبح ينحو بشكل مخيف إلى السقوط في دوامة العنف لأتفه الأسباب، بحيث أصبحت، على سبيل المثال، مباراة في كرة القدم تتحول بسهولة إلى مشاهد عنف وتخريب للممتلكات. وقال الباحث في علم الاجتماع إن توصيف ما وقع بأنه "ظاهرة" ينطوي على نوع من المجازفة، على اعتبار أن مثل هذه الحالات لا تكتسي طابع الشمولية والتكرار والشيوع. إلا أن هذه السلوكات العنيفة - وإن لم ترق بعد إلى مستوى الظاهرة - تحيل على وقائع دالة لا ينبغي اعتبارها ذات طبيعة عابرة وإسدال الستار على تدارس أبعادها. وخلص الأكاديمي إلى أن العنف أصبح حاضرا بقوة في المجتمع، لكن سياقاته وممارساته هي التي تختلف تجلياتها، مشددا على أن تنامي السلوكات العدوانية داخل الوسط المدرسي هو مؤشر على اختلالات قيمية وعطب اجتماعي وعلى استقالات مؤلمة قدمتها الأسرة والمدرسة من العملية التربوية، تاركة أمام التلاميذ مساحات رمادية جعلتهم في حيرة أي طريق يسلكون.