إن سياقات تعامل الدولة المغربية مع حركية الشارع، عرفت مجموعة من المقاربات التي أسالت غير قليل من المداد حول مدى امتلاك وزارة الداخلية لرؤية استراتيجية في تدبيرها للملفات الاجتماعية، أم أن الأمر لا يرقى إلى مستوى البناء الاستراتيجي، إلى الاكتفاء ب "ردّات فعل" مرحلية، يمكن أن تدخل في إطار التدابير التكتيكية لحل الأزمات الاجتماعية. إن رصد مقاربة وزارة الداخلية للأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة الحسيمة يمكن أن يساعد على رسم معالم "استراتيجية" أم الوزارات في التعاطي مع حركية الشارع، وإلى أي حد يمكن أن تكون هذه المقاربة "مُطَمْئِنة" للمواطن المغربي ولصانع القرار السياسي على السواء. إن واجب الانتماء لهذا الوطن الكبير ومنطق العيش المشترك بين جميع مكونات الشعب المغربي، يفرض علينا طرح قراءتنا لما جرى على مستوى مدينة الحسيمة ومحاولة تكييفه مع الأبعاد التي تأخذها غالبا بعض المطالب الاجتماعية والتي تكون بالأساس ناتجة عن ردات فعل طبيعية لحاجيات اجتماعية واقتصادية وتنموية آنية، أو ناجمة عن بعض التراكمات التاريخية والتصادمية للعلاقة مع الدولة يتم تصريفها عبر مجموعة من التعبيرات الاحتجاجية تختلف حدتها حسب البيئة الاستراتيجية لكل مرحلة تاريخية. إن الأحداث التي عرفتها مدينة الحسيمة، لا يمكن تفكيكها وفهمها إلا من خلال رؤية ثلاثية الزوايا ترتكز حول المعطيات التالية: أولا: هذا المعطى يفترض حسن الظن في المكونات التي تقود المطالب الاجتماعية في محاولة منها للضغط على الدولة في اتجاه تنفيذ مجموعة من المطالب الاجتماعية والتنموية التي لم تكن الأرضية التي انطلق منها الاحتجاجات بعد وفاة المواطن محسن فكري، والتي تبقى مقبولة إلى حد بعيد. ثانيا: وجود أيادي مغربية تعيش في الخارج لها حسابات "أمنية" و"سياسية" مع الدولة المغربية وتحاول استغلال "الأحداث" من أجل الضغط على الدولة لإجبارها على عقد صفقة "ما" تعيدها إلى واجهة الأحداث بالريف. هذه الأيادي "المعروفة" تنشط في المثلث الكلاسيكي لتواجد الجالية المغربية من أصول ريفية في كل من "هولندا، ألمانيا، بلجيكا". ثالثا: وهو معطى غالبا ما يَبرز بعد "نجاح" المكونات الأولى والثانية في إحداث نوع من الضغط على الدولة وظهور مؤشرات التصعيد. وهنا تتدخل بعض الجهات المعروفة بدفاعها عن الأطروحة الانفصالية من أجل دعم الاحتجاجات، ومحاولة إنهاك المملكة أمنيا وسياسيا وحقوقيا، في محاولة لكسب نقاط إضافية في مسلسل الصراع والعداء مع المغرب. وهنا نسجل تقاطع بعض أطروحات أصحابها في الصحراء المغربية مع بعض الأصوات الشاذة التي لازالت تعزف على الأسطوانة المشروخة للانفصال. على هذا المستوى، يمكن أن نستوعب "الهدف الاستراتيجي" الذي وضعته وزارة الداخلية، والذي يبقى واضحا وثابتا من خلال السهر على "عودة الأمور إلى حالتها الطبيعية الهادئة من خلال العمل على الاستجابة للمطالب الاجتماعية للساكنة بطريقة ذكية وهادئة يغيب عنها منطق "لي الذراع" و"فرض الأمر الواقع"، وذلك ضمن آجال زمنية معقولة. هذا المعطى، دفع بوزارة الداخلية إلى تفكيك استراتيجية التحرك إلى ثلاثة مستويات تكتيكية، وفق ما يطلق عليها محترفو الأمن القومي "نظرية الأمن الشامل". هذا الأخيرة تعتمد على تفادي المقاربة الأمنية الصرفة في مواجهة حركية الشارع الذي يأخذ، في بعض الأحيان، شكلا عنيفاً، في مقابل طرح المقاربة الأمنية الشاملة والتي تعتمد على تعاطي متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه المعطى الأمني بالمعطى الاجتماعي والتنموي والاقتصادي، في أفق القضاء على البيئة القادرة على إنتاج وضع اجتماعي محتقن. في هذا السياق، اقتصرت المقاربة الأمنية لوزارة الداخلية على الأفراد الذين تبث ارتكابهم، من خلال قرائن قومية وأدلة تلبُّسية ثابتة، لأحداث مست بالأمن العام وألحقت أضرارا بمؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية. هذه المقاربة المحدودة، في الزمان والمكان، تبقى من صميم واجبات الدولة اتجاه مؤسساتها ومواطنيها، على اعتبار أن الدولة، بالمعنى الفيبيري، تبقى الوحيد التي تمتلك الحق في اللجوء إلى "القوة المشروعة" من أجل التصدي إلى جميع المحاولات التي تروم النيل من أمنها القومي ووحدتها السياسية. بالمقابل، ستتسع مستويات تدخل وزارة الداخلية، من خلال التنسيق مع باقي القطاعات الوزارية من أجل إخراج المشاريع التنموية بالمنطقة إلى حيز الوجود وعلى رأسها تلك المرتبطة بمشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، والتي يبدو أنها متجهة نحو الإنجاز ضمن الآجال الزمنية التي تعهد بها وزير الداخلية أمام نواب الأمة بمناسبة إحدى جلسات مجلس النواب المخصصة للأسئلة الشفهية. كما أن جلالة الملك كلف المفتشية العامة لوزارة الداخلية بالإضافة إلى وزارة المالية بإنجاز تحقيق حول تأخر إنجاز المشاريع التنموية بمدينة الحسيمة ويُنتظر رفعها للملك من أجل ترتيب الآثار القانونية والإدارية على ذلك. من جهة أخرى، تبنت وزارة الداخلية، من خلال أطلقنا عليه ب "منظومة الأمن الشامل"، رؤية مجالية واسعة تهدف إلى التسريع بالوتيرة التنموية على المستوى الوطني من خلال القيام بجولات ماراطونية ولقاءات دورية مع القطاعات الوزارية والهيئات المنتخبة على مستوى عموم التراب الوطني من أجل اقتراح المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية الملحة وكذا تسريع وتيرة المشاريع المبرمجة والتي لازالت عالقة لاعتبارات تقنية وإدارية. هذه المقاربة، قطعت الطريق على بعض أطروحات ذووا النيات السيئة، والتي ربطت تحرك الوزارة بالحسيمة بالضغط الجماهيري الذي فرضته ساكنة المدينة، لتؤكد على أن نهج وزارة الداخلية يتجاوز الطرح الجغرافي الضيق إلى تبني استراتيجية وطنية شاملة تهدف إلى تسريع الوتيرة التنموية والعمل على التعاطي الإيجابي مع المطالب "المعقولة" للمواطن المغربي في عموم التراب الوطني. إجمالا يمكن القول، أن وزارة الداخلية عرفت، منذ عقدين من الزمن، تغييرا في تعاطيها مع حركية الشارع من خلال تجنب المنطق الكلاوزفيتي في المواجهة، مع تبني ما يصطلح عليه ب "نظرية الاقتراب غير المباشر". هذه النظرية تهدف إلى تفادي المعطى الأمني الصرف، وتفضيل التعامل مع الأزمات الداخلية من خلال التركيز على القضاء على مسببات الاحتقان، وكذا العمل على إنتاج الشروط الذاتية والموضوعية لبيئة استراتيجية مستقرة تَقْرِن بين المحافظة على الأمن العام وتحقيق مؤشرات تنموية مرتفعة من أجل ضمان الشروط الصحية لممارسة ديمقراطية سليمة بالمملكة. *متخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية