الفاعل السياسي وملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المخارج الممكنة والإصلاحات الضرورية الحديث عن ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، هو حديث في العمق عن الوجه الأكثر بشاعة وإيلاما لنظام الاستبداد السياسي بالمغرب، الذي يشكل أحد التمظهرات الاساسية لغياب الديمقراطية في تدبير الشأن السياسي وإدارة شؤون البلاد. شكلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو ما اصطلح عليه على امتداد الأربعة عقود الأخيرة من القرن الماضي بقضية الاعتقال السياسي في المغرب، (شكلت) ولازلت ظاهرة بنيوية وهيكلية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي، وأسلوبا مركزيا وثابتا لتعاطي الحكم مع المعارضة، ممن يخالفونه الاختيار الفكري والسياسي والثقافي. بحيث لم تحكم هذه الظاهرة أسباب ظرفية وطارئة، بل ظلت ملازمة وبشكل متواصل لطريقة تدبير الحكم وتعاطيه مع معارضيه. وإن كانت قد تفاوتت حدة هذه الظاهرة من مرحلة لأخرى، وظلت مشروطة في ذلك بطبيعة الصراع السياسي الذي عرفه المغرب ولازال إلى الآن. الانتهاكات: السياقات والأشكال وتبعا لذلك، عرف المغرب منذ استقلاله السياسي سنة 1956، الكثير من الأحداث السياسية، والهزات الاجتماعية، والحركات الاحتدجاجية، اقترنت بدوافع سياسية. بدءا بالصراع حول المضمون الذي سيأخذه الاستقلال والاختيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ستسير عليها البلاد، وانتهاء بالكيفية التي ستدبر بها شؤون البلاد، وكذا طبيعة نظام الحكم التي ستحددعلاقة الحاكمين بالمحكومين. لقد ترتبت عن هذا الصراع، أحداث دموية كبرى (الريف 1958 –البيضاء سنتي 1965-1981، مراكش ومدن الشمال 1984، فاس وطنجة 1990...)، واعتقالات ومجاكمات سياسية شاملة وواسعة (1963 –1969 –1971 –1972 –1973 –1977 –1979 –1981 –1984 –1986 –1990 ... 2003 –2004). كما عرف هذا التاريخ أسلوب الاغتيال السياسي (بنبركة، بنجلون، كرينة، زروال، التهاني). وكان من نتائج هذه الفترة التاريخية الممتدة إلى الآن، قمع سياسي شامل، مورس بشكل مستمر، وبأساليب وأشكال متعددة، تجسدت في الاغتيالات الفردية والجماعية، والإعدامات خارج نطاق القضاء والقانون. ونزع الممتلكات (حالة خنيفرة)، والاختطاف، والاعتقال، والنفي الإجباري، وغير ذلك من ضروب المعاملة القاسية والماسة بالكرامة والحرية، الشيء الذي جعل نتائج هذا الاختيار بكل مسبباته، تندرج في خانة الانتهاكات الجسيمة وفق المعايير الدولية والكونية المتعلقة بحقوق الإنسان، بحيث كان هذا القمع سياسيا، ومنظما وممنهجا وشاملا لآلاف الضحايا وذويهم، وامتدت أثاره ومخلفاته إلى المجتمع برمته. السياسوية الجزئية والظرفية إذا كان حجم مخلفات سنوات الرصاص ثقيلا ومرعبا لأجيال العقود السابقة، وما ترتب عن امتداداتها من اختلالات سياسية ومجتمعية كبرى، فكيف تعاطى الفاعلون السياسيون مع إشكالية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب؟ لقد تعامل افعلون السياسيون مع ملف الانتهاكات تعاملا سياسويا صرفا، لم يرق إلى مستوى الرؤية الواضحة لهذا الملف، والمعالجة الشاملة له ولمسبباته، بحيث ظلت مقاربة هذه النخب محكومة برؤية سياسية جزئية وظرفية، لاعتبارات تختلف باختلاف الحساسيات السياسية. ولم تتجاوز هذه الرؤية سقف المطالبة بالعفو الشامل على المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المختطفين من دون الوقوف على الأسباب العميقة التي كانت وراء تعرضهم للاضطهاد بسبب ممارسة حقهم المبدئي والمشروع في العمل السياسي والنقابي والثقافي والجمعوي، ودون معالجة نتائج هذا الملف بالنسبة للضحايا والمجتمع عبر اتخاذ كل الإجراءات والتدابير التي من شانها وضع حد لكل التجاوزات التي قد تطال كل من خالف السلطة الرأي والاختيار السياسي والمذهبي والثقافي. ولقد تركزت مقاربة الفاعلين السياسيين لهذا الملف، لفترة غير قصيرة في التوظيف السياسي الظرفي والجزئي، في إطار الصراع المجتمعي، لجني مكاسب سياسية لحظية. بحيث تراوحت هذه المقاربة بين التشهير السياسي والاحتجاج، وفضح جرائم النظام المغربي في المحافل الدولية، واستصدار قرارات دولية ضد المغرب الرسمي خصوصا من طرف البرلمان الأوربي طيلة عقد الثمانينات (تركز هذا النشاط في أوربا الغربية بالخصوص)، وبين مقاربة ثانية تنبني على تسويات سياسية، غالبا ما كانت تقضي إلى إطلاق سراح جزئي لمعتقلين، مقابل تنازلات سياسية في بعض القضايا، أدت في نهاية المطاف إلى ارتهان جزء لابأس به من القوى السياسية لمقاربة الدولة، والتماهي الكلي معها، من خلال مشاركتها في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في صيغته الأولى، وتبني توصيته السيئة الذكر الصادرة عنه في أبريل من سنة 1999، والقاضية بالعفو عن مسؤولي وأعوان الدولة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتجريم الضحايا باعتبارهم كانوا يشكلون خطرا على أمن الدولة. نقلة نوعية إن الدينامية السياسية والحقوقية التي عرفها المغرب في أواخر الثمانينات وعلى امتداد عقد التسعينات والتي وجدت تعبيراتها في الوقفات الاحتجاجية وشهادات الضحايا لمعاناة سنوات الرصاص داخل السجون والمعتقلات، وتحديد الأساليب القمعية، وذكر أسماء الجلادين والمسؤولين عن أجهزة القمع الفردي والجماعي، خلقت تراكما هاما، جسد انتقالا نوعيا في النضال الحقوقي، تبلور في خضم صيرورته، منتدى الحقيقة والإنصاف الذي شكل قفزة نوعية في المجالين الحقوقي والسياسي، بطرحه لرؤية استراتيجية شاملة لمعالجة قضية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب بحيث ربطت هذه الرؤية بين مطالب الضحايا ومطالب المجتمع متجاوزة في ذلك المقاربة السياسية الاختزالية والمقاربة الحقوقية التجزيئية، وذلك بتحديد أهدافه في إقرار الحقيقة، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات، وجبر الضرر، وإعادة الاعتبار للضحايا والمجتمع ككل، وأخيرا الوقاية من تكرار ما جرى عبر إرساء نظام قانوني ومؤسساتي يضمن احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. لقد غذت أطروحة المنتدى هاته كفاح الحركة الحقوقية المغربية، وشكلت مرتكزا فكريا وعمليا لمناظرة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المنعقدة بالرباط سنة 2001، والتي شارك فيها المجتمع المدني والسياسي المغربيين، وتبنى التوصيات الصادرة عنها. بحيث أعطت أفقا حقوقيا وسياسيا متكاملا لمعضلة سنوات الرصاص. غير أن منطق التسوية السياسية المهيمن في المجال السياسي، وكذا الظرفية التي تمر منها البلاد برهاناتها، جعلت تلك الأطروحة لا تلقى للأسف التفاعل الإيجابي من الفاعلين السياسيين، والذين تعاملوا معها بشكل انتقائي ولم يدفعوا بتلك المقاربة إلى حدودها القصوى، لأن الحساب السياسي، لا يتيح لهم من الإمكانيات ما لا يتجاوز الخطوط الحمراء. إن تسوية عادلة ومنصفة، للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا يجب إن تقف عند حدود الضحايا المباشرين، بل يجب أن تمتد إلى المجتمع برمته وبرؤية تتجه نحو المستقبل، لحماية الأجيال القادمة من كل أسباب العسف والاضطهاد السياسيين. الشيء الذي يجعل الفاعل السياسي ملزم بفتح أفق هذه المقاربة في اتجاه القطع مع ماضي الانتهاكات، وتجاوز مخلفات الاختيارات السالبة للحريات، وتسييد الرأي الوحيد والأوحد، والتي احتلت فيه المقاربة الأمنية والقمعية موقع الصدارة. ومن الصعوبة بمكان، أن تجد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب حلها المنصف والعادل، من دون أن تجد ترجمتها العملية في التدبير السياسي للدولة للشأن العام، والتعاطي مع الاختلاف. وذلك للتداخل القائم والوثيق بين الحل الشامل لهذا الملف والديمقراطية. فحماية الحريات الفردية والجماعية داخل المجتمع لا يمكن أن تتم إلا من خلال وضع أسس وقواعد قانونية ودستورية وإدارية لنظام حكم ديمقرطي، وإعماله على مستوى الإنسان والسياسية والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين. إن القطع مع الماضي، والتأسيس لمجتمع المستقبل، يجعل هذه المهمة تتجاوز الضحايا كأفراد، وتصبح قضية المجتمع برمته في ماضيه وحاضره ومستقبله. كما يمكن أن ترهن مستقبل الأجيال القادمة، ما لم تتم المعالجة الجذرية والشاملة لها للقضاء على مسببات مآسي الماضي، والتي تجد حلها إضافة إلى الكشف عن الحقيقة، والإعتذار الرسمي للدولة، وجبر الضرر، في عاملين اثنين حاسمين: * الكفاح ضد ظاهرة الإفلات من العقاب، بحيث أن التسترعلى الجرائم المقترفة من طرف الدولة وأعوانها، وعدم الإعتراف بذلك، وشرعنة هذه الظاهرة بإصدار العفو عن الجلادين، يشكلان مميزات تتمظهر على مستوى البنية القانونية والدستورية والقضائية، لأن الحقيقة في أحد أوجهها تقوم على تحديد المسؤوليات في ارتكاب الجرائم والإنتهاكات، بما فيها تحديد أسماء الأشخاص مرتكبي الانتهاكات، ودرجات مسؤولياتهم المباشرة وغير المباشرة، والأجهزة المسؤولة عن التخطيط والأمر بالتنفيذ، ومباشرة القيام بإجراءات وقائية وقانونية وقضائية لمساءلة الجناة، ومحاسبة الجلادين، وتقديم المسؤولين عن الأجهزة السرية والعلنية المتورطة في الجرائم إلى المحاكمة مع ضمان نزاهة القضاء واستقلاليته. غير أن المتابعة القضائية لا تعني الانتقام، بل يقتضيها الواجب الأخلاقي اتجاه الضحايا لتأكيد سلطة القانون، وسمو القيم الديمقراطية، كي تمنح الضمانات الضرورية لأجيال المستقبل. * القيام بتغيير ديمقراطي شامل، ينطلق بحل كل الأجهزة الأمنية السرية والموازية المتورطة في الجرائم السياسية المقترفة في حق المعارضة وإخضاعها للقانون والمراقبة من طرف الحكومة، وإعادة هيكلة وزارة الداخلية، بما يرفع يدها عن باقي الوزارات والمرافق العمومية، وجعلها في خدمة المواطنين تحت إشراف الهيآت المنتخبة محليا ووطنيا، ويرفع يدها عن جهاز القضاء واستقلاليته، وإصلاح دستوري يرتكز على فصل حقيقي للسلط ويعزز دور القضاء كسلطة مستقلة وغير خاضعة للتعليمات والتوجيهات السياسية، ويمنح للبرلمان إمكانيات وصلاحيات حقيقية وواسعة في مجال التشريع، وبما يلائم القوانين مع المواثيق الدولية، ويجعله يلعب دوره كاملا في مراقبة الحكومة.