مع أن المجلس الأعلى للحسابات كان حاضرا في تفاعلات وشعارات الاحتجاج المطلبي المغربي ورغم أن الدستور الجديد أحدث بالفعل ما يشبه الثورة المؤسساتية الهادئة في منظومة الرقابة والمحاسبة عموما وموقع المجلس الأعلى للحسابات خصوصا تزاوج بين طابعها الفني وطابعها السياسي المؤسساتي، ستجعل المغرب إن استطاع وضعها موضع التطبيق الصادق والأمين، يدخل آفاق المراقبة الديمقراطية للحكامة من أبوابها الواسعة، فإن هذا الموضوع الجوهري والدقيق لم يأخذ حقه من البيان والتوضيح. من أجل ذلك كانت هذه المساهمة التي تتناول جميع فقرات الباب العاشر من دستور 2011 ،الخاص بالمجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات: 1- المجلس الأعلى للحسابات هو الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، ويضمن الدستور استقلاله. تكتسب هذه الفقرة الجديدة أهمية جوهرية من ناحيتين: الناحية الأولى: تكريسها الدستوري لعلوية المجلس الأعلى للحسابات وشمولية رقابته: - العلوية : أي علوية المجلس الأعلى للحسابات ضمن أجهزة الرقابة المالية الأخرى، أي أنه الجهاز الأعلى للرقابة والمحاسبة وفق التعريف والاصطلاح المتعارف عليه عالميا لدى المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة التابعة للأمم المتحدة (إنتوساي)، وبالتالي فلا مجال للمقارنة والقياس بين المجلس الأعلى للحسابات وأجهزة الرقابة الحكومية كالمفتشية العامة للمالية والمفتشيات العامة للوزارات في حين أن المجلس الأعلى للحسابات هو جهاز دولتي Corps Etatique على غرار الحكومة والبرلمان والقضاء والمجلس الدستوري، بوصفه يمثل سلطة خاصة مستقلة، لا هي حكومية ولا هي برلمانية ولا هي قضائية بل هي سلطة الرقابة على المال العام والمساءلة عليه وإن ارتدت كسوة قضائية، أي السلطة الخامسة، الصاعد نجمها عالميا مع توالي الأزمات المالية العمومية... - الشمولية: أي شمولية رقابة المجلس الأعلى للحسابات ، تكريسا لمبدإ مستقر لدى أهل الذكر في مجال الرقابة والمحاسبة ومفاده: كلما وحيثما كان المال العام حاضرا يجب أن يكون الجهاز الأعلى للرقابة حاضرا وتعني الشمولية القطع النظري والعملي ، في الواقع والمظهر مع عهد الجزر المحصنة عن أعين حراس الشرعية المالية والمحاسبية . الناحية الثانية: المجلس الأعلى للحسابات جهاز مستقل بموجب الدستور. هذه النقطة بالغة الأهمية، لأنه لم يكن منصوصا عليها في الدستور السابق ولأن الضمانة الدستورية للاستقلال تجعله يكتسب حصانة رفيعة ومتميزة (قارن مع استقلال السلطة القضائية التي يضمنها الملك بموجب دستور 2011)، وللاستقلال مستلزمات ومتطلبات وقواعد مكرسة ومستقرة نذكر من بينها طريقة تعيين وإعفاء الرئيس ودور البرلمان في هذه المسطرة ، ومدة انتدابه التي لا يجب أن تتجاوز 7 سنوات، وكذا حرية واستقلال الجهاز في تحديد برنامج عمله وتوفير الموارد والقدرات .. إلخ والمهم أن يتلازم الاستقلال مع الفعالية أي أفضل علاقة ممكنة بين إنجازات المجلس وموارده، بحيث يتم تبرير الأموال العامة المصروفة على المجلس بقدر الأموال العامة التي ساهم المجلس في اقتصادها أو في استرجاعها ثم يصار إلى استخراج معدل الفعالية. 2- يمارس المجلس الأعلى للحسابات مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة (=الرشيدة) والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية. تكرس هذه الفقرة الجديدة المهمة الرسالية للمجلس الأعلى للحسابات، بوصفه جهازا مختصا بتدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الرشيدة ولاسيما المبدئين الجوهريين التاليين: الشفافية والمساءلة. الديمقراطية في وقتنا الحاضر تقترن بالشفافية والمساءلة وحكم القانون باعتبارها أدوات تضمن القطع مع ثقافة التسلط والاحتكار والارتجال والعشوائية والإفلات من العقاب المؤدية إلى تفشي سرطان الفساد. ولكي ينهض المجلس الأعلى للحسابات بهذه المهمة الرسالية الخطيرة والنبيلة فلا مناص من تدعيم قدراته من جهة وإخضاعه هو نفسه لمعايير الشفافية والمساءلة وحكم القانون، وذلك من باب أولى وأحرى من جهة أخرى. فضلا عن توفير بيئة مؤسساتية وثقافية تلاقيه في أداء مهمته ولا تعرقل جهوده أو تسكت على جموده. 3- يتولى المجلس الأعلى للحسابات ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، ويتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ عند الاقتضاء عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة. هذه الفقرة كانت موجودة في النص السابق وهي تحدد الوظائف الأساسية للمجلس الأعلى للحسابات وهي: تدقيق الحسابات (رقابة قضائية)، مراقبة التسيير (رقابة إدارية)، التأديب المالي (قضاء تأديبي مالي). والمطلوب حاليا من المجلس الأعلى للحسابات الذي يبدو أنه غارق في ممارسة اختصاص واحد غير قضائي (رقابة التسيير) أن يهتم أكثر بتدقيق الحسابات، ولاسيما التأديب المالي ، أي الانتقال من الرقابة إلى المساءلة ، لإحداث توازن في أدائه غير المتوازن بين اختصاصاته الثلاث من جهة وبين وظيفة الرقابة و وظيفة المساءلة من جهة أخرى، حسبما يبدو من خلال تقاريره السنوية.(للتفصيل حول هذه النقطة يراجع حوارنا مع الصحفي علي الباهي الذي أعاد نشره موقع هسبريس بتاريخ 8-5-2011). 4- تناط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية: هذه الفقرة جديدة بدورها، من حيث تكريسها للاختصاص الدستوري والحصري والعام للمجلس الأعلى للحسابات فيما يخص مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية وفحص نفقات العمليات الانتخابية فيما يخص أموال الدعم العمومية. ولئن كان هذا الاختصاص منصوصا عليه في قوانين أخرى خاصة غير مدونة المحاكم المالية، فإن الدستور الجديد لم يكن تحصيل حاصل بتكريسه الطابع الحصري والعام لاختصاص المجلس الأعلى للحسابات، وهكذا فإن التصريح بالممتلكات أمام المجلس أصبح يشمل أيضا ثروات القضاة وقضاة المحاكم المالية، وعندما يقول الدستور المجلس الأعلى للحسابات فهذا يعني نزع هذا الاختصاص من المجلس الأعلى للقضاء بالنسبة للقضاة ومن مجلس قضاء المحاكم المالية بالنسبة لقضاة المحاكم المالية وتحويله إلى غرفة التصريح بالممتلكات بالمجلس الأعلى للحسابات وإلى نظيرتها بالمجالس الجهوية للحسابات مما يضع على كاهل هذه الغرفة الوليدة مهام جساما لست متأكدا مما إذا كانت مؤهلة له في الوقت الحاضر، بشريا وماديا وفنيا. وهذا التجديد جدير بالترحيب لأنه يكرس معياري التوحيد والتنميط ويقطع مع التناثر والاستثناءات والمعاملات الخاصة. أي أن جميع المسؤولين معينين ومنتخبين وقضاة وقضاة المحاكم المالية، ملزمون بوضع تصريحاتهم لدى جهة واحدة. ونفس الأمر ينطبق على تدقيق الحسابات وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية ، لم يعد المجلس مكتفيا بترؤس لجنتي الفحص والتدقيق متعددتي الأطراف فقط بل أصبح صاحب الاختصاص الحصري مما يستلزم إجراء تكييف جزئي في القانون الحالي الخاص بالأحزاب وإدماج هذا النص صراحة في مدونة المحاكم المالية المفترض تعديلها. ويترتب عن ذلك أمور هامة على رأسها أن هذا النص سيشمله النص الوارد في الفصل 148 بعده الذي يلزم المجلس بنشر مجموع أعماله من بينها الآن التقارير التي كان ينجزها حول فحص نفقات العمليات الانتخابية ويكتفي بإحالتها على ما كان يسميه المجلس الجهة المختصة (=وزارة الداخلية)، أما الآن فقد أصبح ملزما بنشر هذه التقارير وهو شيء هام يعزز من دعائم الحكامة السياسية الحزبية. 5- يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة، ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة. هذا النص ثوري بكل المقاييس ينطوي على معان ودلالات جوهرية من شأنها أن تشكل نقلة نوعية حقيقية لنظام الرقابة والمحاسبة على المال العام ببلادنا على غرار الديمقراطيات الراسخة في عالمنا الحاضر إنه يؤسس بنص الدستور جسور العلاقة التفاعلية التي يجب أن تسود وتترسخ بين المؤسستين الأهم في مجال الرقابة والمحاسبة: البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات، وينقل إيقاع العلاقة وعمقها من مستوى محدود نظريا ومعدوم عمليا إلى مستوى عال ومتحرك ومنهجي (!) لقد كان النص الدستوري السابق يحيل في الإشارة إلى مساعدة المجلس للبرلمان على القانون الذي كان يحدد هذه المساعدة في نقطتين اثنتين لاحقتين على تنفيذ الميزانية، وهما التصريح العام بالمطابقة والتقرير حول تنفيذ القانون المالي لكن حتى هاتان النقطتان كانت عمليا مفروغتين من المحتوى نظرا لتأخر الحكومة في إصدار مشروع قانون التصفية، وبالتالي عمليا لم تكن للمجلس الأعلى للحسابات أية فعالية في مساعدة البرلمان المحدودة أصلا بنص قانون المحاكم المالية. أما الآن فإن الدستور أقام جسرا متواصلا ومنهجيا طوال السنة مع البرلمان، وهذا هو الجديد المهم، إذ سيكون بإمكان البرلمان كما هو الشأن في التجارب المتقدمة الاستناد إلى تنويرات ومعلومات وتقارير المجلس من أجل رفد عمله التشريعي من جهة وعمله الرقابي والتقييمي من جهة أخرى، وكم سيكون ثوريا وجميلا أن نرى - ولم لا على الهواء مباشرة- حلقات استماع برلمانية للمسؤولين عن تدبير الشأن العام بحضور قضاة المحاكم المالية كملاحظين يقدمون التوضيحات والاستشارات متى ما طلبت منهم اللجنة البرلمانية المختصة ، وذلك على غرار التجربة البريطانية العريقة أو تجربة مكتب المحاسبة الأمريكي مع الكونغرس. وهذه لعمري لم تم تفعيلها يكون أثرها رادعا وعميقا أكثر عشرات المرات من الأثر الرادع لبعض العقوبات الجنائية دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية تحريك المتابعات الجنائية. إن تفعيل هذا النص وتعزيزه ببرلمان مؤهل وجريء وبمجلس أعلى للحسابات مؤهل وجريء ومنفتح لهو ضمانة لصوغ تجربة مغربية-مغربية في المراقبة وتوازن السلط، تقوي البرلمان بذراع رقابي موضوعي ومستقل وتقوي المجلس الأعلى للحسابات بإضفاء المزيد من الأهمية والحيوية على ملاحظاته واكتشافاته من جهة، مع تأمين المتابعة والمحاسبة والمساءلة ذات الطابع السياسي لأعماله ومجهوداته من جهة أخرى الأمر الذي سيدفع المسؤولين الحكوميين إلى التفكير مرتين قبل الإقدام على أي سياسة عمومية مرتجلة أو أي خيار عشوائي في تسيير الشأن العام و المال العام. 6- يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدة للهيئات القضائية. فقرة جديدة بدورها تترجم فطنة المشرع الدستوري ووعيه بربط الرقابة بالمساءلة (من مقومات الدستور) ثم ربط المساءلة بأبعادها الثلاثة الأساسية: البعد القضائي إضافة إلى البعد السياسي (البرلمان) والبعد المالي والتأديبي (المجلس الأعلى للحسابات)، وعمليا لم يخترع المشرع الدستوري شيئا جديدا أو يستورده من الخارج، بل سن قاعدة من بنات المطالبات المغربية التي ما فتئت تنادي بتحريك المتابعة القضائية وتفعيل العلاقة التواصلية بين الرقابة والقضاء، مما يعني أن مدونة المحاكم المالية مطلوب من معدليها أن يحددوا الآن طبيعة وآليات وحدود المساعدة التي ينبغي للمجلس أن يقدمها للقضاء، وبالمقابل أعود وأؤكد أن المساعدة ينبغي أن تكون متبادلة، بحيث ينبغي للقضاء أن يحيل الملفات المتراكمة التي لم يقع تكييفها جنائيا والممكن تكييفها أمام المجلس الأعلى للحسابات في شكل خروقات مالية من قبيل التسيير بحكم الواقع أو التأديب المالي، ولا مناص هنا من عقد دورات تدريبية وتواصلية مشتركة بين قضاة المحاكم المالية وقضاة القضاء العدلي من أجل تبادل الخبرات والتجارب. أما إحالة الملفات الجنائية من المجلس الأعلى للحسابات إلى القضاء فقد كان منصوصا عليها في مدونة المحاكم المالية، ولكن أهمية الفقرة الجديدة في الدستور أنه يقيم جسرا تواصليا مستمرا من التفاعل والتعاون بقطع النظر عن حالة إحالة الملفات الجنائية من المجلس إلى القضاء ذات الطابع المناسباتي. ولن أمل من التذكير بمبدإ التبادلية. 7- يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للحكومة، في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون. هذا النص كان موجودا بحرفيته في النص السابق ويحيل على القانون الذي يتضمن عدة حالات للمساعدة منها إمكانية إدراج قضايا من اقتراح الوزير الأول ضمن برنامجه السنوي للرقابة وتقييم المشاريع العمومية، وغيرها، ولا يحتاج الأمر إلى تجديد أو إضافة، لأن فلسفة الدستور الجديد هي إعادة النظر في توزيع السلطات في اتجاه تقوية المراقبة الديمقراطية للحكامة (البرلمان –المجلس الأعلى للحسابات- الرأي العام) وذلك وفق منظور المراقبة في إطار توازن السلط. ما ينقص- من وجهة نظري- بصدد الحكومة ، التي يعمل المجلس لتطوير أداء مرافقه وتخليق سلوك مستخدميها هو أن تتحمل مسؤوليتها بخصوص الإدارات والمؤسسات التي لا ترد على تقارير المجلس و توصياته السابقة كما على المجلس أن يعي أن الرقابة الفعالة هي الرقابة الصديقة بمعنى التشاركية وليس التفتيشية التي لن تساهم سوى في تسميم العلاقة بين المجلس والإدارات الحكومية... 8- ينشر المجلس الأعلى للحسابات جميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية. هذه واحدة من أهم مستجدات الدستور وأعمقها أثرا، وهي ترجمة أمينة لواحدة من أهم المبادئ والمعايير المتعارف عليها عالميا فيما يخص استقلال وفعالية وشفافية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وأهميتها تكمن في أن الدستور السابق لم ينص عليها، أما قانون المحاكم المالية فقد كان مفعول مبدأ النشر مقصور على التقرير السنوي الذي لا يتضمن سوى ملخص للأعمال السنوية للمجلس ولم يكن يتضمن عمليا جميع أعماله، أي جميع التقارير الخاصة التي من المفترض أن يكون التقرير السنوي قد تضمن ملخصات لها. لكن هل كانت جميع التقارير الخاصة ترى النور في التقرير السنوي؟ وهو ما كان يفسر انتقادات البعض التي كانت تصوب على عدم شمولية وتوازن ما كان ينشر حول المرافق العمومية التي تمت مراقبتها، كان هذا عن جميع الأعمال بما فيها التقارير الخاصة أي التقارير التي كانت تنجز بصدد مرفق من المرافق، الآن أصبح المجلس ملزما بنشرها بمجرد انتهاء المسطرة. إضافة إلى التقارير الأخرى الخاصة بالأحزاب والانتخابات والممتلكات ... إلخ فلا سرية ولا حجز للمعلومات بعد اليوم. مما يكرس دخول الرأي العام على خط المراقبة الديموقراطية للحكامة. أما نشر المقررات القضائية فمسألة في غاية الأهمية من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: وفقا لدلالة الإشارة فإن هذا يعني أن المجلس الأعلى للحسابات ليس مفتشية عامة للمالية (بيس) كما يبدو لحد الآن، مهمتها إنجاز تقارير وتجميل الآخرين مسؤولية التابعة وتخصيص المآل، بل هو جهاز رقابة قضائية يتولى مهمة قضائية صريحة هي التأديب المالي كما يكتسي اختصاصه الرقابي في مجال البت في الحسابات طابعا قضائيا ويتوجها بإصدار أحكام. الوجه الثاني: بالرغم أن مدونة المحاكم المالية كانت تجيز صراحة نشر الأحكام وتنص على اختصاص هيئة الغرف المجتمعة في المصادقة على الأحكام المقرر نشرها فإنه منذ صدور مدونة المحاكم المالية ودخولها حيز التنفيذ سنة 2003 لم ينشر ولو حكم قضائي واحد. والحال أن الجميع ينتظر من المجلي الأعلى للحسابات تفعيل المساءلة التأديبية المالية ونشر نتائجها والتعليق على أفضل أحكامها قبل مطالبة الآخرين بتحمل مسؤوليتهم، أعني القضاء والحكومة والبرلمان. الوجه الثالث: إلزام المجلس بنشر أحكامه سيرغمه على مراجعة أخطائه واختلالاته في صياغة تقريره السنوي، الذي يتضمن اتهامات مباشرة وغير مباشرة بارتكاب خروقات مالية وجنائية صريحة (مخالفات وجرائم موصوفة)، في انتهاك سافر لقواعد المحاكمة العادلة، والحال أن التقرير السنوي لا ينبغي أن يتضمن إلا الملاحظات والتوصيات المتعلقة باختلالات التنظيم والتسيير وتقييم النتائج واقتراح التصويبات والتصحيحات. أما المخالفات ذات الطابع التأديبي أو الجنائي فمكانها ليس التقرير لأنه ليس تقريرا بوليسيا أو تحقيقا من الضابطة القضائية (وحتى في هذه الحالة لا يجوز نشره أو تسريبه قبل اكتمال المسطرة وتحويل المعنيين بالأمر إلى المحاكمة العادلة) بل هو تقرير افتحاص وتدقيق وتقييم وشتان بين التفتيش والتحقيق وبين التدقيق والافتحاص والتقييم. رب قائل يقول ماذا سيبقى من التقرير السنوي إذا حذفنا منه الخروقات التأديبية والإجرامية، أقول على المجلس أن يجتهد في اجتراح اقتراحات خلاقة لتطوير أنظمة الرقابة الداخلية وطرائق التسيير العمومي من أجل محاصرة منافذ الغش والانحراف والتضييق البنيوي على مراتع الفساد وهذا هو معنى التدقيق والافتحاص أي مراقبة التسيير الذي هو اختصاص إداري وليس قضائيا وقوامه تقديم ملاحظات حول طرق التسيير العمومي وليس تصيد المخالفات والجرائم من أجل نشرها دون المرور بالمسطرة المناسبة ، و هذه هي غايته أما الجرائم والمخالفات المالية الشخصية، فلا يعني حذفها من التقرير السنوي التكتم عليها، كلا وبالعكس، يعني فقط تحويلها إلى المسطرة الطبيعية وهي المسطرة القضائية، فهي تبقى مجرد اتهامات يتلوها تحقيق آخر قضائي هذه المرة ثم حقوق دفاع في المسطرة والمحاكمة، وبعدها تنشر تفاصيل الرقابة والمحاسبة والمساءلة والمعاقبة في الأحكام دون إثارة أي ضجيج لا داعي له، وهاهي محاكم المملكة العدلية تشتغل حاليا على العديد من الملفات الجنائية المالية ثم تنشر أحكامها بشكل طبيعي. فمن ارتكب مخالفة في إطار التأديب المالي يتابع ويعاقب وينشر الحكم الخاص به من قبل المحاكم المالية، ومن ارتكب مخالفة ذات طابع جنائي يحال على القضاء الجنائي المختص مباشرة ليتخذ الإجراء المباشر بعد البحث والتمحيص، أما نشر الاتهامات في التقرير السنوي ( حالتا مديري السياش والمطارات نموذجين فاقعين لتخليط المجلس الأعلى للحسابات بين مسطرة التدقيق وافتحاص التسيير ومسطرة التفتيش والاتهام ) ففيه مخالفة للمساطر القانونية لا تغتفر، ووضع إشكال أمام المتابعة اللاحقة، فلا يحق متابعة أو معاقبة شخص تم التشهير به في الصحافة بناء على ما جاء في تقرير رسمي صادر عن جهاز رقابي دستوري، والاجتهاد القضائي المقارن حاسم في هذا الموضوع. وفي نفس الوقت ويا للمفارقة تكون نيابات المحاكم العدلية ملزمة بفتح بحث من أجل المتابعة المحتملة بصدد وقائع موصوفة وصادرة في تقرير رسمي متخصص تهم انتهاك القانون الجنائي المالي، دون الحاجة إلى انتظار إحالة من المجلس الأعلى للحسابات لماذا لأن الوقائع موصوفة. وهذه ليست هي نية المشرع وقصده في مدونة المحاكم المالية، لكن أصل المشكلة في طريقة صياغة التقرير السنوي للمجلس. 9- يرفع المجلس الأعلى للحسابات للملك تقريرا سنويا، يتضمن بيانا عن جميع أعماله، ويوجهه أيضا إلى رئيس الحكومة، وإلى رئيسي مجلسي البرلمان وينشر بالجريدة الرسمية. هذه فقرة جلها جديد ومهم، لقد أبقى الدستور الجديد على مسألة جزئية واحدة من الدستور السابق وهي رفع التقرير إلى الملك، بينما جاءت الجملتان الخاصتان برئيس الحكومة ورئيسي البرلمان والنشر التلقائي بالجريدة الرسمية لتعزز مبدأ الشفافية والإخبار بعناصر هامة جديدة، فإذا كان رفع التقرير إلى الملك مسألة طبيعية بل أمرا مطلوبا ومرغوبا لكون الملك أعلى سلطة في البلاد وجهة التعيين للرئيس الأول للمجلس وهو ما يعطي المجلس مكانة رفيعة وهيبته إزاء المؤسسات الخاضعة لرقابته ومساءلاته كما تكرس مسؤولية رئيس المجلس الذي يقدم الحساب لجهة التعيين، فإن المستجدات الجوهرية الأخرى تترتب عنها آثار جد إيجابية، والمتمثلة في إبلاغ رئيس الحكومة صاحب السلطة على الإدارة العمومية بموجب الدستور الجديد ليستخلص العواقب إزاء فريقه الحكومي بصدد الملاحظات والتوصيات التي تهم كل واحد منهم بما في ذلك المذكرات الاستجابة الموجهة إلى الوزير الأول ووزير المالية، ثم إلى رئيسي غرفتي البرلمان وهذا أمر جديد ومتناسق مع الهندسة المؤسساتية الجديدة لنظام الرقابة والمحاسبة التي قربت المسافة بين المجلس والبرلمان ممثل الأمة والمؤتمن على مراقبة العمل الحكومي نيابة على الشعب. لكي يطلعها عليه ويتخذ ما من شأنه تفعيل الملاحظات والتوصيات الواردة فيه إن لجهة تقرير المعرفة البرلمانية بمنتوج مهني مستقل أو معلومات وتحاليل رسمية ي يفترض أنها موضوعية أو لجهة رفد العلاقة الوثيقة الجديدة بموجب الدستور برافد رسمي مقنن لتحريك آليات المحاسبة السياسية بوثيرة سنوية، فضلا عن التواصل المنهجي طوال السنة الذي تتيحه الفقرة الأولى من الفصل 148 والذي من شأنه رفد الرقابة السياسية. إذن تفعيل الرقابة السياسية على مدار السنة من خلال معلومات وآراء المجلس، ثم تفعيل الرقابة السياسية في نهاية السنة من خلال التقرير السنوي. ولهذه المستجدات آثار ودلالات جوهرية من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: سد الذرائع بشأن التأخير غير المبرر في نشر التقرير السنوي، فخلال الثلاث سنوات الأخيرة كان التقرير السنوي ينشر متأخرا عن موعده القانوني الصريح والواضح في قانون المحاكم المالية، في تأويل "محافظ" لنص قانوني صريح. الوجه الثاني: قرار النشر وتوقيته لم يعد يكتسي أية حساسية بفعل الالتزام بنشر مجموع أعمال المجلس ولاسيما تقاريره الخاصة في حينها، فالتقرير السنوي في أغلبه هو تلخيص للتقارير والأحكام المنشورة سلفا، أو التي ينتظر نشرها سلفا بمقتضى الفقرة الرابعة السالفة الذكر. الوجه الثالث: تحويل عملية المحاسبة الصادرة عن المجلس إلى عملية نسقية يشترك في دعمها ورفدها وضمان تفعيلها البرلمان و رئيس الحكومة والرأي العام. محاسبة مالية قضائية ومحاسبة إدارية حكومية ومحاسبة سياسية برلمانية ومحاسبة شعبية في تفاعل وتناغم وتكامل وفي تنزيل هندسي متناسق لمبدإ المراقبة الديمقراطية للحكامة في إطار توازن السلط وتعاونها. 10- يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة. هذا النص هو بمثابة المستجد الأكثر إثارة للانتباه ولذلك كان هو النص الوحيد الذي وقعت عليه بعض المنابر الصحافية ذاكرة إياه دون شرح أو تعليق، وإنه لشيء ثوري وجميل بدون شك، أن يتقدم رئيس المجلس الأعلى للحسابات بنفسه بعرض حول مجموع أعمال المجلس بين طريقة اشتغاله وكيفية الوصول إلى نتائجه إلى ممثلي الأمة وأمام مرأى ومسمع الشعب وقواه الحية، بحيث يكون متبوعا بمناقشة في تكريس رائع لمبدأ شفافية المجلس وخضوعه للمتابعة والمراقبة والمساءلة من قبل نواب الأمة المؤتمنين على قدسية المال العام وسلامة تدبير الشأن العام. ومن آثار هذا النص أنه يقوي سلطة البرلمان ويدستر حقه في الاطلاع على حقائق التدبير الداخلي للمجلس الأعلى للحسابات للموارد المالية المرصودة له من الميزانية العامة من جهة وعلى حقائق التدبير الحكومي للأموال العامة كما جاءت في خلاصات واكتشافات المجلس الأعلى للحسابات وتوصياته واقتراحاته ومساءلاته القضائية من جهة أخرى. تقديم عرض متبوع بمناقشة أمام البرلمان هو تكريس مغربي لمعيار مسؤولية الأجهزة العليا للرقابة إزاء ممثلي الأمة، وهذا ليس انتقاصا من استقلاليتها بل على العكس إن كشفها لمعايير اشتغالها وتقبلها للملاحظات البناءة سيكون ترجمة لمبدأ مهني راسخ في الرقابة والتدقيق والمحاسبة وهو مبدأ قابلية الرقابة للتحقق من مهنيتها Vérifiabilité، ضمانا لمصداقيتها، وتعزيزا لاستقلاليتها الذاتية. ذلك أن الاستقلال في غياب المصداقية والفعالية، هو استقلال أجوف ودعائي، وهو الطريق المستقيم إلى العزلة والخمود والتردي. إن المجلس الأعلى للحسابات بموجب الدستور الجديد أصبح ملزما بتقديم مزدوج لحسابه، أولا أمام الملك وثانيا أمام البرلمان وفي هذا ترجمة أمينة لروح الدستور القائمة على إعادة النظر في بنية السلطة وتوازن مراكز القرار وتقوية البرلمان أي الأمة وفيه تجاوب مع نبض المجتمع المغربي، المدني والسياسي، الذي كان يطالب بمناسبة نشر التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات بحق الاطلاع على طريقة اشتغال المجلس وعلى آليات التوصل إلى النتائج التي توصل إليها، كي يطمئن الجميع إلى أن المجلس "يصفي الحسابات " العمومية ولا "يصفي الحسابات" مع أحد. 11- تتولى المجالس الجهوية للحسابات مراقبة الجهات والجماعات الترابية الأخرى وهيئاتها، وكيفية قيامها بتدبير شؤونها. إعادة شبه حرفية للنص الوارد في دستور 1996، وتشير إلى اختصاصين أساسيين للمجالس الجهوية للحسابات وهما: تدقيق الحسابات (رقابة قضائية) ومراقبة التسيير (مراقبة إدارية). لكن دون الإشارة إلى اختصاصها القانوني الثالث الوارد في مدونة المحاكم المالية وهو إصدار العقوبات التأديبية. 12- وتعاقب عند الاقتضاء، عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة. هذه الفقرة الجديدة تكرس القيمة الدستورية للوظيفة الأساسية الثالثة للمحاكم المالية الجهوية وهي التأديب المالي، أي الوظيفة العقابية، وهذا نص جديد لم يكن منصوصا عليه في دستور 1996، على الرغم من أن مدونة المحاكم المالية في كتابها الثاني الخاص بالمجالس الجهوية للحسابات تتضمن تفاصيل الوظيفة العقابية للمجالس الجهوية للحسابات، والطريف في الأمر أن الفقرة الأولى التي كان منصوصا عليها في دستور 1996 دون الفقرة الثانية التي تداركها المشرع الدستوري الآن، كانت منقولة حرفيا عن النص الفرنسي الخاص باختصاص الغرف الجهوية للحسابات بفرنسا والحال أن الغرف الجهوية للحسابات في فرنسا مثلها مثل المجلس الأعلى للحسابات الفرنسي لا تختص بالتأديب المالي، لأن هذا الاختصاص منوط بمحكمة فرنسية أخرى هي محكمة التأديب المالي. فإذن كان الدستور السابق لا ينص على الوظيفة العقابية للمجالس الجهوية للحسابات بينما نص عليها قانون المحاكم المالية، أما الدستور الجديد فقد تدارك هذا السهو الكبير وكرس دستورية الوظيفة العقابية للمجالس الجمهورية للحسابات، وهذا من بركات مغربة دستور 2011. سؤال: هل يجوز الدفع بعدم دستورية الاختصاص التأديبي للمجالس الجهوية للحسابات قبل دخول دستور 2011 حيز التنفيذ بالنسبة للمتابعين حاليا أمام تلك المجالس؟ 13- يحدد القانون اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات وقواعد تنظيمها وكيفيات تسييرها. يحيل هذا الفصل الأخير من الباب العاشر الخاص بالمحاكم المالية على القانون في تحديد اختصاصات المجلس الأعلى والمجالس الجهوية وطرق تنظيمها وتسييرها، فهل هذا النص الذي جاء تكرارا للنص الوارد في دستور 1996 كاف ليبرر إضافة اختصاص جديد جوهري ويتعلق بقواعد المسؤولية أمام المحاكم المالية الجهوية، هل هو كاف لتخصيص جزء كامل من الكتاب الثاني من مدونة المحاكم المالية للتأديب المالي ؟ علما أن هذا التأديب (أي العقاب)، غير منصوص عليه في دستور 1996، الذي كانت بموجبه المجالس الجهوية للحسابات تراقب الحسابات وتقدر كيفية تدبير المرافق العمومية دون إصدار أي عقوبات. أم يجوز الدفع بعدم دستوريته ؟ مجرد سؤال للتأمل. نختم هذه المساهمة التفسيرية بطرح سؤالين هامين لامناص من طرحهما: 1. كيف تدخل مقتضيات الدستور الجديد حيز التطبيق في الزمان؟ 2. كيف ستتم ملاءمة قانون المحاكم المالية والقوانين الأخرى المتعلقة بها مع مقتضيات الدستور الجديد (الورش التشريعي والتنظيمي القادم). الجواب على هذين السؤالين الهامين يستحق أن يكون موضوع مساهمة جديدة، في فرصة لاحقة إن شاء الله. ملحوظة: للتواصل مع الكاتب يمكن مراسلته على العنوان الإلكتروني التالي: [email protected]