حشود من المواطنين يتزاحمون على ممر حديدي ضيق، حرارة الصيف وحرارة الازدحام تجعلان الانتظار جحيما. رداءة المكان وبشاعة المنظر تتماهيان مع الوجوه المتجهمة لموظفين خيل إليهم أن المواطنين ضرب من العبيد استبيحت كرامتهم. يتقلب محمد ذات اليمين وذات الشمال لعلَ الهواء يحفه، ويذهب عنه الإعياء.. أعصاب متوترة، وكلمات ساخطة، ونقمة عارمة. يقول محمد بامتعاض: "...أنا مضطر للمصادقة على وثائقي، ومواطنون ينتظرون عودتي إلى مكتبي لقضاء أغراضهم..مصالح تضيع بارتباطها بهذا الصرح الإداري الفاسد الذي لا يعير المواطن أدنى اهتمام". ينتهي الطابور بشباك ضيق ينفتح على مصلحة إدارية يعمرها موظفون موكول إليهم خدمة المواطن وتلبية طلباته. ويفرض القانون حسن التعامل والإصغاء والاستجابة للطلبات في حدود الاختصاص الموكول للموظف. أقر ذلك جلالة الملك في خطابه بتاريخ 14 أكتوبر 2016 أمام مجلسي البرلمان، ملحا على ضرورة التحول في الأسلوب الإداري المتبع، والذي أبان عن تأخره في مواكبة مضامين الحقوق والحريات الممنوحة للمواطنين والمتضمنة في دستور 2011، داعيا إلى ضرورة تغيير أسلوب التعامل مع المواطنين بالإصغاء إليهم والاستجابة لطلباتهم وتمكينهم من حقوقهم وتقديم الخدمات التي يقرها لهم القانون... زبونية وتماطل وارتشاء المشهد إياه يتكرر في باقي الدوائر، مواطنون بالعشرات وشبابيك صغيرة، وموظفون لا يستجيبون للطلب، كما أو كيفا. إهانات متلاحقة واستهتار وتجاف عن حقوق الناس، وأجواء مكهربة يتخللها دخان سجائر ينفثه الموظف في وجه مواطن يستنشقه مكرها ولا حيلة له إلا الصبر. في الجانب الأيسر من المكتب الإداري بوابة لولوج الموظفين، يعرج إليها بين الفينة والأخرى أصحاب الامتياز، الذين يستوفون الحقوق وتنفذ لهم الطلبات. مظاهر تترجم حجم الفساد المستشري في دواليب الإدارة العمومية.. الزبونية والرشوة والمماطلة...تباين كبير في المعاملة بين المرضي عنهم والمغضوب عليهم، والذين لا حيلة لهم سوى التحمل والانتظار. يصرخ فكري، وهو مواطن مغربي بالديار الفرنسية: "كرهنا الدخول إلى البلد بسببكم..نحن في بلد الغرب مواطنون وفي بلدنا نعامل كالبهائم. لن نرشيكم من أجل حقوقنا. كفى إذلالا للمواطن". يعم الضجيج المكان بين ساخط وناقم وموظفين لا مبالين..امرأة حامل أعياها الوقوف والانتظار، تركت الطابور وجلست على درج قريب لتستنشق بعض الهواء بعد أن أضناها الازدحام وأجهدها الحر والانتظار.. تقول ساخطة عن هذا التلكؤ الإداري: "جئت باكرا؛ فأنا لا أقوى على الوقوف الطويل ولا أتحمل الحرارة والازدحام. ظللت أنتظر زمنا طويلا". تأخذ نفسا عميقا ثم تردف قائلة: "آخرون يدخلون من الباب الخلفي وتقضى أغراضهم، وأنا حامل ولم يعيروا حالتي أي اهتمام". تكاد تنعدم كراسي الانتظار بالإدارة العمومية، ويتوزع المرضى وكبار السن على أدراج تحول بياضها إلى سواد لانعدام النظافة بالمكان. تردف امرأة عجوز: "من أجل الحصول على شهادة الحياة أنا هنا لليوم الثالث، "مرمدوني"، من دائرة لدائرة، ومن مكتب لمكتب، أنا امرأة عليلة، وهم قساة لم تأخذهم بي شفقة"، وبنبرة حزينة تضيف: "سينتهي بي المطاف هنا بشهادة وفاة مبررة". بين الواقع المرير والقانون المنصف الضغط الاجتماعي في اتجاه تحسين أداء المؤسسات في التعاطي مع قضايا المواطنين يقابله ضغط مضاد من أجل عدم الاستجابة، مرد ذلك إلى العلاقات الفاسدة والتسلط الإداري وانتفاء المحاسبة. يصرح أحد المحامين بمدينة طنجة: "ما يمارس على المواطن من انتهاك للحقوق وشطط وارتشاء وجميع مظاهر الفساد يعاقب عليه بصريح القانون. وكل مسؤول يستوجب المساءلة والمحاسبة وكل شطط وخرق للقانون يستتبع العقاب. المشكل أن المواطنين اعتادوا ألا يسائلوا الإدارة". الفساد الإداري ظاهرة تحد من فاعلية العمل الإداري، وتحيده عن الأهداف المرجوة المتميزة بخدمة المواطن وتلبية حاجاته بطريقة مشروعة..عندما يستشري الفساد في الإدارة فإنها تتحول إلى جهاز يلبي الرغبات الشخصية. يعقب أحد الحقوقيين على ذلك قائلا: "المواطن فقد الثقة في جميع الأجهزة الإدارية، بما فيها جهاز العدالة، فالمساطر القضائية تشوبها خروقات سافرة، والجهاز القضائي لازال ينخره الفساد، باستثناء بعض الإشارات المضيئة". سيظل المشكل الإداري قائما ما لم تتدخل الدولة لتعزيز آفاق تطوير علاقة الإدارة بالمواطن، وإرساء نظام اتصال متطور، من شأنه تسهيل المراقبة، وتجنيب الإدارة أشكال التسيب والغياب والتنصل من أداء الواجبات المنوطة بها؛ وتخضع الفعل الإداري للمساءلة الذاتية والخارجية، وتصبغه بالشفافية من خلال إتاحة المعلومات الضرورية للمواطن وضمان حق الاطلاع عليها. كما أن التعاون والتنسيق الإداري، وتمكين المديرين والإداريين من تكوين وتدريب، ومحاسبة المسؤولين، إجراءات يمكنها أن تخرج الإدارة من المشاكل المتكررة وتحمي المواطنين من هدر حقوقهم.