أدونيس، الصوفيُّ الوثني! (1) حينما يصف أدونيس نفسَه بأنه "صوفي وثني"(هوية ناقصة،30)، فهو يعلنُ بكل وضوح أن "تصوّفَه" لا علاقة له بعقيدة التوحيد، ولا برسالة الإسلام، ولا بدين "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". ولا غرابة، بعد هذا الإعلان، إن سمعنا أدونيس يتحدث عن التصوف بأنه إلحاد وجحود وتمرد وعصيان، وبأنه "كان الثورة الكبرى داخل الدين الإسلامي"(نظرة أورفي،295). في حوار مطوّل أجرته مع أدونيس جريدة "الصباح" العراقية، في شهر ماي من سنة 2009، يقول (ماجد موجد)، أحد المحاورين، مخاطبا أدونيس: "في كتابك (الصوفية والسوريالية) تحدثت عن المقاربة بين الصوفية الإسلامية وبين السوريالية في الفن والأدب...". فيقاطعه أدونيس قائلا: "الصوفية ضد الإسلام، الصوفية في الأساس نقض كامل للإسلام." أذكّر القارئ الكريم بأن أبرز وأهم الأفكار والآراءِ التي ابتدعها أدونيس في موضوع التصوف والمتصوفة نجدها مبسوطة في كتابه "الصوفية والسريالية"، وفي الجزء الثاني من كتاب "الثابت والمتحول"، في الفصل الثالث من القسم الثاني، الذي اختار له عنوان "الحقيقة والشريعة، والظاهر والباطن". وفي الحوار نفسه ينطلق أدونيس في الحديث عن معتقدات "متصوِّفَتِه"، وعن "إبداعاتهم" الحداثية الثورية الكبرى قائلا: "إن أول عمل للتصوّف هو تغيير مفهوم الله كما ورد في القرآن، إذ إن مفهوم الله قرآنياً قائم على المفهوم التوراتيّ، إنه قوة مجردة لا علاقة لها بالإنسان والعالم، غير محايثة. أما التصوّف فقد قدّم مقاربتين: الأولى أن الإنسان يمكن أن يكون إلهاً، وأن الله يمكن أن يكون إنساناً. والثانية مقاربة ابن عربيّ الذي وسّع الحدود فقال إن الوجود نفسه هو الله، حين قال بوحدة الوجود، وهذا نقض كامل للإسلام. وترتب على هذا النقض أشياء عظيمة: العلاقة بالحقيقة ،والعلاقة بالآخر، والعلاقة بالوجود. تغيّر أولاً مفهوم الحقيقة. ما الحقيقة؟ في الإسلام، كما في كلّ الأديان، فإن الحقيقة هي ما يقوله النصّ الموحى من الآن وإلى آخر العالم. الصوفية تقول: الحقيقة ليست في نصّ ولا تجيء من ورائنا، الحقيقة هي في التجربة وتجيء من أمامنا. هذا نقض كامل. تغيّر أيضاً مفهوم الهويّة، فالهوية إسلامياً معطاة سلفاً للإنسان، ناجزة، وعليك أن تسلم بها وكفى، أما في التصوّف فليس هناك هوية ناجزة إلا للجمادات والأشياء، أما الإنسان فكائن متحرك يبدع هويته. تغيّر أيضاً مفهوم الواقع، فالواقع ليس ما نراه مباشرة بالعين، ولا نستطيع فهمه إلا إذا فهمنا ما وراءه، والواقع وما وراءه جزء لا يتجزأ، وما نراه ليس إلا صورة عابرة ومتغيرة. ودعت الصوفية إلى وحدة الواقع المؤلف مما نراه وما لا نراه. اللا مرئيّ جزء جوهريّ من المرئيّ. وبالنتيجة غيّروا كلّ شيء. أكثر من كلّ ذلك فان الكائن الإنسانيّ في الإسلام والأديان الأخرى مردود دائماً إلى أصل، الأصول نبع والكائن يتدفق منه، ولذا فان هويته في هذا النبع. التصوّف نقض هذا أيضاً وجعل المستقبل هو النبع، العالم يجيء من المستقبل، وليس من الماضي." انتهى كلام أدونيس من الحوار المذكور. وحينما يسأله أحد محاوريه، وهو (أحمد عبد الحسين): "في أي نص صوفيّ يمكن أن أجد فهما كهذا؟"، يقصد فهما كالفهم الذي بسطه أدونيس في حواره. يجيبه أدونيس بقوله: "عند النفري، اِقرأ النفري." ولا بد أن نسجل هنا أن أدونيس يحيل سائله على مصدر مجهول في تاريخ التصوف الإسلامي. فالمطلع على المصادر العربية المعتمدة عند العلماء والباحثين، في موضوع عقائد المتصوفة واجتهاداتهم، لا يجد ذكرا لهذا (النفريّ)(محمد بن عبد الجبار) "الأثير" عند أدونيس. والشائع أن هذه الشخصية هي من اكتشاف أو اختراع أحد المستشرقين، الذي اكتشفَ، على ما يُحكى، كتابَ "المواقف والمخاطبات" المنسوب إلى النفري. (2) لا أتردد في وصف "الصوفية" الذين تحدث عنهم أدونيس بأنهم "صوفِيَتُه"، وذلك أن الرجل، في كتاباته وأحاديثه عن التصوف، إنما يتحدث عن شيء اخترعه اختراعا، ولفقه تلفيقا، ليناسب نظريته المقررة سلفا. إن ما يقدمه أدونيس على أنه "تصوف" إنما هو شيء يناقض مناقضة تامة، من ألفه إلى يائه، ما أجمعت عليه المصادر الموثوقة في تراثنا العربي الإسلامي عامة، وفي تراث الصوفية وأصحاب السلوك خاصة. فالمتصوفة المقصودون في نظرية أدونيس إنما هم- مقارنةً بمشاهير "الأعلام المتحققين من المتصوفة وأئمتهم"- قلّةٌ هامشية من المجاهيل ممن ورد وصفُهم، عند العلماء الموثوقين، ب"نواب إبليس وشرطه"، عند الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين"، مثلا، وب"الفسقة الفجار، والمباحية والحلولية الكفار،...الكذابين...الخونة المبطلين..."، عند الحافظ أبي نعيم في "حلية الأولياء"، وب"أهل الإلحاد...أهل الشرك والتلبيس والبهتان"، عند الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم". لقد نظر أدونيس، وعلى طريقته الخاصة في الفهم والتأويل، والتحليل وانتقاء الأمثلة لمعاضدة ومطابقة الصورة المرسومة سلفا، ووفق منظور مسلمته الحداثية الإلحادية- نظر إلى التجربة الصوفية في تراثنا العربي الإسلامي، كما أراد هو أن يفهمها، وذلك بتجريدها من "البعد الديني التقليدي"-حسب عبارته في كتابه عن (الصوفية والسوريالية، ص14-15) فالصوفية عنده "هي، تحديدا، ما يخلو من هذا البعد، وما يناهضه، خصوصا على الصعيد المعرفي."( نفسه، ص14-15) فهي "لا تتضمن، بالضرورة، الإيمانَ بالدين التقليدي، أو الإيمانَ التقليدي بالدين."( نفسه، ص9). تأملْ هذا التحديد القاطع في كلامه: "هي تحديدا". فهو لا يترك لك مجالا للاعتراض أو المناقشة. هناك في الموضوع رأيٌ واحد وواحد فقط، هو الرأي الذي حدده أدونيس، وانتهى الأمر. ولتكييف التجربة الصوفية حتى تستجيب لروح الفلسفة الإلحادية، نظر أدونيس إلى التراث الصوفي كله على أنه معدن واحد، لا يخرج منه إلا ما هو نقيض للدين والإيمان والشريعة، إلحادا وزندقة ووقيعةً في ذات الله. فلم يكن من همّ أدونيس أن يُميز، أو أن يحقق، أو أن يتحرّى. وإنما كان كل همّه هو صناعة المثال الذي يصدّق دعاوي النظرية المرسومة، ولو كان ذلك على حساب الحقائق التاريخية، والأمانة العلمية، وموضوعية البحث الأكاديمي. وفي هذا المنظور اللاموضوعي واللاعلمي، يقرر أدونيس أن من خصائص التصوف-كما يفهمه هو- "اللاعقلانية"، التي تعني، من بين ما تعنيه، "الثورة...على الشريعة من حيث هي أحكام تقليدية تُعنى بالمظاهر...وتعني الخلاصَ من المقدس والمحرم وإباحة كل شيء للحرية."(مقدمة للشعر العربي، ص131) وإذا كان "الله في التصور الإسلامي التقليدي نقطةً ثابتة، متعالية، منفصلة عن الإنسان[حسب تعبير أدونيس ومنطقه، فإن] "التصوف ذوّب ثبات الألوهة، جعله حركة في النفس، في أغوارها، أزال الحاجز بينه وبين الإنسان. وبهذا المعنى قتله(أي الله)، وأعطى للإنسان طاقاته."(نفسه) وفكرة "قتل الله"-تعالى الله وتقدس- فكرةٌ جوهرية ومحورية، عليها تدور مختلف شُعبِ الفلسفة الإلحادية ومباحثِها ورؤاها. وهي حاضرة بقوة في التحليل الأدونيسي، لا تفارقه. ويضيف أدونيس أن من أطروحات التصوف-دائما حسب نظريته وفهمه- "فكرة الإنسان الكامل"(نفسه،133)، التي يمكن-يقول أدونيس- "أن نقابلها بفكرة الإنسان الكلي في الماركسية-الشيوعية."(نفسه) والتجربة الصوفية، بنقض الإيمان بالله الخالق الأحد الصمد، حسب رأي أدونيس، والتبشير بالإنسان-الإله، وبالتوحيد "بين الظاهر والباطن، الموضوع والذات، الإنسان والله" كانت "نوعا فريدا من العودة إلى الطبيعة. كانت تجاوزا للواحد المفرد، وتوكيدا للواحد الكثير. كانت دخولا في الطبيعة، وخروجا من الثقافة، أي خروجا على القاعدة، وانغماسا في الحرية."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص109) ويفصل أدونيس في هذه الفلسفة الإلحادية قائلا: "فكما أنه ليس هناك معنى خارج الصورة، أو لا منته خارج المنتهي، فلا يمكن الفصل بين الله والإنسان، الغيب والواقع. إن فصل الله عن الإنسان ليس، في نظر الصوفية، إلا فصلا للإنسان عن نفسه. فالإنسان والله واحد...بل يمكن القول إنه ليس هناك إله خارج الذات الإنسانية، فالإنسان هو إله الإنسان، كما يعبر فويرباخ، أو "ما في الجبة غير الله"، كما عبر الحلاج قبل فويرباخ بعدة قرون."(نفسه،98) وأدونيس، وهو يحكي هذه الكفريات الصارخة في حق ذات الله، ويقررها، بل ويفلسفها ويذهب، في تفريعها، كل مذهب، لا يكترث بمقدسات المسلمين، وبعقائدهم الثابتة في أصول الإسلام القطعية، مثل آيات الله البينات القاطعات الباهرات في توحيد الله، وتنزيهه، وتقديس أسمائه وصفاته، وفي غير ذلك من عقائد الإسلام، وأصول الإيمان، وأحكام الشريعة، وتدبير العمران. يُقرّر أدونيس مقالات الملحدين، بصيغ وعبارات وتحليلات تفيد التبنيَ والتصديق. بل لم نجد منه، في كل السياقات التي تناول فيها أصولَ فلسفة الإلحاد، التفاتةً، ولو خفيفة، يطبعها النقد، أو الرفض، أو الطعن، أو النقض. بل ما قرأنا له في هذا الشأن إلا الموافقة والتسليم، والدعاية والتأييد. ويتابع أدونيس عرض مقالات الملحدين المنتسبين إلى التصوف، مقررا أنه "إذا كان الإلحاد حرر الإنسان من الله، فإن التصوف حرره من الشريعة واضعا الله في الإنسان. لم يعد الله، بحسب الصوفية، تلك القوة المجردة خارج الطبيعة، وإنما هو الإنسان نفسه في تحققه الأكمل."(نفسه) وبحلول الله في الإنسان، وتوَحُّدِ الباطن والظاهر، تصبح الحقيقة، لا الشريعة، هي قوام المعرفة، والذوق هو سبيلها، ذلك "لأن منهج الشريعة يقوم على وضع الحدود، وعلى الأمر والنهي، وليس في الذوق حدود، وهو يتجاوز الأمر والنهي، لأنه هو البداية المستمرة التي تمحو كل أمر ونهي"(نفسه،(تأصيل الأصول)،ص93). "فالحقيقة، بالنسبة للصوفي، ليست حسية أو عقلية، وليست نقلية-شرعية، وإنما هي إلهامية ذوقية."(نفسه،94-95) والصوفيّ، حسب هذه الفلسفة الإلحادية، غيرُ معني بأحكام الشريعة وإقامة الواجبات وأداء الفرائض، لأنه مستغن بحقيقته الذوقية، التي جمعت له أسرار الألوهية. و"من هنا[يقول أدونيس]كان العنصر الأساسي في الدين، بحسب التجربة الصوفية، لا يكمن في ممارسة الطقس الديني، أي في تأدية الفرائض، وإنما يكمن في تأمل الله، وفي الكشف عما يصل بينه وبين الإنسان. بل يجب، على العكس، أن يقطع الإنسانُ صلاته بالإشكال الطقسية للعبادة، ذلك أن المعنى الحقيقي لصلة الإنسان بالله سريّ كامن في القلب."(نفسه،(الأصول)، ص106) تأمل هذه العبارة الاستدراكية الأخيرة وما توحي به من معاني القطع والجزم. ويزعم أدونيس، في جراءة وتعميم لا يخلو من مبالغة واعتساف، أنه "ما من صوفي حقيقيّ إلا ويتبنّى قولَ الإمام الرابع علي زين العابدين(توفي سنة 95ه/714م): ورُبّ جوهرِ علمٍ لو أبوحُ به *** لقيل لي: أنتَ ممّنْ يعبدُ الوثَنَا. "ذلك أن التصوف هو أيضا، كعلم الإمامة، علم أسرار."(نفسه،(تأصيل الأصول)، 92-93.) بل تتطاول هذه الزندقةُ المتصوفة على مقام الرسول، صلى الله عليه وسلم، فإذا الصوفي "يعلم أكثر مما يعلمه النبيُّ، ناقلُ الوحي، من حيث إنه لا يكتفي بالوقوف عند الظاهر والجزئي، وإنما يتجاوزه إلى الباطن والكلي."(نفسه،97) ولا أجد غرابة في هذا الخطاب وأمثاله، لأن ذات الله، جلَّ جلالُه، وذاتَ أنبيائه، وغيرَ أولئك من مُقدَّسات الإسلام وأركانِ الإيمان، لا حرمةَ لها في خطاب الملحدين ومقالات الزنادقة، بل إنها، في أصولهم وعقائدِ كفرهم، حرماتٌ ومحرَّماتٌ ينبغي انتهاكُها وابتذالُها وتدنيسها. (3) ومن الأمثلة التي يوردها أدونيس على شطحات المُتصوِّفَة أقوالٌ منسوبة لأبي يزيد البسطامي، يستقيها من كتاب "شطحات الصوفية"، بتحقيق عبد الرحمن بدوي، تفيض كفرا وزندقة. ومن هذه الأقوال: "أنا اللوح المحفوظ."(الثابت والمتحول(تأصيل الأصول)،99) "أنا ربي الأعلى"(نفسه) "لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة."(نفسه،97) "طاعتك لي، يا رب، أعظم من طاعتي لك."(نفسه) "بطشي به أشد من بطشه بي."(نفسه) "إن لوائي أعظم من لواء محمد."(نفسه،98) "خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله."(نفسه) والذين يعرفون قدرَ أبي يزيد البسطامي- هو أبو يزيد، طيفور ابن عيسى، توفي سنة 261- لا يشكّون في أن مثلَ هذه الأقوال مدسوسة عليه. ويرجّح هذا ويقوّيه أن أدونيس لا ينقلها عن مصدر من مصادر الصوفية الموثوقة، وإنما هو ناقلٌ عن ناقل عن مجاهيل. أما مصادر الصوفية الموثوقة، فلا نجد فيها إلا أبا يزيد البسطامي الدائرَ مع كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، على نهج الصوفية الخُلّص، صوفيّةِ التشبثِ بشريعة الله شرطا أساسا في سلوك الطريق. أما ما يُنسب إليه من "أشياء مُشكلة لا مساغ لها" فَ"الشأن في ثبوتها عنه"، كما يقول الإمام الحافظ الذهبي.(سير أعلام النبلاء:ج13/88). وقال الحافظُ نفسُه في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال": "وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياءَ الشأنُ في صحّتها عنه."(2/346). وأبو يزيد البسطامي هو صاحب القول المأثور والمشهور في وجوبِ حفظِ حدود الشريعة في طريق القوم: "لو نظرتم إلى رجل أُعطيَ الكراماتِ حتى يرتفعَ في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ حدود الشريعة."((ميزان الاعتدال): 2/246. وانظرْ أيضا (سير أعلام النبلاء): 13/88.) ومن الحكايات التي تدل على مدى صرامة أبي يزيد البسطامي وأمثاله من الصوفية السالكين الصادقين، وتشددِهم في اتباع السنة، أن أبا يزيد بلغه خبرُ رجل اشتهر بالصلاح، فقال لخادمه مرة: "قم بنا إلى هذا الرجل الذي شهَر نفسه بالصلاح لنزوره. فلما دخلا عليه المسجد تَنَخَّعَ(أي تنخَّمَ)، ثم رمَى بها نحو القبلة، فرجع ولمْ يُسلّم عليه، وقال: هذا غيرُ مأمون على أدبٍ من آداب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مأمونا على ما يدّعيه."(مدارج السالكين، للإمام ابن القيم الجوزية: 2/465.) (4) إن أدونيس، وهو يطلب المصداقيةَ والمثالَ لنظريته القبْلِيّة، لا يهتم كثيرا بالتحقيق في الروايات وأقوال الرجال، والتمييز بين الصحيح والزائف، بين الأصيل والموضوع. فهو، في هذه الأقوال الموضوعة على لسان أبي يزيد البسطامي، إنما يُحيل مطلقا على كتاب "شطحات الصوفية"، مع أنه اعتمدَ في مواضيع أخرى على كتب مشهورة وموثوقة في هذا الفن، مثل كتاب "اللمع في التصوف"، لأبي نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي(توفي سنة 378ه)، و"الرسالة القشيرية"، لأبي القاسم عبد الكريم المشهور بالقشيري(توفي سنة 465ه). وأدونيس نفسُه هو الذي قرر في مقدمة بحثه "الثابت والمتحول" أنه اختار في منهجه، في شأن أخبار التاريخ والأشخاص والوقائع والأفكار، إهمالَ الأخبار "التي لا إجماع عليها، وبخاصة ما اتصل منها بالسياسة والدين."(الثابت والمتحول(الأصول)،ص22.) وأنه حصر دوره، عامدا، في عرض النصوص "وتوجيهها[كذا] واستنطاقها."(نفسه،24) فما بالُه يَنقض هذا التقرير/الوعدَ، ويستند، مثلا، إلى الكتابات المنسوبةِ إلى ابن عربي-أبوبكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي، ويقال ابن العربي- في معالجة موضوع التصوف، حسب الصورة التي رسمها له أدونيس في نفسه، وفي ثقافته، وفي نظريته، وهو يعرف، وكلُّنا يعرف، من خلال ترجمة ابن عربي، أنه دُسّ عليه الكثيرُ من الكلام، وأن الناسَ قد تفرقوا "في شأنه شيَعا وسلكوا في أمره طرائق قِدَدا، فذهب طائفة إلى أنه زنديق لا صديق، وقال قوم إنه واسطة عقد الأولياء ورئيس الأصفياء، وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه"، كما قال المناوي.(شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي: 5/191) وهناك من العلماء من ألفوا كتبا في الرّد عنه وتبرئته مما رُمي به، كرسالة الحافظ جلال الدين السيوطي المسماة: "تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي". تُراجعُ في المصدر السابق تفصيلاتٌ لأقوال العلماء وعرضٌ لمختلف مواقفهم في شأن ابن عربي، في الجزء الخامس، من ص191 إلى ص202. ولماذا يسلك أدونيس كتاباتِ الإمام أبي حامد الغزالي في سلك الثّبات والاتباع، وهو الصوفيُّ المشهور، رحمه الله، وسِفْره "إحياء علوم الدين" كنارٍ على عَلَم في شهرته وتداوله؟ أم أنه الموقفُ المسبق من الرجل ومواقفه الإيمانية من الإلحاد والزندقة والفلسفات المتهافتة الضالة؟ ونرجع الآن إلى المنظور الأدونيسي، الذي عالج من خلاله، وعلى ضوء فلسفة الإلحاد، تجربةَ التصوف في التاريخ العربي الإسلامي، والذي وصفته بأنه منظور لا موضوعي ولا علمي، ونسأل: أين تقع هذه الكفريات الصارخة، التي قررها أدونيس متقنِّعةً بقناع التصوف، من التراث العربي الإسلامي الصوفي الغني الواسع والعريض؟ في المقالة القادمة، إن شاء الله، ردٌّ على الافتراءات والابتداعات الأدونيسية، وكشفٌ لتهافتها وميلها عن الحق، في ضوء مقالاتِ علماء ثقات، وشهاداتٍ من مصادر مرجعية مشهورة في علم التصوف ورجاله. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. مراكش: 7 غشت 2011