رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوجهُ الآخرُ لأدونيس(2)
نشر في هسبريس يوم 23 - 07 - 2011

في البداية، أريد أن أقول كلمة قصيرة لمحبّي أدونيس ومريديه وسائر المعجبين به، عن معرفةٍ واقتناع أو عن إمعِيّة واتّباع، من المسلمين الذين هان عليهم دينُهم، ولم يَعُدْ يعنِيهم في شيء أن يُهان قرآنهُم، وتُدنَّس مُقدَّساتُهم، ويُعبثَ بمعتقداتهم، وهم في خوض يلعبون، وفي غفلاتهم سادِرون.
أريد أن أقول كلمة إلى محبّي أدونيس عامة، وأنا أعرف أن منهم من يناصر هذا الرجلَ الملحدَ وهو لا يكاد يعرف عنه شيئا إلا ما خدّرَتْه به دعايةُ الأضواء والنجوم والضوضاء والإلهاء. وأعرف أن منهم من لم يقرأ له شيئا، وإنما هو إمّعةٌ يسيرُ بإرادة القطيع، يُصفِّق لأنه يرى الناسَ يصفّقون، ويمدَحُ لأنه يراهم يمدحون، ويغضَب ويَسُبّ لأنه يراهم يغضبون ويسبّون.
أريد أن أقول كلمة لهؤلاء جميعا، الذين، وبلا أيّ منطقٍ ولا مُسوّغ معقول، لا يقبلون من المتحدثين عن أدونيس إلا أن يكون حديثُهم مدحا وتنويها ورفعا إلى السماء، ولو على حساب الحقيقة الماثلة للعيان، كالشمس الحارقة.
إلى هؤلاء الإمّعات المحشورين في القطيع أقول:
يا هؤلاء، أنا أتكلم عن أدونيس بعلمٍ وبَعْد بحث واطلاع، وأسمّي للقراء مراجعي، وأوردُ النصوصَ الشاهدة، وأسوقُ البيّنات القاطعةَ. وليس همّي أن أبيّن أن أدونيس ملحد، فهو يعلن ذلك ويفتخر به، لكنه، كجميع المنافقين، يلفّ ويروغ، عندما يكون في بلد مسلم، أو أمام جمهور مسلم، كما حصل، مثلا، في القاهرة، في يونيو من سنة 2006، حينما أحس بالضغط والحرج واشتداد الخناق عليه، فتحدى منتقديه أن يأتوه بكلمة واحدة كتبها ضد الإسلام!!
التحدي لازمةٌ من لوازم المُلحدين المُناضلين؛ فهم لا يعترفون ولا يُسلّمون ولا يستحيون ولو جئتهم بمِلْء الأرض حُجَجا دامغةً وأدلةً قاطعةً تكذّبهم وتُخطّئهم وتفضحُهم.
يتحداهم أن يأتوه بكلمة واحدة، وهم يواجهونه بكتب بكاملها مليئةٍ بطعونه الباطلة وافتراءاته على الإسلام ومقدساته، وهو يُنكر، ويراوغ، ويدلّس، ويتهرّب، حتى تنتهي المناسبةُ، ويُفْلتَ من المواجهة سالما.
ليس همّي أن أُشهّر بإلحاد الرجل، فذلك لا يعنيني في شيء، بل إن الملحدين مثله في بلاد المسلمين لا يُعدُّون من الكثرة، وإنما همّي أن أكشف للقارئ الكريم ذلك الجانبَ الخفيّ من وجه أدونيس، الذي يُراد لنا دائما ألاّ نراه، وألاّ نهتم به، وألا نلتفتَ إليه عندما نريد أن نزن الرجل "الحداثي الكبير"، ونقوّم فكرَه ونحكم على أعماله.
يُراد لنا، في بلاد المسلمين خاصة، بلْ قُلْ يُفرض علينا فرضا ألاّ نرى في أدونيس إلا ما يُرادُ لنا أن نراه، ولو كان الرجلُ من أشدِّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، ومن أشدّهم حقدا وكراهية للذين آمنوا، ومن أشدّهم حربا لله ورسوله، وأشدّهم جرأة على الطعن والتجريح والافتراء على كتاب الله، وعلى سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأيضا على تاريخ المسلمين.
أريد أن يعرف القارئ الكريمُ، بل أن يعرفَ الناس جميعا، أن أدونيس، "الشاعر" الحداثيَّ المشهورَ، هو نفسُه الملحدُ الذي قضى حياته مناضلا، بالليل والنهار، لبثّ عقائد الإلحاد في المسلمين، وفرضِ الشك والحيْرة والاضطراب والضّلال بديلا عن الإيمان والطمأنينة والهداية والاستقرار.
والذي لا يعرفه كثيرٌ من الناس أن ما صدرَ عن أدونيس في مجال الفكر والسياسة والتاريخ، من مكتوبات ومسموعات ومرئيات، قد يكون مساويا لما كتبه في مجال الأدب والنقد أو يزيد عليه.
يا أيها المُتيَّمُون بأدونيس، وإنْ عن جَهْلٍ وإمّعيّة وفَهْم قطِيعِيّ(من القطيع)، إن صاحبَكم قد بلغ من العمر عُتِيّا، وإنّ الآجال بيد الله، كما نؤمن نحن المسلمين، وهو، لا بد، من الميّتين، ثم من المقبورين، ثم ماذا بعدُ، أيها الإمعاتُ الغافلون؟
وأعود إلى متابعة حديثي عن الوجه الآخر لأدونيس.
(1)
تسأل(نينار)، ابنةُ أدونيس، وهي مثل أبيها لا تؤمن بدِينٍ- تسأل البنتُ الملحدةُ أباها أدونيس إن كان يمكن للإنسان أن يعيش بلا حدود وبلا دين؟ فيجيبها الأبُ العجوز: "هناك كثير من الناس يعيشون بلا دين، وأنا واحدٌ منهم. إني لا أؤمن بدين"(محادثات مع أدونيس أبي، ص107).
وتسأله، في موضع آخر قائلة: ما هي علاقتُك بالدين؟ فيجيب بكل ثقة ووضوح: "على الرغم من أنني نشأت في بيئة دينية، ورغم الحب الكبير الذي أكنّه لأبي، فإنه ليس بيني وبين الدين أية علاقة". ويؤكد جوابه بقوله: "ولا علاقة واحدة(aucune)"(نفسه،187).
إلى هنا، ليس في الأمر ما يدعو إلى الاعتراض أو الرفض والإدانة؛ أبٌ ملحدٌ في حديث خاص وصريح مع ابنته الملحدة، وانتهى الأمر. بل يمكن أن نستفيد من هذا الحديث الصريح معرفةَ الوجه الآخر لأدونيس في قسَماته الواضحة، بلا تزوير ولا تجميل ولا تلبيس، وفي ملامحه الساطعة الكاشفة عن مكنونات ضميره ومطْوِيَّاتِ نيّته وأمانيه.
لا شأن لنا بما يعتقدُه أدونيس، وبما يتناجا به الأبُ والبنتُ من كفريات وضلالات، وبما يتسامَران حوله من زندقات وهرطقات وإبليسيّات(نسبة إلى إبليس)، وإنما لنا شأنٌ، بل لنا شؤونٌ بما يدعو إليه، وما يبثّه في كتبه ومقالاته ومحاضراته ولقاءاته الصحفية من آراء وأحكام كلُّها تهجّم على الإسلام، وطعنٌ على أصوله الإيمانية وشرائعه.
إن إسلامَنا يعلمنا أن (لا إكراه في الدين)، وأنه (من شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ). وعلى هذا الأساس الإسلامي المتين، لا يهمنا إن كان أدونيس مؤمنا أو كان ملحدا. هو حر ومسؤول عما يختاره ويعتنقه من أفكار. لكن الأمرَ يصبح هامّا لنا حينما يتجاوز الرجلُ حقّه وحرّيته في الاعتقاد، إلى تناول عقائد الآخرين بالتجريح والتشكيك والاستهزاء، ولا مُسندَ له من علمٍ أو فهْم مُؤَسَّس معْتَبَر، أو تأويل اجتهادي محتَمَل، وإنما مستندُه، كلُّ مستندِه، الهوى والشيطان.
الإسلامُ لا يصلح لشيء ولا ينفع الناس قِطْمِيرا!
الإسلام ظلمٌ وعدوان ووحشية وتخلف واستبداد دموي!
الإسلام قمع ومنع وحدود وقيود!
من قال هذا؟ قاله شيطانُ أدونيس، وهواه، ودينُه الصوفي الوثني، الذي يؤله الإنسانَ، ويجعل خيالاتِ هذا الإنسان وأوهامَه وأمراضَه النفسية بمثابة الوحي المقدس الذي يجب الإيمانُ به، وتعظيمُه وتنزيهُه.
الدينُ، بمختلف مِلَلِه وطوائفه ومذاهبه، هو صناعة بشرية محضة، للجواب على ما يشغل الإنسانَ من أسئلة في شأن الكون وخالقه، وفي شأن الغيب والموت وما بعد الموت.
الإنسانُ هو الذي اخترع فكرة الدين وما يتعلق بها من معتقدات ومقدسات وطقوس وممارسات، كلُّ ذلك ليواجه الإشكالات الوجوديةَ التي تواجهه فيما يتعلق بوجوده ومصيره.
هذا هو المركز الرئيسُ الذي عليه مدارُ الفلسفة الإلحادية، التي ينطلق منها أدونيس وأمثالُه في بناء أطروحاتهم وتعليلاتهم وتأويلاتهم وانتقاداتهم.
وإذا كان الدينُ، أيُّ دين، في فلسفة الإلحاد، إنما هو من صنع خيال البشر، فإن الإسلامَ من باب أولى، لأن به خُتمت الرسالاتُ السماوية، ومن ثَمَّ فهو الدّين الكاملُ، بالألف واللام، الذي ارتضَاه الخالقُ، سبحانه، إلى كافة خلقه؛ (إن الدينَ عند الله الإسلامُ)(آل عمران).
ولهذا وجدْنا أدونيس يجتهد اجتهادا غيرَ عادي، لينقُضَ أصول هذا الدين الخاتم للرسالات، وهيهات، لأن هذا الملحدَ الذي يحاول نقضَ أصول الدين السماوي، ليس معه من أدوات، ولا أدلة، ولا حجج إقناع، إلا عقلُه ونفسُه وهواه وشيطانُه. وليس له من هادٍ في خبْطه وظلمائه إلا إلحادُه القائمُ على الجحود والرفض والتمرد.
ظلام في ظلام، فأنّى له النورُ؟
ويمكن مُعاينةُ هذا الاجتهادِ الإلحاديّ الأدونيسي المُتميز، مكشوفا بلا غطاء ولا تقيّة، في أطروحته عن "الثابت والمتحول" في تراثنا العربي الإسلامي، التي نال بها درجة الدكتوراه سنة 1973 من جامعة (القدّيس يوسف) ببيروت، بإشراف (الأب نويا اليسوعي).
(2)
وأسوق، فيما يلي، بعضَ العيّنات، تناسب حجمَ هذا المقال، مِنْ كلام أدونيس الصوفي الوثني الحداثيّ الجاحد.
ففضلا عن كون الإسلام، بما هو دينٌ، صناعةً بشرية خالصة، فهو قد "رأى النورَ تحت رعاية الديكتاتورية"(نظرة أورفي، ص189)، وأن "العنف خصيصة لازمت النظام الإسلامي من داخل، ومنذ بداياته."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص141)، وهو، أي الإسلام دائما، "لم يكتف بتجميد الفكر والتفكير، وتجميدِ العقل والحرية، بل أدان الجسم والحواس أيضا)(نفسه،168)، وأنه "منع الإبداع والتفكير"(نفسه،195)، وأنه "ليس للفرد [في الإسلام] حقوقٌ بالمعنى الحديث..."(الثابت والمتحول(الأصول)، ص43)، وأن حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي "كارثة اجتماعية وإنسانية"(نظرة أورفي،215).
والشرع الإسلامي هو بمثابة قيود قمعية للحريات، "وإذا شبهنا التاريخ العربي ببَيْت، فإن الشرع فيه كان يشكل جدرانَه وأبوابَه ونوافذَه، ولا تشكل الحياةُ الحرة، المتسائلةُ، الطامحة، إلا ثقوبا صغيرة لا تكاد تتسع لكي يدخل منها الضوء."(الثابت والمتحول(الأصول)،75).
والإنسان، في الشريعة الإسلامية، "ينفذ إرادة الله المسبقة. وهذا التنفيذ ليس عملا إراديا..."(نفسه،45)، وأن المؤمن "المتدين أو المتَسَنِّن[من السُّنة] لا يفكر، وإنما السنة هي التي تفكر."(نفسه(تأصيل الأصول)،133)
هذه الأمثلة من طعون أدونيس وانتقاداته على الإسلام إنما تنصب على الإسلام/الدين، والإسلام/الرسالة، والإسلام/العقيدة والشريعة، وهذا ما يكذّبُ أدونيس حينما يزعم أنه، في انتقاداته وتحليلاته وٍآرائه، إنما يقصد تفكيرَ المسلمين وممارستِهم واجتهاداتهم، أي يقصد الإسلام كما طبقه المسلمون وعاشوه في الواقع.
هذه الأمثلةُ المسوقة، وغيرُها كثيرٌ، تؤكد أن المقصود هو الإسلامُ، بما هو دينٌ وشرع واعتقاد وإيمان وغيب ودنيا وآخرة.
المقصود هو دين الله، الذي ختم به رسالاتِه إلى الإنسان "الظلوم" "الجهول"، وهو ما يعني أن أدونيس الملحدَ يحارب الدينَ بما هو دينٌ، وبما هو وحي، وبما هو مُقدّسٌ.
وهذه أمثلة أخرى تزيد المسألة وضوحا.
القرآن العظيمُ وحيٌ من الله، تعالى، لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه ينتقده ويتجرأ على آياته بالطعن والتشكيك والاستهزاء بدعوى أنه ينتقد سلوكا بشريا، واجتهادا بشريا، وممارسةً بشرية، إلا إن كان يعتقد أن هذا الوحي/القرآن هو أصلا من اختراع الإنسان وليس منزلا من عند الله.
فوأدُ البنات في الجاهلية، الذي تحدث عنه القرآن بكل وضوح في قوله، تعالى، من سورة (التكوير): (وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنْب قُتِلت)، هو، في رأي أدونيس الملحدِ، "من اختراع المؤرخين المسلمين. فليس هناك أيّ دليل على أن العرب كانوا يئدون بناتهم خشية الفقر أو العار. إنه لا يمكننا أن نثق بهذا النوع من الروايات."(محادثات مع أدونيس أبي، ص171).
لاحظْ أنه ينفي أن يكون هناك دليلٌ على عادةِ وأدِ البنات في الجاهلية، أما القرآن فليس عنده بدليل، لأنه، ببساطة، لا يؤمن بأنه وحي من الله.
بل إن وصفَ القرآن لحياة العرب قبل الإسلام بالجاهلية هو، عند أدونيس، "خطأ يجب أن يُعاد فيه النظرُ، لأن العرب قبل الإسلام كانوا مثقفين، وكانت لهم أفكارٌ وحضارةٌ. (الجاهلية) تسميّةٌ خاطئة لا مبرٍّرَ لها، ومن ثَمَّ يجب رفضُها. وهذا يعني أن كل القضايا والوقائع المتعلقة بهذا العصرِ ينبغي مراجعتُها أو رفضُها.)(نفسه)
أكثرُ من هذا أن أدونيس ينصب نفسه ناقدا للقرآن وحاكما على مضامينه، لأنه يعتبره كلاما من وضع البشر، حيث يعلق، مثلا، على "ورود كلمة "تبرّج" في القرآن بأنها تشير إلى درجة التناقض في النص القرآني"(نظرة أورفي،214)، وذلك "أن التبرج[في زعمه] لازمةٌ من لوازم الحضارة، والغنى، والترف، والثروة والتأنق. وهذا يعني، حسب القرآن، وجودَ حضارة قبل الإسلام، ومن ثَمَّ فإن كلمة "جاهلية"، التي وردت في القرآن لوصف حقبة ما قبل الإسلام، هي كلمة غيرُ مناسبة)(نفسه).
تأملوا هذا الفهمَ العجيب، الذي يتجرأ به أدونيس الملحدُ على كلام الله. فهو يفرض علينا فهمَه على أنه مسلماتٌ لا جدال في صحتها؛ فالتبرّج هو عنده قرينُ الحضارة! ثم الحضارة بأي مفهوم؟ قطعا بمفهومه هو. أما حقائق اللغة، وحقائقُ التاريخ عن الحياة الحقيقية للعرب في فترة ما قبل الإسلام، فذلك كلُّه فضول زائدٌ لا يُعتدّ به عند أدونيس. ما يقوله هو الصحيح، وإن قامت على تخطئته وردّه ونقضه ألفُ حجة وحجة.
أدونيس "ينتقد" القرآن، و"يُخطّئه"، و"يرفضه"، و"يعارضه"، لأنه، أصلا، لا يؤمن به مرجعا مقدَّسا، كما يفعل المسلمون المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها، وثانيا، لأن حياة العرب في الجاهلية، عنده، أي في أوهامه وأحلامه-لأنه ليس في ما وصلنا من المصادر عن فترة ما قبل الإسلام ما يؤكد مزاعمه-كانت حياة متطورة، حضارةً وثقافةً وفكرا!
ونجده في موضع آخر، وبنفس الجرأة والتحدي، يعلنُ مخالفتَه للقرآن ومعارضَته له؛ فقد سألته (حورية عبد الواحد) عن سبب بدء ديوانه (أول الجسد آخر البحر) بآية "في شُغْل فاكهون"، وهي من قوله تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغلٍ فَاكِهُونَ (55)[يس]. فرد عليها بقوله: "لِأُسجّل اختلافا جذريا بين القول الشعري وبين القول الديني، بين ما أراه وما أكتبه وبين ما يعلمنا الدينُ كلَّ يوم. وأيضا لأسير في اتجاه (نيتشه))(نظرة أورفي،234).
لاحظوا هذا التعارضَ البيّن بين "القول الشعري"، أي كلام أدونيس، وبين "القول الديني"، أي كلام الله في الآية المذكورة، وأيضا بين رؤيته وكتابته هو، أي ما ينتجه عقله وهواه، وما توحي له به صوفيتُه الوثنية، وبين تعاليم الدين، التي هي وحي من عند الله. ثم لاحظوا التعليلَ الثالثَ، وهو السيرُ على خطى أستاذه في الإلحاد، أي أن غايته من معارضة القرآن ومخالَفته هي الوصول إلى "قتل الله"-تعالى الله وتقدس وتنزّه وتعظَّم-، ليحتلّ الإنسانُ عرشَ الألوهيّة في الأرض.
أهكذا يحترمُ أدونيس الإسلامَ وعقائدَه ومقدساتِه، كما يدّعي، تقيّة ونفاقا ومراوغة، حينما يكون أمامَ جمهور مسلم؟
أليس القرآن، بكلّ ما فيه، من مقدسات المسلمين؟
وفي موضع آخر، يعلق أدونيس على قوله تعالى، من سورة (الذاريات): (وما خلقتُ الإنسَ والجنَّ إلا ليعبدوني) بقوله: "هذه الآيةُ ضد الفكر وضدّ الإنسان)(نظرة أورفي، ص274). ويضيف: "إنه يستحيل التجديدُ في مضمار التفكير والعقل بدون قراءة جديدة أو مراجعة جذرية لنظرة العقيدة التوحيدية للعالم والإنسان"(نفسه).
أرأَيْتَ كيف يفرض أدونيس نفسَه نِدّا لله، تعالى الله وتقدّس، يرفض القرآن وينتقده ويكَذّبُه ويطالب بمراجعته وتغييره. وهذا هو الذي أُسمّيه بالملحدِ "المناضلِ" "المقاتل"، لأنه لا يكتفي بإلحاده لنفسه، وإنما هو ساع، بكل جهده، لنقض الإسلام والتشكيك في أصوله وتغيير معتقداته، وزرْع الشك والحيرة والتخبط في النفوس والعقول، ثُم اصطيادِ ضعاف الإيمان، التائهين الحائرين، والقذفِ بهم في طاحون الزندقة والإلحاد.
وتسألُه محاوِرتُه (حورية عبد الواحد) في كتاب (نظرة أورفي، ص276): "هل توافق القرآنَ عندما يقول: (وكلّم اللهُ موسى تكليما)؟". فيجيبها أدونيس على الفور، وبلا تردد: "لا مطلقا، لأن الإنسان دائما هو المتكلم"، أي ليس هناك في الوجود إلا الإنسان.
ولاحظْ صيغةَ سؤال السيدة المحاورة؛ فهي لم تسألْه إن كان يؤمن بقول القرآن، بل سألته إن كان يوافق أو يقبل أو يتفق مع القرآن، أي أنها تسأله على أنه ندّ للقرآن أو متفوق عليه، يخطّئه، أو يصوّبه، أو يصحّحه، أو يرفضه. ولهذا، كان جوابُه بأنه لا يوافق مطلقا، أي أنه يرى رأيا آخر يخالف القرآن، بل يزيد على القرآن في صحته ومنطقه.
أما عن قصة (آدم وحواء) الواردة في القرآن في أكثر من موضع، فهي، في رأي أدونيس الملحد، "أسطورة جميلة على المستوى التخييلي"(نفسه،277)، أي أن ما حكاه القرآن الكريم عن (آدم وحواء) هو قصص من خيال البشر. وقد بيّن أدونيس هذا حينما تابع قائلا: "هذه الأسطورة[يقصد قصة آدم وحواء] موجودة أيضا في القصص القديم، قبل الإنجيل. فكيف نتصور(أو نفهم) أن اللهَ قد استعار كلَّ هذا من العالم الخيالي السومري؟)(نفسه). وواضح أن المقصود من عبارته الأخيرة هو التشكيك في أن يكون القرآن وحيا من الله، سبحانه وتعالى.
وللكلام بقيةٌ في المقالة القادمة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.