تجمعني بالشاعر العربي الكبير أدونيس صداقة متينة بدأت مطلع الثمانينات من القرن الماضي في تونس، ولا تزال قائمة الذات حتى هذا اليوم. وخلال لقاءاتي الكثيرة به، تحدثت إليه في العديد من القضايا الهامة التي تشغل باله، والمتصلة بجوهر الثقافة العربية في ماضيها، وفي حاضرها. وجل الأحاديث التي اجريتها معه نشرت في الصحف وفي الدوريات والمجلات التي عملت بها. وكنت أول من دعى أدونيس إلى ميونيخ بألمانيا لالقاء قصائده أمام جمهور كان يجهله لأن أشعاره لم تكن قد نقلت بعد إلى لغة "غوته" كما هو الحال راهنا. كما اني كنت أول من كتب عنه في الصحف الالمانية معرّفا به وبدوره في تحديث الشعر العربي، وفي خلخلة الثوابت في ثقافتنا وفي لغتنا وفي رؤيتنا للدين والتراث، وأظن أني قرأت جل ما أصدره ادونيس من أعمال شعرية أو نثرية، وعنها كتبت. وأنا فخور بأن تكون مكتبتي الخاصة حافلة بهذه الآثار القيمة إذ أنها شكلت ولا تزال تشكل مصدرا أساسيا لفهم واقعنا الشعري والأدبي والفكري وأيضا الديني والسياسي وغيره. وقبل أيام، أصدرت جريدة عربية كبيرة، وعلى حلقات، حوارا مسهبا مع ادونيس فوجدتني أقرأه باهتمام بل إني أعدت قراءته أكثر من مرة لما تضمنه من تحاليل وذكريات عن حقب ماضية، ومن أحكام على شعراء كانوا من أصدقائه أو من أتباعه أو من خصومه. ولعل صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" أراد أن يكون هذا الحوار وثيقة أساسية لمسيرته الشعرية منذ بداياتها وحتى بلوغه سن الثمانين هذا العام لذا سمح لنفسه بالحديث في العديد من القضايا بكامل الصراحة والوضوح، متطرقا إلى العديد من الجوانب التي لا تزال مجهولة في حياته، وفي مسيرته. وقد بدت لي بعض الأحكام التي اطلقها صاحب "الثابت والمتحوّل" في الحوار المذكور خاطئة إن لم تكن ظالمة. ونحن نعلم أن ادونيس كان شديد القسوة على محمود درويش بعد وفاته. وفي المقال الذي نشره في العدد الذي خصّصته مجلة "دبي الثقافية" لصاحب "لاعب النرد" تجاهل ذكر اسمه، ولمّح إلى أن ما خلفه من أعمال لا ترتقي إلى مستوى الشعر في مفهومه الحقيقي والعميق، بل هي تنتمي في غالبيتها إلى ما سماه ب"التاريخ الاجتماعي والسياسي" للشعب الفلسطيني. وفي الحوار المذكور، لم يخفف ادونيس من قسوته على محمود درويش. وهو يعيب عليه "الاجماع" الذي كان يحظى به شعريا، والقصور في ابتكار عالم شعري يخترق المشهد السائد. كما يتهمه ب"مهادنة" جل الأنظمة العربية بما في ذلك الأنظمة الاستبدادية مثل نظام صدام حسين. وكانت قسوة ادونيس على الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي أحدّ وأعنف من قسوته على صاحب: "لماذا تركت الحصان وحيدا؟". فقد نعت قصائد "اباريق مهشمة" ب"التافهة والمبتذلة". بل وذهب إلى حد القول إنه – اي عبد الوهاب البياتي – لم يكن شاعرا أصلا!! وبالتالي فإن الحديث عنه يصبح بمثابة "مضيعة للوقت". وزاد فقال بأنه استمد شهرته الشعرية من "الدعاية الشيوعية". ولكن أليست هذه الأحكام مضرة بالذي أطلقها، أي ادونيس – أكثر مما هي مضرة بالذين كانوا من ضحاياها؟ وصحيح أن تبني محمود درويش لقضية شعبه الذي اجتث من أرضه بقوة السلاح، جعل الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، تملأ ملاعب كرة القدم للاستماع إلى قصائده. غير ان تبنيه لتلك القضية لم ينبن على أسس ايديولوجية أو سياسية بل على أسس فنية عالية القيمة، وعلى قيم انسانية نبيلة. وبفضل اشعاره ومواقفه، تحوّلت القضية الفلسطينية إلى قضية لا تحرك فقط نبض شعبه، وإنما نبض الانسانية جمعاء. ومبكرا وعى محمود درويش بالمخاطر الجسيمة التي يمكن أن تعيق الشاعر المرتبط بقضية سياسية أو ايديولوجية، عن تطوير تجربته لذا راح يحفر عميقا مستخرجا ما مكنه من الارتقاء بتجربته الشعرية إلى المستوى العالمي. وكان دائب البحث والحفر في اللغة ودائم الانصات إلى التجارب الشعرية الكبيرة في مختلف أنحاء العالم، سعيا منه إلى أن يكون شاعرا أولا وأخيرا وليس الناطق باسم قضية، حتى ولو كانت هذه القضية عادلة. وهذا ما أثبتته دواوينه الأخيرة، وخصوصا قصيدته الرائعة التي ودّع بها الشعر والحياة، أعني بذلك "لاعب النرد". لذا يمكن القول إنه لولا محمود درويش لظلت القضية الفلسطينية حبيسة الشعارات والايديولوجيات، ولبقيت مادة جاهزة بها يتلاعب انصاف الشعراء الذين يجدون في فواجع الشعوب ما يحرّضهم على البكاء المفتعل! وأما بالنسبة ل"مهادنة" محمود درويش لجل الأنظمة العربية بما في ذلك الأنظمة الاستبدادية مثل نظام صدام حسين، فانها تهمة ساقطة ومردودة من أساسها. فقد كان محمود درويش يذهب إلى أحباء الشعر وعشاقه في عالم عربي يختنق بالسياسات الفاسدة. وأبدا لم نسمعه يمدح هذا النظام أو ذاك. وهو لم يفعل ذلك حتى عندما كان عضوا بارزا في المجلس الوطني الفلسطيني.. وأظن أن ادونيس مواظب على زيارة كل البلدان العربية من دون استثناء. وفي الفترة الأخيرة تعدّدت زياراته إلى البلدان الخليجية وإلى امارة "دبي" تحديدا. كما أنه حصل على جوائز كبيرة تسلمها من يد شخصيات تتقلد مناصب عالية في النظم التي تحكم بلدانها.. فلماذا إذن يعيب على محمود درويش ما فعله ويفعله هو؟! وصحيح أن صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" خصّص العديد من أعماله الشعرية النثرية لنقد الحياة العربية قديما وحديثا في مختلف جوانبها الثقافية والفكرية والسياسية والدينية. غير أن محمود درويش لم يختلف عنه كثيرا في هذا الجانب. ولو عاد أدونيس إلى اعمال صاحب "لاعب النرد" وقرأها بتمعن لوجد فيها ما يشبع نهمه لنقد الحياة العربية في ماضيها وحاضرها، وفي مختلف الجوانب التي ذكرنا قبل حين. ولست أدري لماذا بالغ ادونيس في تقريظ الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي حد أنه نفى أن يكون شاعرا أصلا! ولعل السبب الوحيد في ذلك هو الخصومات الكثيرة التي كانت بينه وبين صاحب "اباريق مهشمة". وأعلم أن البياتي كان يقول دائما بأنه لا ينتمي إلى عالم ادونيس الشعري، وأنه ينفر من التعقيد والغموض اللذين يختص بهما هذا العالم، غير أني لم اسمعه يوما أنا الذي لازمته سنوات طويلة خصوصا عندما كان يقيم في مدريد، يلمح أو يشير بكامل الصراحة أوالوضوح إلى ادونيس ليس شاعرا. وأظن أن نقادا كبارا، يتميزون بثقافة واسعة وبحس نقدي رفيع كانوا على حق عندما اعتبروا البياتي أحد الذين كانوا وراء ولادة القصيدة العربية الحديثة. من هؤلاء مثلا الأستاذ الكبير احسان عباس الذي خصص للبياتي ولتجربته الشعرية كتابا كاملا سماه "سارق النار". كما أنه افرد له فصلا في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" "عالم المعرفة – الكويت – 1978". وفي هذا الفصل اعتبر أن قصيدة "سوق القرية" التي كتبها البياتي في الخمسينات من القرن الماضي كانت مبشرة بميلاد القصيدة العربية الحديثة: "الشمس، والجمر الهزيلة، والذباب وحذاء جندي قديم يتداول الأيدي، وفلاح يحدق في الفراغ: "في مطلع العام الجديد يداي تمتلئان حتما بالنقود وسأشتري هذا الحذاء.."" وقد اعترف البياتي بأن الدراسات التي خصصها له احسان عباس العارف بالأدب العالمي، لعبت دورا هاما في تطوره الفكري والفني فقد أدخل شعره ضمن "مسار الشعر العالمي". ولعل البياتي كان أفضل من عبّر عن رؤيته الشعرية حين قال:"موضوعية شعري تربط الزمني واللازمني في صيغة الكون الكلي وبذلك أقضي على الذاتية والواقعية والرومانسية، مع الاحتفاظ بجوهرها في شعري. أحوّل الزمني إلى أبدي، والواقعي إلى أسطوري. وأعتقد أن هذه هي مهمة الشاعر في كل زمان ومكان. وبهذا يقترب الشاعر من مهمة الفيلسوف دون أن يكون فيلسوفا فالشعر يتفوق على الفلسفة في أن الشاعر يتعامل مع الواقع ومع المحسوسات، يتعامل مع العالم بشكل وجودي، في حين أن الفيلسوف يتعاطى مع المجردات والمثاليات". ولأنه كان مدركا لروح التجديد والتحديث في الشعر، فإن عبد الوهاب البياتي لم يكن يولي اهتماما للثورة على العروض والأوزان والقوافي، بل كان يؤمن بأن "الثورة في التعبير" هي الأساس. وكان يقول بأنه ليس هناك شعر خارج اللغة". وهو ما أكده في حوار أجراه معه منير العكش حيث قال: "هنالك لغة جاهزة تشبه أوراق الأشجار الميتة، وقد يستخدمها كثير من الشعراء، وهنالك لغة بالرغم من وجودها تولد من جديد، وتكسب أبعادا ورموزا جديدة عبر عملية الخلق الفني. وهذا ما يميز الشاعر الحقيقي عن الشاعر المقلّد. الأول يعتمد على هذه اللغة التي تولد من جديد، والثاني يعتمد على اللغة التي كانت قد ماتت". ويضيف عبد الوهاب البياتي قائلا في نفس الحوار: "هاجس الشعر يحس به جميع المنفردين والأذكياء والموهبين. ولكن الشاعر يتفوق على هؤلاء في أنه يملك القدرة على "الحلول" في اللغة والتجربة، والتعبير عما يعانيه ويحس به إن الشعراء لا يتفردون وحدهم بالرؤيا. ان الشاعر هو الرؤيا مضافا إليها اللغة التعبير، ومن ثم فان اللغة ليست منفصلة عن تجربة الشاعر وعالمه، فهي جوهر تجربته. الشاعر بدون ذلك يشبه حالة العالم عندما كان في الحالة السديمية قبل أن تتكون ملامحه". وأعتقد أن كلام البياتي عن التجديد والتحديث وعن المكانة التي تحتلها اللغة في الابداع الشعري، وفي الرؤية الشعرية لا تختلف كثيرا عن كلام ادونيس. من هنا نرى أن حكم صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" على صاحب "الذي يأتي ولا يأتي" ناتج عن انفعالات عاطفية، وليس عن تمعّن وتركيز. ولم يكن أدونيس مصيبا عندما أشار إلى أن شهرة البياتي كانت بسبب "الدعاية الشيوعية". وصحيح أن البياتي تعاطف في الخمسينات من القرن الماضي مع التيار الشيوعي في بلاده، وأمضى بضع سنوات منفيا في موسكو. وقد جاءت دواوينه الأولى محملة بالدفاع عن الحرية والعدالة للبؤساء والفقراء والكادحين. ولعله قصد من خلال ديوانه "أباريق مهشمة" التلميح إلى الموضع المأساوي للأمة العربية التي تكالبت عليها الفواجع والمحن حتى أضحت "مهشمة، ميتة" لا تقوى على الحراك، ولا على رد الفعل. وكل هذا كان يثير اعجاب الشيوعيين الذين كانوا هم أيضا ينادون بالحرية والعدالة والمساواة. غير أن البياتي لم يكن مثلهم يرفع الشعارات، وإنما كان يعمل في مجال اللغة لبلورة رؤيته للعالم، وللانسان، وللوجود. لذا جاءت قصائده حافلة بالمعاني الانسانية النبيلة، وخالية من الدعاية المباشرة التي كان يتميز بها الشيوعيون. ولو اقتصر البياتي على ارضاء الشيوعيين والتقيد بأساليبهم، لما تمكن من أن يرتقي بتجربته الشعرية إلى المستوى العالمي الذي لا تزال عليه إلى حد هذه الساعة. وعلينا ألا ننسى أن العديد من الشعراء العرب تعاطفوا مع الحركة الشيوعية العالمية. غير أن ذلك لم يجعل منهم أبواق دعاية لتلك الحركة. من هؤلاء يمكن أن نذكر بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ومحمود درويش وسميح القاسم وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل. وادونيس نفسه تعاطف مع الحركة الشيوعية. وكان من المساندين الكبار للنظام الشيوعي في ما كان يسمى باليمن الجنوبي. وفي مجلة "مواقف" التي كان يشرف عليها، أجرى حوارا مطوّلا مع الفتاح اسماعيل زعيم الحزب الاشتراكي اليمني، بدا فيه متعاطفا مع اطروحاته ومواقفه وآرائه. ولكن هل انتقص ذلك من تجربة ادونيس الشعرية، وجعله يتراجع عن مواقفه السابقة بخصوص التجديد والتحديث في الشعر وفي الثقافة العربية عموما؟ ما اظن ذلك، لذا فإن البياتي لم يكن شاعرا مشهورا بسبب "الدعاية الشيوعية" وإنما لأنه كان واحدا من أوائل الذين وضعوا الأسس الأولى لبروز قصيدة عربية طلائعية تستجيب للذائقة الجديدة، وللرؤى الجديدة في الثقافة وفي الحياة. ويعرف ادونيس أكثر مما يعرف غيره أنه يحظى بمكانة بارزة في بلدان المغرب الثلاثة: المغرب والجزائر وتونس. كما يعلم أن محبيه وأصدقاءه كثيرون فيها. لكن في الحوار المذكور بدا وكأنه ينظر إلى الثقافة المغاربية من فوق، أي من كرسي الأستاذ الذي يتكلم لطلبته الذين جمّدهم سحر بيانه فما عادوا قادرين على ايقافه أو الرد عليه. والحال أن ادونيس كان قد استفاد كثيرا من زياراته المتكررة لبلدان المغرب المذكورة التي التقى فيها بمثقفين وبمبدعين ومفكرين قد يكونوا ساهموا في تعميق أطروحاته وأفكاره في العديد من المجالات. وربما لأنه كان مدركا لقيمة هؤلاء، فإنه أشار للبعض منهم في العديد من قصائده التي كتبها من وحي زياراته للمغرب الأقصى من أمثال الراحل عبد الكبير الخطيبي وعبد اللطيف اللعبي ومحمد بنيس والرسام الراحل محمد القاسمي وغيرهم. بل إنه هوالذي حرّض احدى دور النشر اللبنانية على نقل كتاب عبد الكبير الخطيبي "النقد المزدوج" إلى لغة الضاد. مع ذلك نحن نجده في الحوار المذكور خالي الذهن من كل هذا، وراح يسبح في فراغ ذاته سامحا لنفسه بالقول بأن شعراء المغرب العربي يكتبون مثل المشارقة. ومعنى هذا أنه لم يطلع على تجارب هؤلاء الشعراء. وقد يكون اطلع على البعض منها بشكل متسرّع، لذا لم يكن بوسعه أن ينتبه إلى خصوصياتها، ومميزاتها. من هنا، فإن الكلام الذي أطلقه يكون سطحيا وبلا معنى. وفي الحوار المذكور يعترف ادونيس بأنه لا يقرأ الرواية، ولكنه يتجاسر ويقول بأن الكتاب المغاربة الذين يكتبون الرواية باللغة الفرنسية يكتبونها أفضل من الكتاب الذين يكتبونها بالعربية. ولست أدري كيف استطاع ادونيس أن يتوصل إلى مثل هذا الحكم هو الذي لم يطلع على ما كتب باللغة العربية في مجال الرواية. الشيء المؤكد أن مرجعه الوحيد هو الاعلام الفرنسي الذي يولي اهتماما كبيرا بالروايات المغاربية المكتوبة بلغة موليير، ولا يعنى بالرواية المغاربية المكتوبة بالعربية لا من قريب ولا من بعيد بل لعل الفرنسيين يتمنون لو أن هذه الرواية المغاربية المكتوبة بالعربية لم تكن موجودة أصلا حتى تظل لغتهم سيدة الابداع والبيان في المنطقة. وفي النهاية أقول بأنه لا أحد ينكر الدور الهائل الذي لعبه ادونيس في تجديد ثقافتنا وتحديث لغتنا. ولكن في الحوار المذكور بدا وكأنه الوحيد الذي فعل ذلك أما الآخرون فكانوا إما مناهضين له، أو من تلاميذه وأتباعه الذين يطيعونه طاعة عمياء، مكتفين بتنفيذ أوامره واتباع تعاليمه.