كأن عبد العظيم أنيس كان على موعد مع صديقه محمود أمين العالم في الرحيل، مثلما كان على موعد معه في بدايات الصداقة والعمل الثقافي، قبل خمسة وخمسين عاماً. رحل عبد العظيم بعد معاناة طويلة مع المرض. وكان قد سبقه إلى الرحيل بأيام معدودة صديقه القديم والتاريخي محمود أمين العالم. وكان عبد العظيم أنيس مثل صديقه محمود مهموماً، منذ بدايات وعيه، بقضايا الثقافة، وبقضايا الإنسان في بلاده وفي العالم. لذلك كان من الطبيعي أن تتعدد وتتنوع القضايا التي شغلته على امتداد حياته. لكن هذين التعدد والتنوع لم يوزعا شخصيته إلى عدة شخصيات. بل هو استطاع، منذ البدايات، أن يوحد بين تلك القضايا، بما فيها تلك التي كانت تبدو في الظاهر متناقضة فيما بينها، ويحولها إلى جوانب مترابطة في شخصية واحدة هي شخصية عبد العظيم أنيس. ذلك أن الدكتور عبد العظيم هو عالم رياضيات، وناقد أدبي، وباحث في التراث العلمي العربي، ومفكر ماركسي، وباحث اجتماعي في مادة التربية والتعليم. لكنه كان، إلى جانب تلك اهتمامات العلمية والأدبية، مناضلاً سياسياً يسارياً. وظل يتنقل بين المنظمات الشيوعية المصرية إلى أن انتهى به المطاف إلى الوقوف على تخومها شيوعياً مستقلاً، على مسافة واحدة منها جميعها. واختار أن يكون، باسم يساريته، عضواً في حزب التجمع الوحدوي التقدمي. وقد توزعت كتاباته وكتبه ومحاضراته وأبحاثه باللغتبين العربية والإنجليزية حول هذه القضايا العلمية والبحثية المشار إليهما، وحول المواضيع المتصلة بها من قريب ومن بعيد. كما دخلت هذه القضايا جميعها في نشاطاته وفي تحولاته السياسية والفكرية. وقد أدهشني، منذ أن بدأت علاقة الصداقة بيننا في أواخر ستينات القرن الماضي، حماس الشباب عنده لمواقفه في كل هذه القضايا. وهو الحماس الذي لم يتوقف عنده حتى وهو جالس في الأعوام الأخيرة من حياته مع طبيبه يغسل له دمه ثلاث مرات في الأسبوع، بسبب ما أصاب كليتيه من عطب. وقد شعرت بفرح يغمرني عندما كلمته بالهاتف، خلال زيارتي إلى القاهرة في عام 2006، وهو في المستشفى، وكان خارجاً للتو من تلك الجلسات المضنية المشار إليها. فقد كانت له لهجته في الحديث معي تشير إلى أنه أقوى من المرض. وكانت اللهجة هي لهجته ذاتها التي أعرفها جيداًًً، والتي لم يغيرها المرض. فما أجمل هؤلاء البشر. وما أروع ما يحملونه في أفكارهم وعقولهم وأفئدتهم ومشاعرهم من عظيم الإرتباط بالحياة، والتعلق بها والحب لها، واعتبارها، أية كانت الصعوبات فيها، جميلة تستحق أن تعاش بتفاؤل لا يعرف الضجر والملل، ولا يتعرف إلى اليأس في أي حال. من حق المرء أن يتساءل كيف أمكن لعالم الرياضيات أن يكون، إلى جانب علمه هذا، ناقداً أدبياً، يبحث في نظرية النقد، ويناقش القضايا المرتبطة بتطور الرواية العربية، ويناقش في شؤون الثقافة وفي مصيرها، وفي دور المثقفين، وفي دور الأدب والفن في علاقتهما بالحياة؟ ثم كيف أمكن لهذا العالم والأديب أن ينغمس في العمل السياسي، وأن يصبح قائداً في أكثر من حزب، وأن يقوده نشاطه الحزبي هذا إلى المعتقلات الكثيرة، في مراحل متعددة من حياته، وأن يفصل من الجامعة أكثر من مرة، وأن يبقى واقفاً على قدميه، منتصب القامة، ثابت الخطى من دون وهن؟ إلا أن عبد العظيم أنيس لا يجد صعوبة في الجواب عن هذا التساؤل. فهو يشرح ذلك ببساطة ووضوح. ويبدأ أولاً، في توضيح ما يبدو التباساً في ما حصل له إثر تخرجه من المرحلة الثانوية من دراسته، حين كان عليه أن يختار الفرع الذي يريد أن يتخصص فيه في المرحلة الجامعية. كان عليه أن يختار واحدة من إحدى ثلاث شعب: الآداب، العلوم، الرياضيات. وكان محباً للغة العربية وللأدب وللفلسفة. وكان محباً في الوقت ذاته للرياضيات التي كان متفوقاً فيها. ورغم أنه لم يكن يرى في الجمع بين هذه الإختصاصات أمراً غريباً، إلا أن الجامعة طلبت منه أن يختار واحدة من هذه الإختصاصات الثلاث. وظل متردداً طيلة أشهر الصيف إلى أن جاء شقيقه الأكبر ابراهيم، فأقنعه بضرورة اختيار الرياضيات كاختصاص، ومتابعة دراسة الأدب والفلسفة بالقراءة خلال فصل الصيف، مضيفاً، لمزيد من إقناعه بذلك، بأن الأدب والفلسفة لا يطعمان خبزاً! وهكذا اختار عبد العظيم الرياضيات ميداناً لتخصصه الأكاديمي. وصار، خلال دراسته الجامعية، وفي الأعوام التي مارس فيها التدريس، عالماً مرموقاً في هذا العلم العظيم الذي هو الأساس في كل العلوم من دون استثناء. إلا أن الدكتور أنيس يعيدنا إلى أساس المشكلة التي واجهته عندما يخبرنا عن ظروف نشأته. فقد كان في مرحلة دراسته الثانوية يواظب على الذهاب إلى دار الكتب لقراءة الكتب فيها واستعارة كتب أخرى لقراءتها في المنزل. كما كان يقرأ في كتب شقيقه ابراهيم الذي كان أستاذاً للأدب واللغة العربية. ومن جملة ما قرأ واستقر في ذاكرته وفي وعيه مقامات الحريري وديوان المتنبي وديوان الحماسة لأبي تمام. كما قرأ معظم كتب طه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم المازني وأحمد أمين وتوفيق الحكيم وعبد الله عنان ودواوين أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ومحمود سامي البارودي. كما قرأ كتب سقراط وأفلاطون وأفكار المعتزلة في الفلسفة العربية الإسلامية. كل ذلك يشير بوضوح إلى أنه كان منذ بدايات شبابه على صلة بالأدب وبالفلسفة، وبالثقافة عموماً. وبهذا المعنى لم يكن يرى أي تعارض بين أن يكون عالم رياضيات وأديباً. أما علاقته بالسياسة فقد بدأت من خلال ارتباط عائلته بحزب الوفد، منذ أيام سعد زغلول مروراً بعهد مصطفى النحاس خليفة سعد زغلول في رئاسة حزب الوفد. وتقودنا هذه المعلومة عن عائلته إلى معرفة تاريخ نشأته وظروف هذه النشأة. ولد عبد العظيم أنيس في عام 1923 في حي الأزهر في عائلة لها ثمانية أبناء، أربعة ذكور وأربع إناث. وكان هو أصغرهم جميعا باستثناء واحدة من شقيقاته. وكان منزل العائلة يقع على بعد خطوات من جامع الأزهر. وكان أفراد عائلة والده جميعهم من الحرفيين. تعلم والده وشقيقا والده مهنة البناء من أبيهم. وارتبطت أعمال والده بوزارة الأوقاف بسبب اهتمامه ببناء المساجد. وكانت عائلة والدته تحترف مهنة والده ذاتها. وكان جده لأمه مقاولاً كبيراً. وساهم هذا الإرتباط المشترك لدى العائلتين بالبناء في حصول زواج والده من والدته. وعلى عكس عائلة والدته لم يمتهن أحد من أخواله صناعة البناء. فقد كان التقليد لدى أسرة والدته هو الإهتمام بالتعليم. وكان التعليم يبدأ من الأزهر لحفظ القرآن، ثم منه إلى تجهيزية دار العلوم، ثم إلى دار العلوم للتدريس في مدارس الحكومة. وهذا ما فعله خالاه زكي وكامل. ونشأت بين أخواله تناقضات في الإنتماء الحزبي. إلا أن أحد أخواله انضم في وقت مبكر إلى حزب سعد زغلول، حزب الوفد، وتبعه الشقيق الأكبر لعبد العظيم ابراهيم. وهكذا أصبح عبد العظيم في كنف عائلة سياسية تناصر حزب الوفد، الحزب الذي ارتبطت باسمه قضية المفاوضات من أجل الإستقلال. وهو الحزب الذي صار أكبر أحزاب مصر خلال عقود طويلة استمرت من عام 1919 حتى عام 1952، العام الذي قامت فيه ثورة يوليو التي ألغت الأحزاب كلها، بما فيها حزب الوفد. انتقلت العائلة من حي الأزهر إلى حي العباسية، الذي وجد فيه عبد العظيم نفسه في منطقة أكثر رحابة وأكثر أناقة مقارنة بالحي الذي كان فيه عند الولادة. ودخل في إحدى مدارس ذلك الحي. إلا أن دراسته تعثرت بسبب الحادث الذي تعرض له، عندما وقع عن السلم. وأجريت له عملية شوهت فمه. وقد خلف له هذا الواقع صعوبات كثيرة في دراسته الأولية. وقاده إلى الوقوع في حالة الإنطواء والخجل في تلك المرحلة. كما قاده إلى الفشل في مرحلة دراسته الأولى. وهو الأمر الذي استدركه شقيقه ابراهيم لإخراجه من الوضع الذي كان عليه، باختياره مدرسة أخرى غير المدرسة التي لم ينجح في دراسته فيها. وأدى اهتمام أشقائه به إلى تجاوز تلك المحنة الأولى في دراسته. وصار، بفعل ذلك الإهتمام، من الأوائل في تلك المدرسة وفي مراحل دراسته كلها. ثم توالى انتقاله من مرحلة إلى أخرى إلى أن أتم المرحلة الثانوية من دراسته في عام 1940. ويذكر عبد العظيم أنه قد جرت في تلك المرحلة من دراسته (1936) مظاهرات ضد تصريح لوزير خارجية بريطانيا اعتبر إهانة لمصر. وشارك هو في المظاهرة مع شقيقه. واصطدمت المظاهرة بقوى الأمن. وتم اعتقاله. وكانت تلك أولى مساهماته في العمل السياسي، وهو في سن الثالثة عشرة من عمره. تلك هي مرحلة التكوين كما يسميها عبد العظيم أنيس . لكن المهم في سيرة هذا المثقف العربي الكبير هو أنه ما أن دخل المرحلة الجامعية كطالب أولاً، ثم كأستاذ جامعي لتدريس الرياضيات، حتى تحول إلى شخصية من طراز رفيع. وكانت مرحلة الدراسة الجامعية في القاهرة وفي لندن مرحلة بالغة الأهمية في الإنتقال بشخصيته من حال أولى كانت تعد بمستقبل باهر، إلى حال برزت فيها مواهبه وكفاءاته، التي سرعان ما وحّدت بين جوانب عديدة من شخصيته. وهي الجوانب التي أشرت إليها في مطلع هذا الحديث عن عبد العظيم أنيس العالم والأديب والمفكر السياسي وصاحب الموقف العقلاني من شؤون بلاده وشؤون العالم المعاصر. مع بداية دخوله في المرحلة الجامعية من دراسته بدأت ميوله للعمل السياسي تتفتح. وبدأ يمارس نشاطه في الحركة الوطنية في المجالات والمناسبات كافة. لكن أول نشاط حقيقي له في العمل السياسي كان في عام 1946. وقد قام بنشاطه المبكر ذاك في إطار اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، التي قادت مظاهرات واسعة ضد حكومة اسماعيل صدقي. وشارك عبد العظيم في تلك المظاهرات، وتم القبض عليه وأودع السجن. وكان نشاطه ذاك، داخل اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، يتم باسم المنظمات الشيوعية لتلك المرحلة. وكانت تتصدر مواقفه، سواء من داخل انتمائه إلى تلك المنظمات أم من خارجها، في اتجاه ما كان يعتبره لحظة الثورة. ويذكر أنه شارك في توزيع مناشير في عام 1945 تدعو إلى إسقاط الملكية وإقامة نظام ديمقراطي في مصر. وجاء ذلك في الوقت الذي كان أفراد من الشرطة يواصلون إضرابهم الشهير. ويروي عبد العظيم في بعض أحاديثه إلى الصحافة عن سيرة حياته الكثير من الأحداث التي وقعت له خلال ممارسته لنشاطه السياسي داخل المنظمات الشيوعية التي تنقل فيها وساهم في انقساماتها وفي محاولات التوحيد بينها، التي جرت أكثر من مرة وفشلت. وتكررت عمليات اعتقاله، بما في ذلك في الفترة الناصرية، في مرحلتها الأولى، ثم في المرحلة الثانية، التي انتهت بالمصالحة بين الشيوعيين وبين الرئيس عبد الناصر. وهي المرحلة التي تسلم فيها عبد العظيم أنيس رئاسة مجلس إدارة الكتاب العربي للطباعة والنشر، بدلاً من صديقه محمود أمين العالم الذي كان قد عيّن رئيساً لمؤسسة المسرح الوطني. وجاء تعيين عبد العظيم في ذلك المنصب بقرار من الرئيس عبد الناصر، أبلغه إياه ثروت عكاشة. وكانت قد بدأت تربط عبد العظيم أنيس بكبار مثقفي مصر، كما يروي هو في أحاديثه، علاقات صداقة أو شبه صداقة أو مودة على الأقل، في مقدمتهم طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وحسين فوزي وثروت عكاشة وإحسان عبد القدوس. ويروي عبد العظيم قصصاً مثيرة عن تلك العلاقات التي يعتبر أنها تركت أثراً مهماً في نفسه. غير أن شخصية عبد العظيم أنيس إنما برزت في ممارسته الكتابة منذ وقت مبكر. وهي الكتابة التي تنوعت في مواضيعها، بين البحث العلمي والنقد الأدبي، والإعلان عن موقف سياسي في الشؤون العامة لبلده وللعالم العربي وللعالم. فضلاً عن كتابات ذات طابع فكري، على قاعدة الماركسية. وهي كانت أفكاراً عامة في قراءة أحداث التاريخ قديمه وحديثه، استند في صياغتها إلى منهج علمي، استوحاه من نهج ماركس المادي الجدلي. وكانت من أولى كتاباته في الأدب وفي الثقافة تلك السجالات التي اشترك مع صديقه ورفيق دربه محمود أمين العالم فيها، السجالات مع العقاد أولاً، ثم مع طه حسين خصوصاً، حول وظيفة الأدب والفن. وكانت جريدة المصري، لسان حال حزب الوفد، هي التي نشرت القسم الأساسي من تلك المقالات في صفحتها الثقافية التي كان يشرف على تحريرها مثقفو الطليعة الوفدية، أو ما سمّي بيسار حزب الوفد. وكان من أبرز هؤلاء في ذلك الحين محمد مندور. وصدرت تلك المقالات في كتاب في عام 1955 تحت عنوان: «في الثقافة المصرية». وأثار صدور الكتاب ضجة في عالم الأدب. وكتب له مقدمة الطبعة الأولى حسين مروة. أما الطبعة الثانية التي صدرت في عام 1989، فقد قدم لها الكاتبان الصديقان. وفيها محاولة لإعادة تقييم تلك السجالات مع طه حسين. ونقتطف منها فقرتها الأخيرة: « وإذا كنا نحرص أن نقول اليوم إن هذا التعبير النظري، أي هذا المنهج الجدلي في النقد الأدبي، ما يزال يحمل مصداقيته بشكل عام، فإننا نحرص كذلك على القول بأنه ما يزال يغلب فيه كذلك الطابع النظري العام. وهو يحتاج إلى «ورش عمل» جماعية - لو صح التعبير- لتطوير الجانب النظري هذا بالممارسات والإختبارات التطبيقية، ثم لتطوير هذه الممارسات والإختبارات التطبيقية بالفكر النظري المتجدد والمتطور كذلك». وكان هذا الكتاب أول دخول لعبد العظيم أنيس عالم الأدب، تجاوزاً لعالمه الخاص، عالم الرياضيات وأبحاثه المحصورة في نطاق ضيق. وكانت جريدة «المساء» التي أنشئت في عام 1956، خلال مرحلة تأميم قناة السويس، التي تولّى مسؤوليتها الأساسية خالد محي الدين بعد عودته من منفاه في جنيف، هي المكان الذي مارس فيه عبد العظيم كتاباته في شتى المجالات. ثم ظلت تتنوع مجالات كتاباته مع مر الأعوام، ومع التطورات التي كانت تحصل في مصر في فترة الناصرية، ثم بعد وفاة الرئيس عبد الناصر. وكان عبد العظيم قد بدأ ينشر مقالاته تلك في الصحف والمجلات التي كانت تصدر عن حزب التجمع الذي أنشئ في عام 1974، وكان عبد العظيم عضواً فيه. والصحف والمجلات تلك هي : جريدة «الأهالي»، ومجلة «اليسار» المتخصصة بالفكر السياسي، ومجلة «أدب ونقد»، التي يدل اسمها على وظيفتها. إلا أن واحداً من أجمل كتبه هو كتابه الذي صدر في عام 1983 تحت عنوان: «علماء وأدباء ومفكرون». وهو كتاب يجمع بين التعريف بعلماء عرب وغربيين، وبين أدباء ومفكرين عرب وغربيين أيضاً. ويتخذ الكتاب طابعاً أدبياً ومعرفياً في آن. فهو يتحدث فيه عن علماء عرب مثل ابن الهيثم والخوارزمي، وعن علماء غربيين مثل غاليلو. كما يتحدث عن أدباء ومفكرين مثل جوته وبرخت. وتدل طريقة الكتابة ولغتها والمواضيع التي يثيرها في هذه الكتابة على ثقافة عبد العظيم الواسعة، من جهة، وعلى الجمع، من جهة ثانية، بين الجوانب المتعددة والمتنوعة في شخصيته، أعني الأدب والفكر والعلم والفكر السياسي. لكن عبد العظيم أنيس ، إذ يتحدث عن أهمية العلوم، وأهمية الرياضيات خصوصاً، فإنه لا يخفي أسفه من كون اللغة العربية ما تزال متخلفة عن اللحاق بالتطورات المذهلة للعلوم في مجالاتها كافة، وأنها ما تزال عاجزة عن استبيان المفردات المتصلة بالإكتشافات العلمية الحديثة. ويعتبر في هذا الصدد أن تدريس العلوم باللغة العربية هو في الوقت الراهن أمر مستحيل. ويقول بالنص في مقال له بعنوان «خبرتي في الرياضيات»، حول هذا الموضوع: «إن العقبة الأساسية في التحول إلى التدريس باللغة العربية هو انعدام حركة الترجمة لأمهات الكتب الأكاديمية، في التخصصات المختلفة. وإلى أن يتم هذا العمل وتلك الترجمة فسوف نظل في هذا الوضع المحزن الذي نحن فيه اليوم». ويقول في هذا المقال الآنف ذكره حول أهمية الرياضيات ما يلي بالنص: « خلال أربعة أو خمسة آلاف سنة توفر للبشرية كم هائل من المفاهيم والممارسات التي نسميها رياضيات. وارتبطت هذه المفاهيم والممارسات بشكل أو بآخر بالحياة اليومية للبشر. والناس فيما يبدو ينسون هذه الحقيقة عندما ينظرون اليوم إلى الرياضيات نظرتهم الغربية المذعورة.... وحتى لا يفزعنا هذا الكم الهائل من المفاهيم والممارسات أقترح أن نفكر في الموضوع بطريقة أخرى .. لقد كانت الرياضيات نشاطاً بشرياً لآلاف السنين. وإلى حد ما يمكن أن نقول بأن كل إنسان هو رياضي أو يمارس الرياضيات بشكل واسع. فالشراء من السوق وقياس مساحة الأرض (الخ) كل هذا هو ممارسة للرياضيات أو لفرع منها (الحساب)». يبقى أن نشير إلى فكر عبد العظيم أنيس الإشتراكي، الذي أجرى عليه تعديلات جوهرية، في ضوء التحولات التي أدى إليها أو ساهم فيها انهيار التجربة الإشتراكية. وهي تعديلات تشير إلى علمية فكر عبد العظيم أنيس التي تظهر حتى في قراءته النقدية لإبداعات الأدباء في أجناس الأدب المختلفة. لنقرأ بعض فقرات من حديث أدلى به إلى مجلة «أدب ونقد» حول تجربته السياسية والفكرية كإشتراكي عتيق. يقول عبد العظيم: « نشأت الماركسية في ظل ظروف معينة في القرن التاسع عشر، وكانت صحيحة. لكن العالم كله تغيّر، بحيث صار من غير الممكن أن تظل بعض هذه القوانين صحيحة. وهو الأمر الذي يتطلب إجراء تطوير في النظرية. يضاف إلى ذلك أننا تعاملنا مع قادة الماركسية التاريخية باحترام وصل إلى حد التقديس. صحيح أن هذه الشخصيات، ماركس وانجلز ولينين، هي جديرة بالإحترام كعبقريات، لكن ذلك لا ينفي أنهم ارتكبوا أخطاء... وإنني لأشعر أننا ما زلنا بحاجة ماسة إلى تطوير نظرة عربية إلى الماركسية، نظرة تأخذ في حسبانها طبيعة الظروف الموضوعية في البلاد العربية، هذه البلاد التي أزعم أنها لم تدرس بعد (يقصد من قبل الماركسيين) الدراسة الكافية حتى الآن. ... إن جوهر الشيوعية هو تحرير الإنسان، ليس كعضو نمطي في المجتمع، بل ككائن متفرد، له ذاته التي يجب أن تتحقق، وشخصيته التي يجب أن تزدهر، وعواطفه التي يجب أن تتطور، وطاقاته الإبداعية التي يجب أن تنطلق إلى أبعد مدى .... وقد تبنت الماركسية هذا المثل الأعلى، وحددت بعض معالم المجتمع الذي يمكن أن يقربنا إليه نظام يحدد شكل تعامل الجنس البشري مع الطبيعة عقلانياً، نظام يتحكم في هذا التعامل، بدلاً من أن يحكم به كقوة عمياء. لكن هذا كله يبقى دائماً - كما يقول ماركس - في نطاق الضرورة. وبعده يبدأ تطوير القدرات البشرية لأجل ذاته. وهو النطاق الحقيقي للحرية ...» سيكون من الصعب الإحاطة بعالم عبد العظيم أنيس الواسع والمتعدد. لكن هذه اللمحات من سيرته ومن فكره وأدبه ومن ثقافته العلمية الواسعة تعطي للقارئ بعضاً من صورته، حتى وإن كانت مبتسرة. ولم أشأ في هذه السطور أن أضيف إلى هذه الصورة انطباعاتي الخاصة عن صديقي عبد العظيم الذي تمتد علاقة الصداقة بيننا إلى ما يقرب من أربعين عاماً. وهي الأعوام التي كان قد أصبح فيها هذا المثقف الكبير واحداً من أركان الثقافة العربية المعاصرة. فتلك مسألة ربما يكون لها مجال آخر. وقد رأيت فيما كتبه عنه صديقنا المشترك محمد دكروب خلال إقامته القصيرة في لبنان بعد فصله من الجامعة ما يغريني بالكتابة عن صادقتنا في مثل الأسلوب الجميل والممتع الذي تميزت به كتابة محمد دكروب. وسوف يكون لتلك الكتابة زمن لا بد آت عندما تتوفر شروط حضوره. أما الآن فإنني أكتفي بذرف دمعة على هذا الإنسان الكبير الذي يغادرنا بعد معاناة طالت أعواماً عديدة. ومثل عبد العظيم لا ينسى. فهو حاضر دائماً بتراثه الثقافي المتعدد أنماطاً وأجناساً، وحاضر بسيرته التي تقدمه إلى شعبه وإلى العالم كإنسان جميل، إنسان حقيقي بكل المعاني. مفكر وباحث لبناني