امتزجت أفكار الشاعر ادونيس بآراء منتقديه الغاضبين. ولأن أدونيس لا يرد على منتقديه فقد صار يوحي بأنه مؤمن بأن ما يقوله هو الحق كله. وهو ما استدعى أن يؤمن الآخرون بأن ما يقوله الشاعر هو الضلالة كلها. ما لم يربحه ادونيس لم يشكل نصرا لمنتقديه. فالشاعر في كل ما يقوله عن الحياة العربية لم يخن الواقع، وهنا يكمن خطأه الجوهري. أما منتقدوه فان خيانتهم للواقع هزمتهم. في مواجهة الجدار يضفي كل خلاف مع ادونيس بشأن ما يطرحه من أفكار (خارج الشعر) هالة على الرجل هو في غنى عنها. فالرجل الكبير بما أنجز، شعرا ونثرا، لا ينفعه الاطراء ولا هو في سياق الانتفاع بذلك الاطراء . في المقابل فان أي هجوم عليه لا ينتقص من قيمته الشعرية، حتى لو حصرنا تلك القيمة بالتاريخ (وهو افتراض ينطوي على سوء فهم عظيم لانجازه الشعري). رجل بحجم أدونيس من حقه أن يقول ما يراه مناسبا للقول في كل شؤون الحياة، بل إن من واجبه أن يرعى شؤون أمته من جهة مكانته الثقافية الكبيرة. لن يكون صمته لو صمت إلا نوعا من الخيانة. ولأن أدونيس يعرف أن التاريخ لا يرحم أحدا فقد خصص جزءاً من وقته لمراجعة أحوال الأمة، لكن بطريقة المقولات الجاهزة. وهو ما لم ينتبه إليه أحد ممن يواجهون مقولاته تلك بغضب أعمى. مشكلة أدونيس كما أرى تكمن في أن كل ما يقوله صحيح، بل وبديهي. ولو فُككت مقولاته نقديا لانتهت عملية التفكيك تلك إلى خلاصة ميسرة مفادها أن الامة العربية ليست بخير. ربما في تلك الخلاصة نوع من التبسيط، غير أنها في الحقيقة تمثل المركب الذي يحمل على متنه معظم الناقمين على أدونيس بسبب ما يشاع عن اختلافه. وهو موقع لا يبعده (وهو المفكر المثالي) كثيرا عن منطق رجل الشارع العادي في أية بلدة عربية. فلو أجرينا لقاءات مع عينة بشرية عشوائية في اماكن مختلفة من البلدان العربية (في سن الفيل في بيروت، في الصالحية في دمشق، في باب الشيخ في بغداد، في الجمالية في القاهرة، في سقف السيل في عمان، في شارع محمد الخامس في طنجة مثلا) لسمعنا كلاما لا يقل عن كلام أدونيس تشاؤما ويأسا وقسوة وذعرا. فالرعية في اسوأ حال في ظل غياب الحق في المواطنة. وهو غياب يدركه الأميون قبل المثقفين، ذلك لانهم لا يهتدون إلى الأنفاق الوهمية التي يمكنهم من خلالها التماهي مع أوهام نخبة تعيش هروبها باعتباره حلا جماليا. يقف البشر في كل البلدان العربية اليوم في مواجهة جدار عال لا يجدون لوجوده أي تفسير عقلاني. جدار تصنعه قوى محلية مدعومة من قبل قوى اقليمية ودولية. الحفرة التي وقعنا فيها جميعا لا يمكن التغاضي عن وجودها بعد أن صارت مرئية باعتبارها المأوى الوحيد الذي يقبل بالصيغة التي يقترحها وجود الإنسان العربي لمفهوم الإنسان. وهو مفهوم لم يعد متداولا في بقاع كثيرة من العالم، شرقا وغربا. لنسأل الناس عن أحوالهم وسنسمع العجب الذي تتضاءل أمام هوله جمل أدونيس المنددة. الواقع الذي يعيشه الناس يقترح كلاما أقسى من كل ما يقوله الشاعر الكبير. إذاً لمَ كل هذا الضجيج الذي ينبعث كلما قال أدونيس كلمة؟ أمة لا تصلح إلا للإنجاب جمل أدونيس واضحة ولا تقبل التأويل. لا يقول الرجل كلاما غامضا أو ملتبسا. قال أثناء زيارته لما يسمى بكردستان (وهي جزء مقتطع من العراق منذ عشرين سنة بإرادة امريكية) ما معناه أن الثقافة العربية تعيش طور الانقراض. وسواء قال العرب أم الثقافة العربية فان حكمه يصح على الجانبين. ما الذي يمكن أن توصف به شاة تقاد إلى الذبح، عمارة آيلة إلى السقوط، مرآة ضربت بالرصاص وتشظت إلى أجزاء من غير أن تسقط عن الاطار الذي يحيط بها؟ هشام جعيط قال في لقاء تلفزيوني ذات مرة أن العرب لا ينفعون إلا للانجاب. لقد سبقتهم اسئلة العصر. ليست هناك أدوات متاحة تصلح لقياس المسافة التي تفصل بينهم وبين الآخرين. أمة هامدة وساكنة وراكدة. اخذها الكسل بعيدا عن كل اهتمام جاد بالحياة بمعناها الحيوي العميق ولم تعد راغبة في المشاركة في تغيير البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. لم تعد لها القدرة على المساهمة في بلورة مفهوم جديد للحياة المعاصرة. ليست المجتمعات العربية حديثة غير أنها في الوقت نفسه ليست قديمة. إنها مجتمعات ضائعة ومضيعة لا تنتمي إلى أي عصر واضح الملامح. لا تملك من الثوابت ما يؤهلها للدفاع عن نفسها وليست لديها القوة للاندفاع إلى الأمام. تركيبة يعجز الخيال عن الوصول إلى وصف محدد لمكوناتها. لذلك أجد أن من الخطأ أن يتذكر أدونيس القرون الأوروبية الوسطى في معرض وصفه لما نسميه مجازا بالزمن العربي الراهن. إن التناقض الواضح بين ما يستهلكه العربي من تقنيات مستوردة وبين فكره المقيد بقدرته على الاستهلاك انما يشكل في حد ذاته فضيحة لا يمكن أن تقع إلا في ظل خلو التاريخ من كل معنى. ما يجري في الوطن العربي وبالاخص في الاجزاء الثرية منه يؤكد أننا شعوب معلقة في الفراغ. ما علينا سوى أن ننتظر اليد التي ستمتد يوما ما لتقطع الحبل فنذهب إلى الهاوية. قال جعيط شيئا عن الزراعة. كان يأمل لو التفت العرب إلى أرضهم ليكونوا على الأقل قادرين على الحصول على لقمتهم. ولكننا في الحقيقة لا نزرع إلا مضطرين. لقد دُمرت ذائقتنا فصرنا نأكل الهامبرغر والبيتزا وصار علينا أن نستقبل الشاحنات القادمة من مختلف أنحاء العالم بالفواكه والخضروات. لنقل أننا نقف في محطة لن يمر بها أي قطار. في ذلك الفراغ لا يزال لدينا ما نفعله: نعيد النظر بما انتهت إليه مباحثات الصحابة في سقيفة بني ساعدة، ننكر على الأجيال حقها في قراءة الليالي العربية بعد أن ترجمت إلى كل لغات العالم، نساوي بين النحت وبين الاصنام التي كانت في مكة قبل الفتح الاسلامي. يمكننا أن ننتمي إلى القرون الوسطى في هذا الجزء المعتم بالذات، لكن ما من شيء في حياتنا ينبئ بعصر الانوار الذي انبثق من تلك القرون. يهبنا أدونيس زمنا لا نستحقه. الحقيقة ليست البداهة يهدر ادونيس وقته. يهدر وقتنا. يهدر وقت منتقديه. الحقيقة ليست هنا. لا يهمني في شيء أن يرتد أدونيس عن العروبة أو يقول عنها ما يشاء من الكلام فهو حر في ما يقول أو ما يصل إليه من قناعات. ولكننا في حاجة الى وقته شاعرا عربيا يقول الحقيقة. والحقيقة ليست البداهة التي تتداولها ألسنة الناس العاديين والتي لا ينكرها سوى عدد من المعتوهين والمرتزقة والكسالى والمنافقين والمعاقين فكريا والمرضى بهلوسة الماضي والمحرومين من نعمة العيش المباشر في الحياة. فما من عاقل في إمكانه أن يقول أن العرب بخير أو أن ثقافتهم بخير. هناك جمهوريات تورث. هناك ديمقراطيات ترعاها شركات الاحتكار العالمية. هناك ثروات تنتج عنها شعوب هي الأفقر في عالمنا المعاصر. دول الطوائف والتجمعات العشوائية لا يمكنها سوى أن تكرس الانتقام مبدأ للحياة. وها نحن لا نفوت فرصة للاستقواء على الآخر من بيننا والثأر منه. هناك احتلالات تجد لها تفسيرا في عجزنا عن ادارة شؤوننا بأنفسنا. هناك اللغة التي افقرناها فصارت لا تجرؤ حتى على العودة إلى مناجمها بل تظل حبيسة الفتاوى التي تحرم الاختلاط بين الجنسين. هناك عنصرية لا مثيل لها في كل العالم تجعلنا موضع تندر من قبل مدمني المخدرات. هناك حكومات لا شغل لها سوى أن تبتز وترتشي وتضيع الحقوق وتضطهد وتقمع وتسجن وتنتهك وتسرق وتبيع ما لا تملكه وتتخلى عن الامانات وتكذب وتراوغ وتمتهن كل كرامة وكل سيادة من أجل مصلحتها. بداهات الحياة العربية تضع العرب في موضع لا يؤهلهم للخوض في حروب ضد ثقافات الشعوب الأخرى كالكرد والامازيغ والسريان كما يزعم أدونيس. من لا يقدر على الدفاع عن ثقافته لا يمكنه إلحاق الهزيمة بثقافات الشعوب الأخرى. تلك بداهة لم يدركها أدونيس للأسف. انساق أدونيس في أفكاره الشمولية وراء البداهة كثيرا، فصار يدافع عن ثقافات شفاهية كما هو حال ثقافة الكرد والامازيغ والسريان (هل للسريان في عصرنا ثقافة خاصة بهم؟) بطريقة عنصرية تبيح اتهام العرب بما لم يفعلوه. العرب يا سيدي الشاعر ضعفاء، بل إن الضعف قد لا يكون الصفة المناسبة لوصف حالتهم. غير أن ذلك الواقع الذي انتهوا إليه لا ينفي أنهم وهبوا البشرية في العصر الحديث شعراء وعلماء ومفكرين ومعماريين ورسامين واقتصاديين وقانونيين ومناضلين نادرين من نوعهم، كان أدونيس واحدا منهم. وهو الموقع الذي يؤهله لقول الحقيقة والبحث عنها، لا أن يقول ما لا ينفع ولا يضر من بداهات عيش.