الإشاعة خبرٌ مُختلَق يسري سريان النار في الهشيم ليشكل رأيا عاما داخل النسيج الاجتماعي ، حيث يتلقَّفه المُغرِضون ويذيعونه وسط البسطاء ، فيتناقلوه بدورهم ويروِّجوه دون أن يتثبَّتوا صحته، ولا أن يتحققوا صدقه، ولا أن يكلّفوا أنفسهم عناء تبين مصدره ، فيفسح المجالُ لهواة الاصطياد في الماء العكِر ليشيعوا الفُرقة والبغضاء بين الناس ، جماعاتٍ وهيئات ومؤسسات ... وإن مما زاد الإشاعة انتشارا واستفحالا ، عولمتُها عن طريق وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال المرئية والمسموعة ، و ما واكب ذلك من مستوى ملفتٍ للأنظار من حيث التحكم في الصورة فيما يسمى "بالفوتوشوب" ، الذي يوظفه بعضهم لأغراض خبيثة مبيَّتة سلَفا مع سبق الإصرار والترصد . فكم من عِرض بريء قُذف، وجاه شريف نُسف، وصالح عفيف فُسق، نتيجة كلمات تُقُوِّلت وصور لُفِّقت، تساهل الناقلون في نشرها وتغافلوا عن ضرره. أما عن أسباب فُشوِّها وذيوعها فكثيرة أكتفي هنا بذكر بعضها، علما أن ثمَّة أسبابا أخرى لها علاقة بالجو السياسي والاقتصادي ... و ... إلخ ... أولا: فصاحة قول المشيِّع وحُسن منطقه. ثانيا: كونه ممن يُستمال إليه قلب السامع ، فلا يكلِّف نفسه عناء فحص ما سمع، فأحرى أن يطالبه بالبيِّنة على قوله . ثالثا: موافقة الخبر لهوى في نفس السامع، كأن يرى فيه انتصارا لنفسه وتقليلا من قدر أخيه. رابعا: ضيق صدره وحسدُه على ما وُهب أخوه وأُغدق عليه من الفضل، مالا أو جاها أو علما أو محبة وقَبولا وتقديرا في قلوب الناس ، فلا يطوي الحَقود جوانحه إلا على غضب مكتوم رجاء زوال النعمة وتحقق الإخفاق والفشل. وحتى أكون وإياك على حذر من الوقوع في داء الإشاعة الوبيل، أرى من الضروري معرفة وتشخيص أصناف الناس في تعاملهم مع الخبر . فمنهم الذي يهوِّن الخبر و يستصغره ، أو يهوِّل منه ويستعظمه ويضخِّمه فينقله من واقعة صغيرة إلى مشكلة كبيرة ذات بعد درامي ، نعبِّر عنها باللسان المغربي الدارج " من الحبة قُبّة " . ومنهم الذي يسمع الخبر فينقله على غير وجهه ، ليس من باب الافتراء والكذب ، لكن بسبب فهمه على غير مراده ، فيطلق الكلام على عواهنه . ومنهم من يقطعه من سياقه وما حاطه من ملابسات ليُقوِّل غيره ما لم يقله . ومنهم من ينقل مفهوم الكلام لا منطوقه و نصَّ كلامه وطريقة نطقه . ومنهم من ينتقي منه ما يوافق هواه ويحقق مصلحته. ومنهم من يقرن بين الخبر وناقله، في غفلة تامة عن مدى تأثير رؤيته الفكرية وانطباعاته النفسية على صياغة الخبر وطريقة نقله. ومنهم الذي يصلُه الخبر صحيحا فيتحرى الأمانة في تبليغه دونما زيادة أو نقصان ، لكن آفته أنه بلَّغه بسخرية وتهكم واحتقار، مما حطَّ من قيمته وقيمة من أُخبر عنه . ومنهم ومنهم وهلمَّ جرا ... أما عن وسائل درءها فقد جعل الله تعالى أهمها ، قبل التركيز على مصدرها والمروجين لها ، تربيةُ السامعين لها على منهج التثبُّت والاستيضاح والتبيُّن ، فهذا بإذنه سبحانه الكفيلُ بوأدها في مهدها وإيقاف استفحال شرها : ﴿ ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ .1 سورة الحجرات الآية 6. فإذا امتلك أحدنا الاستعدادات العقلية الواعية الناقدة الفاحصة ، التي تُفرغ الوُسع والجهد لمعرفة حقيقة الأمر وظروفه وملابساته ، فحينها تتحطم الإشاعة على صخرة التأمل والتحليل و المناقشة . والعلَّة من ذلك كله ما ذكره القرآن في السياق نفسه : ﴿ أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ﴾ . ولمعرفة عظم شر وبال مرض الإشاعة العُضال ، ، تعالوا بنا نقف هنيهة مع آية كريمة سردها علينا القرآن الكريم في سياق حادثة الإفك الآثمة في حق أمنا عائشة الطاهرة المطهَّرة الشريفة العفيفة رضي الله عنها . تلكم الفِرية التي أشاعها بعض المنافقين،وذهب - للأسف - ضحيتها بعض المؤمنين. نقف عندها استنباطا لبعض الدروس والعِبر. لنتأمل قول الله عز وجل : ﴿ إذ تلقَّونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم﴾ . لنتأمل هذا التصوير القرآني البليغ الذي دفعهم إلى الخفة والطيش والتهور ليروِّجوا ما بلغهم قبل أن يستقر ذلك في مداركهم وتتلقاه عقولهم بتفكير متَّزن ووعي متيقِّظ بمقتضاه ومقصده . ﴿ إذ تلقَّونه بألسنتكم ﴾ لا بوعيكم ولا بقلبكم ولا بعقلكم ، بل بألسنتكم كأن القول لا يمرّ على الآذان ولا تتملاّه الرؤوس ولا تتدبّره العقول، بل لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا فحص ولا إمعان نظر! 2 في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب بتصرف يسير، الجزء الرابع فإذا ما بلغك خبر ما، فلا تعجَل بقَبوله ، بل أمهل حتى تعلم صحته . استحضر وأنت تتحدث أو تصدر حكما على شخص أو حادثة أن الكلمة مسؤولية وأمانة يرتعش لدقَّتها الوجدانُ . قد يدرك المتأنِّي بعض حاجته وقد يكون مع المستعجِل الزَّللُ وهب أنك في مجلس ما أُشيع فيه عن أحد بشيء مشين هو منه بريء ، فأنت أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما ، فإما أن تستجمع قواك وشجاعتك لتقول للمسيء أسأت وللمخطئ أخطأت ، تذبُّ وتنافح عن عرضه ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإما أن تنصرف من المجلس زجرا للقائل عن فعله . احذر أن تنشر خبرا ما وتذيعه في المحافل والمجالس والمنتديات فتترك المجال فسيحا لمن شاء أن يقول ما شاء وقتما شاء، فتغدو الأعراضُ مجرَّحة والسمعة ملوَّثة، حتى إذا حَصحَص الحق استحال تداركُ الأمر ، سقطت عدالتك عند الناس ، وأصبحت عرضة للاستهانة والاستخفاف . ولكيلا تترك للشيطان فرصة العبث بينك وبين أخيك التمس له الأعذار التي تبرئ ساحته، وإن استطعت أن تسعى إليه مستفسرا متبيّنا مما سمعت قبل الخوض فيه فافعل ، فهذا مظِنَّة للحفاظ على ماء وجهه وتعزيز ثقته فيك وعلوِّ قدرك عنده . واعلم ، بل تأكد جازما ، بأن من وشى إليك اليوم يشي بك غدا ، فكن منه على حذر . إياك أن تنتقي من الخبر ما يوافق هواك، أو تَقرن بين الخبر وبين رأي قائله. ولنفرض جدلا أنك سمعت خبرا ثبت صدقه فلتتوقف عن إشاعته ونشره بين الناس ، خاصة إن تبيَّن أن لا مصلحة تُرجى من ذلك . كيف تستبيح السعي بأخباره فتُشيع السوء بين الناس، فيُمضون أوقاتهم في الحديث عن فلان وعِلاَّن؟ كيف تلعب بآخرتك؟ أما سمعت تحذير البشير النذير صلى الله عليه وسلم حيث قال :"...شرار عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبة، الباغون البُرآء العَنت " 3أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه. أما أنتَ أخي ، وأنتِ أختي ، يا من حامت بساحته التُّهم ، اعلم أن الإشاعة ضريبة نجاحك وتميزك ، يوظفها العاجزون عن المنافسة الشريفة عساهم يفتُّوا من عزمك ويشلُّوا حركتك . فاحذر أن يجد التردد إلى نفسك سبيلا، بل تجمَّل بالصبر وشُقّ طريقك إلى غايتك ، وما يُدريك فرُبَّ نقمة في طيِّها نعمة . وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويت أتاح لها لسانَ حسود طاوع نفسك وجاهدها أن تدفع السيئة بالحسنة ، متمثِّلا قول القائل : إذا أَدمَت قوارصكم فؤادي صبرتُ على أذاكم وانطويتُ وجئتُ إليكم طلقَ المُحيَّا كأني ما سمعت ولا رأيتُ جاهد نفسك ووطِّنها على أن تُبطِن الخير وتظهر المعروف . أحسن لمن آذاك وأساء إليك ، إن هو أدبر عنك فأقبل عليه ، رافعا أكفَّ الضراعة داعيا له ومستغفرا ، فهذا برهان طهارة قلبك وصفاء سريرتك من أدران الغلِّ وشائبة الحقد ومهلكة الحسد . النقد الذاتي