أسدل الستار أخيرا في فرنسا على مسلسل انتخابي طويل، عرف بدايته مع تمهيديات نونببر 2016، مرورا برئاسيات مُثيرة في 23 أبريل و7 ماي 2017، وانتهت بصعود نجم إيمانويل ماكرون (39 سنة) كساكن جديد لقصر الإيليزي، ثم تشريعيات 11 و18 يونيو 2017... وقد عرف هذا المسلسل صعود وأفول نجوم في السياسة الفرنسية وبعض منظريها، كما عرف تدافعا إيديولوجيا وسياسيا وإعلاميا كبيرا متأثرا بالأزمة الاقتصادية وبالهجمات الإرهابية وما رافق ذلك من تلوين الخطاب السياسي بألوان الكراهية والخوف من الإسلام والمهاجرين، كما تمددتْ هوامش الخطاب اليميني المتطرف... الفرقاء السياسيون الفرنسيون استعدوا للجولة الأخيرة في المعركة الانتخابية، بإعادة النظر في اختيارات مرشحيهم وكذا ترميم برامجهم أو تعديل لهجة خطابهم... لكن الملاحظة المهمة هي الاستعداد النفسي المسبق لدى تيار اليسار عموما بقبول الهزيمة، وكذا محاولة حزب الجمهوريون لتدارك الموقف بأقل الخسائر؛ في حين أن بروز تيار "الوطنيون" بزعامة فلوريان فيليبوت، وهو الرجل الثاني في حزب الجبهة الوطنية، أسهم في تشتيت جهود حملة مارين لوبان... كما لوحظ أن حركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ستتحول إلى حزب "الجمهورية إلى الأمام" وتدفع بوجوه جديدة غير معروفة لدى الإعلام وكذا الرأي العام الفرنسي من رجال أعمال وأساتذة جامعيين وناشطون مدنيين وحقوقيين... بالإضافة إلى استقطاب شخصيات من اليسار واليمين لخوض غمار الانتخابات التشريعية ليونيو 2017... كل الاستطلاعات والتقارير الإعلامية مالتْ إلى فوز "حزب الجمهورية إلى الأمام" بنسبة ساحقة؛ حتى يحقق الرئيس ماكرون الإصلاحات التي وعد بها الناخب الفرنسي، بدون عراقيل ممثلي "قصر بوربون".. حتى إن جُل التحليلات كادت أن تحصر انتخابات يونيو 2017 بين "حزب الجمهورية إلى الأمام " و"حزب الممتنعين عن التصويت" أو حزب المقاطعين... مقتنعين بأزمة الثقة بين الناخب الفرنسي وبين الأحزاب الكلاسيكية، فقد وصلت نسبة المقاطعة إلى %51 في دورة 11 يونيو...! وبرجوعنا إلى لغة الأرقام، فإننا نجدها تتحدث بمصطلحات تحمل مضمون تجديد وتشبيب النخبة الفرنسية؛ فحوالي %75 هي من الوجوه الجديدة، وكذا تغيير تركيبة نواب الجمعية العمومية الفرنسية بارتفاع عدد النواب الفرنسيين من أصول مهاجرة كالمغربي منير المحجوبي (الذي فاز على الكاتب العام للحزب الاشتراكي الفرنسي في باريس) واللاجئ السياسي الرواندي هيرفي برفيل.. كما أطاحت انتخابات 18 يونيو بحوالي نصف أعضاء البرلمان السابق، وعرفت مناصفة نوعية غير مسبوقة بدخول حوالي 223 من البرلمانيات إلى "قصر بُوربون"؛ أبرزهن مارين لوبين، عن الجبهة الوطنية.. لغة الأرقام لم تكن رحيمة، وعرّت عن واقع تراجع كبير في شعبية الأحزاب الكلاسيكية؛ فالحزب الاشتراكي تراجع من 258 مقعدا سنة 2012 إلى 28 مقعدا سنة 2017. وقد كانت نتيجة مبررة لاستقالة جون كريستوف كومبدليس، أمين الحزب. كما تراجع حزب الجمهوريين من 185 مقعدا إلى 113 مقعدا. أما حزب لوبان، فقد حصل على 8 مقاعد فقط؛ وهو ما يعني عدم قدرته على تشكيل فريق برلماني، لأن المطلوب هو 15 برلمانيا... في حين نلاحظ أن تحالف حزب اليسار الراديكالي (ميلونشون) والشيوعي حصد حوالي 27 مقعدا.. أما حزب ماكرون، فقد حصد لوحده على 306 مقاعد، وحصل حليفه فرانسوا بايرو زعيم "الحركة الديمقراطية" على 42 مقعدا؛ وهو ما مكنه من أغلبية مريحة بعيدة عن رقم 289 مقعدا كأغلبية مطلقة.. بالمقابل، فقد ارتفعت نسبة الممتنعين عن التصويت في 18 يونيو إلى نسبة %57,4؛ وهي أكبر نسبة منذ سنة 1969 حيث بلغت نسبة الامتناع آنذاك % 25,3 .. جعلت زعيم اليسار الراديكالي ميلونْشون يصرح بأنها مقاومة ضد الانقلاب الاجتماعي..! قراءة في أرقام تشريعيات فرنسا تدفع إلى الجزم بأن الرئيس ماكرون سيكون أمام معارضة سياسية ضعيفة إن لم تكن منعدمة، ويُنْتظر أن تتحول معارضة قصر الإيليزي من داخل الجمعية العمومية إلى الساحات العمومية، خاصة أنه ورث عن حكومة فرانسوا هولاند "قانون الشغل" المثير للجدل والذي وصفه بعض المراقبين بأنه يميل إلى صالح الشركات ويعصف ببعض مكتسبات الشغيلة الفرنسية، كإعادة التشغيل بعد الطرد التعسفي مقابل تعويض مادي وكذا تقليص ومراجعة التعويض عن البطالة وغير ذلك... وتنضاف إلى لائحة تحديات ماكرون وفريقه داخل "قصر بوربون" قضايا أخرى كحالة الطوارئ والإرهاب والضواحي.. لغة الأرقام، أخيرا، تضع الرئيس إيمانويل ماكرون من جهة في موقع الرجل القوي الذي يجمع أكثر من اختصاص وبإمكانه تغيير فرنسا وأوروبا... وتضع الأحزاب الكلاسيكية في أزمة وجود وضرورة تجديد جلدها ونُخبها وخطابها من جهة ثانية.. ولعل ضخه لدماء جديدة من خلال الدفع بوجوه جديدة داخل الجمعية العمومية الفرنسية باسم "حزب الجمهورية إلى الأمام"، وتمثيلية نوعية أكبر للمرأة والمهاجرين سيجعل من تركيبة البرلمان صورة مطابقة للمجتمع الفرنسي المتعدد للهويات والديانات.. كما أن وضعه لباقة زهور بمكان غرق المغربي إبراهيم بوعرام في فاتح ماي، وكذا تنظيمه يوم الثلاثاء 20 يونيو لفطور جماعي بمناسبة رمضان الكريم... يتضمن رسائل إلى الذاكرة الجماعية الفرنسية وكذا الاعتراف بالإسلام والمسلمين كمكون أساسي في النسيج الفرنسي.