حسن طارق – أستاذ جامعي في العلوم السياسية ببدلة سوداء ملائمة لخلفية زرقاء غامقة، وملامح باردة مناسبة للحمولة العاطفية للحدث، ونص مكتوب بإحكام لكي لا يترك للمشاعر مجالا للارتجال، أعلن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، مساء أمس الخميس، عن قراره السياسي بعدم التقدم إلى الاستحقاق الرئاسي في ربيع 2017. الرئيس، قدم في مرافعته، بنبرة لا تخلو من تأثر، العناوين الكبرى لحصيلته الاقتصادية والاجتماعية، واعترف بتأخر الكثير من نتائجها، بل وبفشله في بعض القرارات، مثل ما يتعلق بنزع الجنسية عن المتهمين بقضايا الإرهاب. في خلفية قرار الإمساك عن الترشح، دافع هولاند عن الحاجة إلى مناخ موحد للجبهة اليسارية والتقدمية، لمواجهة مرشح يميني يهدد النموذج الاجتماعي الفرنسي ومكتسبات الخدمة العمومية، ومرشحة عن اليمين المتطرف تهدد قيم الجمهورية. خصوم الرئيس، اعتبروا قراره متوقعا، وفضلوا قراءته كدليل على استباق فشل انتخابي أكيد، تقدم إرهاصاته الأولى نتائج الاستطلاعات حيث مؤشرات الشعبية في أدنى درجاتها بالنسبة إلى رئيس في السلطة، ونجاح الانتخابات التمهيدية لليمين والوسط. أما رفاقه، وإخوته/الأعداء داخل الحزب الاشتراكي، فقد اختاروا بعناية الكلمات اللازمة لتغريداتهم على "تويتر"، والمعبرة على تقدريهم لموقف "حكيم" و"شجاع" و"أخلاقي"، من "رجل دولة" من طراز خاص. المعلقون، وقفوا على طبيعة الخطاب القصير لليلة أمس، وخاصة على حضور ضمير المتكلم الواردة بقوة في النص، ذلك أن هولاند إستعمل صيغة "الأنا" ما يقارب 24 مرة . البعض اعتبر أن في الأمر دليل على شعوره الخاص، بأنه وحده، ربما، من سيقوى على الدفاع عن حصيلة ولاية "خماسية"، تثير النقاش والجدل يسارا ويمينا ووسطا. وهي حصيلة لن تكون بالتأكيد حجة سياسية وانتخابية مقنعة حتى لدى أقرب المرشحين إليه . آخرون، فضلوا المقارنة بين لعبة الجناس اللغوي الشهير (Anaphore )الذي استعمله هولاند في اللقاء التلفزي الحاسم مع ساركوزي، في حملة رئاسيات 2012، عندما استرسل في هجوم غير متوقع في استعراض تصوره للوظيفة الرئاسية، مستعملا جملا قصيرة تبدأ بالعبارة التي ارتبطت به إلى الأبد: أنا رئيس الجمهورية، وبين توالي عناوين حصيلته مسنودة إلى ضمير المتكلم، كدليل على المسؤولية الشخصية، وربما كشعور باليتم الذي ستصادفه لا محالة هذه الحصيلة، وسط الرفاق قبل الخصوم . أما عناوين صحف اليوم، وأغلفتها، فقد فضلت بناء "منشيطات" تاريخية لتخليد الحدث، مستغلة بالأساس كلمات وجيزة مثل "النهاية "أو "المغادرة "، أو عناوين تضمر تلاعبا بكلمات مشهورة لهولاند، مثل "أنا رئيس الجمهورية "التي تحولت إلى.. أنا (لست ) رئيسا للجمهورية، أو مثل شعاره الأكثر إثارة للجدل: "الرئيس العادي"، والذي تحول إلى الرئيس الذي يغادر بشكل عادي. "ما يهم ليس هو الأشخاص، بل فرنسا، التي لا أريد لها الدخول في مغامرات غير مأمونة، لذلك لابد من مخرج جماعي للمشروع التقدمي"، يقول الرئيس الاشتراكي . المخرج الجماعي، ورغم انسحاب هولاند من السباق نحو خلافة نفسه في قصر الإيليزي، لا يبدو سالكا، ذلك أن ترشيحات وازنة داخل العائلة الاشتراكية، تبقى غير مقتنعة بلعبة الانتخابات التمهيدية لليسار، كما هو الحال بالنسبة لليساري المشاكس، ابن طنحة، "ميلونشون"، كما أن ترشيح "ماكرون" الظاهرة السياسية/ الإعلامية الجديدة، والمستشار الاقتصادي السابق لهولاند ووزيره في الاقتصاد، من شأنه أن يشوش على اختيارات الناخبين التقليديين اليسار ،خاصة الأكثر ميلا منهم للوسط. دخل المرشحون لتمهيديات اليسار، حيث اللائحة النهائية ستحصر في منتصف دجنبر، السباق، ويبدو أن هذا السباق قد يشتد بين "فالس" الوزير الاول الحالي، وبين "أرنولد مونتبورغ"، الوزير السابق في فريق هولاند والمستقيل على خلفية خلاف معلن حول السياسة الاقتصادية . القرار يبقى غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، وهو بالطبع ليس للتقليد، في بلادنا، من طرف المتمسكين بمقاعد السلطة السياسية والحزبية، الذين يستطيعون، تحت شهوة الخلود الشخصي، تحويل الفشل إلى مبرر جيد للمزيد من قتل الفكرة الجماعية ووأد المستقبل . فهؤلاء يفضلون باطمئنان "كنسي" غريب الذهاب رأسا نحو الانتحار.