عبد الله حمودي مفكر كبير، أفنى جزء كبيرا من مساره الأكاديمي والعلمي في تفكيك بنية السلطة في المغرب، لكنه ليس مثقفا معزولا عما يجري في المجتمع وليس مفصولا عن الدينامية الاجتماعية والبيئة التي تربى فيها. خرج في مسيرة الأحد مع المتظاهرين دون أن يؤمن بالوهم القديم بأن المثقفين يجب أن يأنسوا لوحدتهم وان يكونوا بعيدين عن الجماهير بمبرر ان الثقافة متعالية..تماما كما كان حمودي في الصف الأول في تشريح علاقة الشيخ والمريد في النظام السياسي المغربي وتماما كما نجح حمودي الأكاديمي في ان يقيم اوجه التشابه الكثيرة بين تدبير الزاوية وبين تدبير الحقل السياسي نجح حمودي في ان يثبت لنا جميعا ان المثقف لم يكن يوما مثل جزيرة معزولة.. لكن بعض المثقفين عندنا ممن حقنوا بداء السلطة المزمن وممن تقترن الكتابة عندهم بالخوف والرقابة الذاتية يريدون التأسيس لمفهوم جديد وغريب للمثقف. يريدون بالتحديد ان يصبح المثق آلة ميكانيكية تشتغل في مختبر للأفكار او في محترف للتنظير او ان يصير الكاتب مجرد "شيء" يمتلك راسا ومعدة يخضع لقانون العرض والطلب والطلب هذه الأيام ليس بضاعة مربحة ولذلك لابد من السكوت حتى تمر العاصفة..وبعدها سيشرح لنا السوسيولوجيون بالكثير من العبارات المبهمة والغامضة لماذا توقعوا فشل حراك الريف وسييهبون- كعادتهم- في الدفاع عن تنبؤاتهم بان الاحتجاجات كانت هشة وسيقول لنا الفلاسفة(بلغة تجريدية مغرقة في الميتافيزيقا) فيما يشبه الحسم الفكري إن هؤلاء الشباب الذين دافعوا عن الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية كانوا ضد العقل والمنطق وانزاحوا عن مجرى التاريخ..وسيخبرنا المؤرخون أن مثل هاته الحركات الفجائية لا تستحق الدراسة إلا بعد خمسين عاما.. اتحاد كتاب المغرب الذي كان في لحظات تاريخية مختلفة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال في الصف الأول لمواجهة انزياحات السلطة صار اليوم كيانا باعثا على الحسرة ثم على اليأس وكل همه ان يظفر ببعض الزيارات ويصدر مجلة يتيمة جدا في غير موعدها الحقيقي ويعجز عن تنظيم مؤتمره وفوق ذلك- وهذه هي الطامة الكبرى- ان يستكين للحياد في قضايا مجتمعية مصيرية تهد البلاد والعباد إلى الحد الذي نصدق ان اتحاد الكتاب يشبه مؤسسة رسمية تابعة للدولة مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي..ما الفرق في الأخير بين مؤسسة رسمية وبين اتحاد متهالك لا يمتلك الشجاعة الكافية ليعلن وفاته.. في الاحتجات الشهيرة بفرنسا نهاية الستينيات من القرن الماضي لم يقل دوبري وسارتر وبيير بورديو الذين قادوا الثورة الطلابية المتمردة على التقاليد الدوغولية الفرنسية إن المثقف عليه ان يكون منسلخا عن حركية المجتمع بل إنهم، وبالإضافة إلى التراكم المعرفي الممهد للثورة، كانوا في طليعة الغاضبين من سطوة الطبقة الواحدة ومن الفهم المقلوب للثورة الذي كان يدافع عنه اليسار الراديكالي الفرنسي. وفي حمأة مواجهة النازية لم يقل روني شار إن مواجهة هتلر لا يمكن ان تنهض امام جو الشحن والتجييش والرغبة في الاقتصاص إنما خاض معركة الحياة والموت لإيمانه ببشاعة النظام الباحث عن المجال الحيوي ولم يقل اليوسي للسلطة نعم ولم يهادن ولم يرتكن الجابري والعروي أيام كان الاتحاد يقود القوات الشعبية في الزاوية البعيدة ولم تمنع شهرة سقراط ان يبث دعوته في الناس وان يحارب الفكر المتكلس في الساحات العامة..إنه تاريخ طويل من نضالات المثقفين ضد الظلم والاستبداد وضد ان تسود ثقافة"نعم" التي نجحت فعلا في تربية جيل كامل من "الضباع" كما توقع الراحل جسوس..رحمة الله عليه. *صحافي بيومية المساء [email protected]