الدريوش: قطاع الصيد سجل استثمارات فاقت 930 مليون درهم وخلق 126 ألف منصب شغل    حضور مغربي قوي في جوائز الكاف للسيدات    الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفين مغاربة وعرب في قبضة زلزال الربيع العربي
نشر في المساء يوم 14 - 12 - 2012

في ظل تسارع الأحداث وحركة الشارع المتوالية، وجد المثقف العربي عموما والمغربي خصوصا، نفسه في وجه عاصفة هوجاء،
تطلبت منه لملمة نفسه بسرعة قبل أن تجرفه الأحداث بعيدا.
وإذا كان الشارع العربي والمغربي قد خرج من رحم الولادة إلى الفعل، ورفع شعارات بمختلف أطيافه تطالب بالديمقراطية وتدعو إلى محاربة الاستبداد، وعبر عن نفسه في شكل مظاهرات عنيفة أفضت إلى زوال أنظمة مستبدة، أو عبر عن نفسه بشكل سلمي قاد إلى العديد من الإصلاحات التي ظلت مطلب الشارع.
في كل هذا، وجد المثقف المغربي نفسه محمولا على هدى وجع الشارع ومطالبه وتفرقت به السبل بين منخرط في حركية هذا الشارع من الجيل الجديد من النخب المغربية، التي تربت في أحضان الثورة الرقمية ومشتقاتها من الفايسبوك وغيره، هذه النخب التي رفعت شعارات تطالب بالتغيير، لم تنتظر الكثير من الوقت كي تنظر للمرحلة أو تمفهمها، وإنما انخرطت فيها كما تقتضيه حركية الشارع وسرعة التعاطي مع المطالب المستعجلة، ومنها مطالب لا تتعلق بجوانب اقتصادية وإنما بجانب أساسي يتصل بالقيم الرمزية الكبرى، ومنها قيم الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية وحقوق الإنسان، وهي القيم الكبرى التي دفعت بالشعوب إلى الانتفاض.
في حين لم يستوعب المثقف المغربي التقليدي الحركية السريعة والخلاقة التي انخرط فيها الشارع، وظل متوجسا منها طارحا أسئلته التقليدية: ممن تخلقت هذه الحركية؟ وهل هي من صنع جهة ما؟ وكيف أنه لم ينتبه إليها وهي تكبر وتأخذ هذا الشكل العلني الصريح؟.
وهذا ليس حال المثقف التقليدي، بل هو حال مثقف الدولة، وحال الأجهزة نفسها، التي فاجأها من حيث لا تعلم ما وقع ويقع في الشارع العربي وفي الشارع المغربي، بل حتى أكبر أجهزة الاستخبار العالمية وقفت مشدوهة أمام الحجم والتحول الجوهري لهذه الحركات الاحتجاجية التي بدأها شباب ليبراليون، قبل أن يلتحق بهم الإسلاميون ليجنوا غلة هذا الحراك الاجتماعي بصعودهم إلى سدة الحكم.
أكثر المتفائلين لم يكن يتصور هذا الصعود، وأحسنهم قراءة للحياة السياسية والاجتماعية لم يكن يدر بخلده أن تؤدي حركة اجتماعية إلى فرز ذاتي يقود مشروعا غير مجرب في العالم العربي إلى قيادة الدولة.
هذا هو جوهر الحدث الذي انطلق قبل نحو عامين، وأدى إلى التغيرات التي حصلت في عدد دول الربيع العربي، وساهم في نسف الكثير من الطروحات حول الثورة والمشروع الثوري وحول قيادة الجماهير وسياستها، وأدى إلى حدوث متغيرات درامية في الحياة السياسية والاجتماعية وانقلابا في المنظورات الثقافية في العالم العربي.
ولم يكن المغرب جزيرة معزولة عن هذه المتغيرات، بل كان حراكه متساوقا مع ما يحدث في عدد من بلدان الجوار، وكان أن سبق الشارع رد فعل المثقف، فأصبح هذا الأخير بحكم قوة المجرى تابعا للنبع الأصلي بعد أن كانت الجماهير في عرف المثقفين مجرد «قطيع ماعز يمكن سياقته بسهولة إلى أعلى الجبل» إلى أن جاء الربيع المغربي فقلب المعادلات.
فلماذا ظل المثقف فاغر الفم ومشدوها؟ وكيف انتقل من حالة الصمت إلى وضع الصدمة؟ وهل يمكن اليوم الحديث عن دور جديد لمثقف الربيع العربي والمغربي تحديدا؟ وما هي تأثيراته المحتملة على منظومة القيم؟ ثم ألم تصبح دعاوى المثقفين ساقطة «بفعل التقادم» بعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسر؟.
«الملحق الثقافي» ل«المساء» يسائل 10 مثقفين مغاربة وعربا عن ربيعهم، وكيف يعيشون اليوم تداعياته على ما يؤمنون به من أفكار ومشاريع.

محمد سبيلا (مفكر): للمثقف أدوار أخرى غير صناعة المواقف الإيديولوجية
مبدئيا أنا لا أتفق مع هذا الحكم المتداول الذي يتهم المثقف بالسلبية والعدمية والتوقف عن المساهمة في التاريخ، ذلك أن في ذهننا ترسبات عن الصورة السابقة للمثقف المتوارثة عن مراحل الحركات الوطنية والنضال الوطني والمطبوعة بدرجة أو أخرى بالنهضة الماركسية المتمثلة في نموذج المثقف العضوي الفاعل.
ذلك أن تجربة الأنتليجانسيا في هذه الفترة أكدت أن للمثقف أدوارا أخرى غير النضال الحركي، والالتزام الحزبي، وصناعة المواقف الإيديولوجية والسياسية الحادة، كما كان الأمر في مرحلة سابقة، بل إن المثقف اكتشف أن هناك مساحات فارغة يتعين ملؤها، وأول هذه المساحات هو إغناء الفكر والثقافة السياسية بالتحليل والاستشراف.
فبالتوازي مع التحولات السياسية والإيديولوجية وكذا التحولات الاجتماعية فإن المثقف وجد نفسه أمام ضرورات أخرى، أهمها الضرورات المعرفية والتحليلية والتوجيهية، بمعنى أننا في كل الوطن العربي وجدنا أنه من الضروري تنمية الثقافة والقدرات التحليلية بنوع من البرودة والحيادية التي ليست سلبية بالكامل، بل تتضمن المساهمة في الفعل التاريخي لا عن طريق التحزب ولا عن طريق الاصطفاف الإيديولوجي ذي الألوان الحادة والحاسمة، بل عن طريق المساهمة في التحليل والتشريح العقلي للظواهر الاجتماعية، وعلى رأسها التحولات والثورات الاجتماعية التي يبدو أنها ليست فقط في حاجة إلى المواقف الحدية، بل هي أيضا في حاجة إلى تسليط أضواء العقل والتشريح العقلي والمعرفي في لأحداث التاريخ.
طبعا أمام هذه المواقف الجديدة المنحازة أكثر إلى ما يشبه الحياد والتوقف على إصدار الأحكام السريعة، يبدو كأنه تخلى عن المهام التاريخية للمثقف، في حين أنها انحياز وإبراز للدور المعرفي والتحليلي والتشريحي للمثقف، والتي هي أدواره الأصلية وربما رسالته الأساسية.
وحول سؤال لماذا لم يصدر المثقف العربي موقفا واضحا بخصوص الهزات التي عرفها العالم العربي قال المفكر محمد سبيلا إن "هذه الهزات ملتبسة ومتعثرة، تعكس نوعا من التعثر التاريخي، والتلكؤ التاريخي، وتتصارع فيها وبينها وداخلها عوامل متعددة أهمها ديناميتا التقليدي والتحديث، بل يبدو كأن الجاذبية الأولى هي الأقوى، مما يعني أن وراء التحولات السطحية ثوابت آسنة وشاذة إلى الوراء.
وهذا ما يطرح على المثقف الملل ووضع الأحكام المتسرعة بين قوسين، وأخذ مسافة كافية لرؤية الحدث في ديناميته، ومؤشرات توجهه. فموقع رؤية الأحداث رؤية شمولية بدأ يفرض شروطا جديدة، من بينها التحفظ في الانسياق الفج وراء حركة التاريخ في مظاهرها السطحية.
وبخصوص مظاهر الالتباس قال سبيلا إنها "تتمثل في جدة الفعل وجدة الفاعلين والاختلاف بين صناع الربيع ومستثمريه السياسيين، إضافة إلى الإبهامات الفكرية والإيديولوجية الواضحة، التي تعكس المراوحة بين الخطو إلى الأمام والخطو إلى الوراء".
2-فريد الزاهي (باحث جمالي): مع "الربيع" وجد المثقف العربي نفسه معلقا بين السماء والأرض
لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بداهة هو ما الذي نعنيه بصمت المثقف، بل ما الذي نعنيه أصلا في اللحظة الراهنة بالمثقف؟ ذلك أن ما يسمى على سبيل المجاز الباهت ربيعا عربيا لا يمكن الإمساك به في أبعاده جميعها إلا بالعلاقة مع التصورات والخطابات التي نسجت وصيغت حوله. فمفهوم المثقف في البلاد العربية عرف العديد من التحولات منذ السبعينيات: بانحلال مفهوم المثقف الثوري والعضوي وتواري منجزاتهما واستيهاماتهما البطولية، وبتفكك مفهوم المثقف نفسه بشكله التقليدي والحديث وولادة نماذج جديدة من المثقفين لن نجد لها مقابلا في كتاب العروي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" ولا في كتاب الخطيبي "النقد المزدوج"، على سبيل المثال لا الحصر.
ما جرى في البلدان العربية بشكل متوال في الفترة الأخيرة أمر لم يكن في حسبان "المثقف" العربي لأن ذلك انطلق بشكل غير منتظر من مناطق غير منتظرة وبطرائق وتبعا لوتيرة ووسائط غير معتادة. ففي الوقت الذي تراجع تسيُّس الشباب وانتظامهم الحزبي، وفي الوقت الذي تحولت الممارسة الثقافية إلى ثقافة لحظية وجد المثقف "الحديث" نفسه معزولا، أو بلغة ابن سينا "معلقا بين السماء والأرض". عزلة المثقف هذه ليست ناجمة عن عجز في ذاته ولا عن عدم قدرته على القيام بدوره التاريخي، وإنما بالأساس عن "مصير" تاريخي يتعلق بسيرورة اندثار المثقف الحديث.
هذا المثقف لن يتم تعويضه بنموذج وحيد آخر للمثقف، أي أننا لن نمر من المثقف الحديث أو الحداثي مثلا إلى المثقف الما بعد حداثي، وإنما سيتم المرور تدريجيا من المثقف الحديث والحداثي إلى نماذج متعددة للمثقف قابلة دولا للاستبدال والتحول تبعا للسياقات اللحظية أو الجهوية التي تنتجها.
هذا الواقع هو ما جعل مفهوم المثقف العربي يتبدد فلا تبقى موجودة غير صورة له، صورة ذهنية فيها الكثير من الحنين والأكثر من الاستيهامات التاريخية، بل إن هذا النموذج المتبدد تفككت أوصاله، حيث صار عاجزا (في صورته الاستيهامية تلك) عن الإمساك بالتحولات الجارية (عودة الديني والمقدس مثلا باعتباره نموذجا فكريا وعمليا للممارسة السياسية)، وخاصة منها التحولات الأخيرة المتمثلة في ما نسميه بالثورات العربية. فهو في عزلته تلك لا يزال يتشبث بصورته البائدة، الأمر الذي جعله لا يحس بما يمور في مجتمعه من حركات واضحة ودفينة، ولا يمنح الأهمية لوسائل الاتصال الجديدة من هاتف محمول وكمبيوتر وأسندة تواصل كالفايسبوك والتويتر وغيرهما، ولا لما يتأجج في الممارسات الشبابية من أشكال التمرد الخارجة عن الممارسات السياسية المقننة، بل إنه لم يمسك ولم يضبط المفارقة التي تعيشها المجتمعات العربية والتمزق الكبير الذي تعيشه بين تيارين، والذي أفرز ما أفرز من وصول التيارات الأصولية إلى السلطة في أغلب بلدان الثورات الهادئة والعنيفة: أعني المفارقة الحاصلة بين تنامي التيارات الأصولية منذ عقدين من الزمن واستمرار النموذج الحداثي لدى الطبقات المتوسطة، بالرغم من انحسار هذا النموذج في طابعه الليبرالي والعلماني، على الأقل في الحياة الاجتماعية والثقافية والعامة.
من ثم فإن المثقف الذي نتحدث عنه، الذي لا يعيش في المجتمع إلا بوصفه صورة متبددة آيلة للانقراض، لم يدرك أيضا ولم يستطع تحليل ولا تقبل ما أفرزه "الربيع": فهذا "الربيع" لم يثمر ما يبهجه، وطلائعه، التي كانت تنبئ بثورة ديمقراطية فعلية تحمل طموحات الشباب المتفتح الآمل للعيش الرغيد، صارت مطية للتيارات الأصولية التي قطفت ثمارها بسهولة فتربعت على السلطة. ما عاشه المثقف هو أنه لم يفهم حكاية الغراب ذي الجبنة والثعلب، ولا حكاية الثعلب والدجاج والذئب. فالثعلب هو الذي غدا نموذج التحولات الراهنة وصاحب السلطة والذكاء السياسي.
بالجملة: "المثقف" العربي لم يصمت وإنما أصابته الأحداث بالخرس... لأنه بكل بساطة لم يفهم ما يجري، ولم يستسغه، ولم يقبله، ولم يتمكن من استيعابه ولا من ابتلاعه...
3- محمد معتصم (ناقد أدبي): أغلب المثقفين التقليديين كانوا يجهلون ما يجري في العالم الافتراضي
ظهرت انتفاضات وثورات ما سمي بالربيع العربي في مرحلة جد حرجة ثقافيا، وقد ظهرت أيضا بدون دعم سياسي أو تنظير مرجعي سياسي وثقافي حتى يكونا حافزين على الانتفاض والثورة المنهجيَّيْنِ على الأنظمة التي سقط بعضها سقوطا مدويا كان علامة بارزة على غياب التأطير المتحدث عنه أعلاه، وما يزال آخر يقاوم من أجل بقائه واستمراره سياسيا وثقافيا. وهذه مظاهر دليل على غياب الدورين الثقافي والسياسي المنهجي والواعي، وبالتالي القائم على أسس علمية وموضوعية أكدتها الثورات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ، ومنها على سبيل المثال الثورة الفرنسية، وهي هنا نموذج حيوي للإجابة عن دور المثقف الواعي وبعيد النظر والمنخرط في سياق المرحلة التاريخية التي يعيشها.
لقد قامت الثورة الفرنسية على خلفية "الأنوار" والانتصار للعقلانية (العقل) ضدا على الديكتاتورية العقائدية والغيبية التي نشرت الجهل وعملت على تفقير الشعب وتكريسه طبقيا، وعندما نتحدث عن الأنوار يبرز إلى السطح الدور الفعال الذي قام به الكتاب الموسوعيون وفلاسفة الأنوار العقلانيون الذين كرسوا كثيرا من جهودهم الفكرية والعلمية والتنظيرية الاجتماعية لإبراز الاختلالات التي تعاني منها المرحلة، واقترحوا "بديلا" ثقافيا وسياسيا متكاملا وعملوا على تطبيقه وإنجازه وتحقيق أهم أسسه على أرض الواقع.وأبرزوا بذلك أن كل انتفاضة أو ثورة لا يمكنها أن تكون ناجعة إلا بتدخل واع من المثقف الواعي كذلك، الذي ينطلق في انتقاده من رؤية وطنية أولا، أي من غيرة على وطنه وعلى شعبه وعلى فكره وثقافته، والذي ينطلق من برنامج شامل مدرك للاختلالات الجوهرية، ويعي جيدا قدراته كمثقف فاعل في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، والذي ينطلق في التغيير وفي ذهنه رسم واضع للغايات والأهداف التي يروم تحقيقها.
المثقف العربي المعاصر وجد نفسه بعيدا عما جرى في الساحة إبان اندلاع الشرارات الأولى لما سمي بالربيع العربي، ولهذا نسبت الانتفاضات والثورات إلى الحركات الاحتجاجية على المواقع الاجتماعية، وتم إغفال الحراك السياسي، والغليان الاجتماعي على أرض الواقع، وارتفاع الأسعار، وتفكك المنظومات السياسية الكبرى، واندحار أيديولوجياتها، وظهور سطوة المعتقدات المنفصلة والمعزولة وشبه الخاصة والمحدودة، أي ظهور قضايا كانت من قبل مجرد هواجس وإرهاصات تخص الأقليات العرقية وبعض المعتقدات المعزولة كذلك... 
هذا الإجراء أو الهروب نحو العوالم الافتراضية أهم دليل على غياب المواكبة الفعلية للمثقف "التقليدي"، خاصة أن أغلب المثقفين التقليدين كانوا يجهلون ما يجري في العالم الافتراضي (المواقع الاجتماعية والمواقع الخاصة والمدونات...) ، كما أن المثقف كان قد دخل فعليا في المنظومة الحاكمة، أي أن أغلب المثقفين حصلوا على مناصب سياسية ومسؤوليات داخل الإدارات العمومية وأصبحوا "موظفين" يخلصون لرواتبهم ووضعياتهم الاجتماعية الميسورة أو متوسطة الرفاهية فاستكانوا إلى حالاتهم ووضعياتهم تلك، بل شاهدنا من كرس كل جهده في حشد أتباعه لتحقيق تقدم على مستوى المواقع لا على مستوى تثوير الفكر وتحليل الواقع والظواهر الشاذة المستحدثة، والتي رافقت اقتصاديات السوق.
لقد تم الالتفاف على المثقفين قبل ظهور ما سمي بالربيع العربي، ولذلك كانت النتائج مفاجئة للجميع في كل الدول التي شملها ما سمي بالربيع العربي، وكذلك القضايا الجديدة العالقة حتى الآن. كل هذا دليل على أننا في حاجة ماسة إلى تجديد نظرتنا إلى مفهوم الثقافة والمثقف والسياسة والسياسيين.
4- عمر شبانة (شاعر فلسطيني): بعض مثقفينا ارتضوا دور المثقف التقني وفضلوا رغد العيش على التغيير
بصراحة شديدة، وباختصار، يصعب حصر من هو المثقف أولا، ولكن دور المثقف (إن كان المقصود هو المبدع عموما) في ظروف الثورات، وأثناء اشتعالها على نحو خاص، لا يختلف عن دور الفرد في المجتمع، فمن جهتي، لا أعتبر أن المطلوب من المثقف، في مثل هذه الظروف، أكثر من المطلوب من أي فرد في المجتمع، فلكل دوره ومهمته التي يقوم بها في مجاله، ومجال المثقف هو في عمله أساسا، بصرف النظر عن موقعه، فهو في الميدان مع المحتجين، يرصد وينقل الصورة ويُحرّض بقلمه أو ريشته أو آلة التصوير أو سواها، ولكن ماذا لو كان مثقفا نقابيا؟ هنا له دور مختلف باختلاف مجال عمله بالتأكيد. 
لكن لو حصرنا المثقف بالمبدع، الأديب والفنان، ففي اعتقادي أن دوره يسبق الشارع في استشراف القادم، ورؤية الواقع بوعي متقدم على وعي مجتمعه، فيقدم صورة تساعد على بناء وعي مختلف ومخالف أيضا لهذا الواقع، ومعارض للقوى التي تتحكم به، من خلال أدواته المتمثلة في الوعي أولا، وتجسيد هذا الوعي في رؤى جديدة تسهم في تقديم معرفة للمجتمع وقواه القائمة، الحاكمة والمتحكِّمة في مسار المجتمع، والممانِعة للتغيير، بما فيه السلمي حتى، مما يمنح هذه الفئة من المجتمع، أعني المثقفين المبدعين، القدرة على الإسهام في التعرف على مشكلات المجتمع وأسباب معاناته، والتعريف بإمكانيات ووسائل حل هذه المشكلات، وهو ما يشكل نواة الثورة على الأنظمة الحاكمة، والدفع باتجاه تغييرها.
هذا هو طريق المبدع للتغيير والثورة، وأعني المبدع الذي يعتبر هموم المجتمع وقضاياه هي قضيته الخاصة، هي الشغل الشاغل في إبداعه، بعيدا عن الشعارات الفضفاضة، والذاتيات المفرطة في الأنانية، في الآن نفسه، وهذا يشمل مختلف هموم الإنسان الفرد والجماعة، بدءا بالهموم الصغيرة، ومرورا بكل ما يحلم به هذا الإنسان من حلول للقضايا الكونية. إن إبداع المبدع، شعرا أو قصة أو رواية أو لوحة أو قطعة موسيقية، هو وسيلته الأجدى التي يحفر بها أنهاره في الحياة، وقدرته على طرح الأسئلة والإشكاليات هي أبرز ما يمكن أن يميز إبداعه ومساهمته في التغيير، وهو ما يتطلب قدرا من جرأة المبدع وقدرته على دفع ثمن مواقفه حين يتطلب الأمر، فما من إبداع حقيقي بلا ثمن كبير، يختلف من مبدع إلى آخر حسب مجاله وحجم مخالفته للسائد والراكد في مياه مجتمعه، المجتمع المحلي الصغير والكوني الشامل.
نحن، إذن، حيال دورين يتكاملان ويتفاعلان، دور دائم وعميق يتصل بالإبداع، ودور يتصل بعلاقة المبدع بالحدث الراهن والعابر، فمن استطاع أن يجمع الدورين فهو المبدع الحقيقي، أما المبدع الذي وضع نفسه وإبداعه على هامش الحياة، وعلى هامش المجتمع، بما ينطوي عليه المجتمع من حيوات، فلن يكون له دور فاعل في الثورة والتغيير، وهذا هو- للأسف- حال الكثير من مثقفينا، الذين ارتضوا بدور المثقف التقني، المهني والمعيشي، وفضلوا رغد العيش على الدور المناط بهم على صعيد التغيير، فغابوا عن هذا المشهد.
5- صدوق نورالدين (روائي وناقد): يحتاج المثقف إلى إتقان فن المسافة من الأحداث الجارية
أعتقد بأن الحديث عن وضعية المثقف العربي(ومنه المغربي) يستلزم بالضبط تمثل واقع الثقافة في العالم العربي.. وهو واقع يمكن الوقوف على حاله تأسيسا من الميزانيات المخصصة للشأن الثقافي، كما من حصيلة الاتفاقيات المبرمة بين الدول العربية والعربية، أو الأخيرة والأجنبية، حيث يغيب الاستحضار الفعلي للثقافة كرافعة أساس للتنمية والتقدم. من هذا المنطلق يجدر تثبيت النظر في وضعية المثقف.
فاللافت مما يكاد اليوم يشكل لازمة أن إثارة واستدعاء شخصية المثقف بما هو صانع أفكار، ومبتكر مواقف وآراء، لا يتم ويتحقق سوى في حالات الاستعصاء..وأرمي إلى الأزمات السياسية التي تعبرها الأوضاع العربية. بيد أنه خارج هذا السياق فإن المثقف يعيش على الهامش، ولا يستدعى لإبداء الرأي فيما يتعلق بالشأن الثقافي. ففي أكثر من محطة سياسية مثلا بالمغرب لا يسمع صوت المثقف بالاستشارة واتخاذ الرأي. لكن في حالات الاستعصاء والإعاقات يصار إلى وسم المثقف بالصمت أو الحياد.
بيد أن القول بالصمت بداية تصور مرفوض.إذ ما من مثقف(مبدع/مفكر) إلا وينخرط في الفعل الثقافي رمزيا تأسيسا من فعلي الكتابة والإنتاج، وفق برنامج محدد دقيق.. وهنا علينا إثارة إشكالية تخلف القراءة والمتابعة.. فالمثقف، في صورته المحددة، يكتب وينتج بحثا عن محفل اهتمام تتداخل فيه المواقف والآراء.. لكن الصدى الثقافي غير موجود، وخاصة في شقه الإعلامي المرئي. إذ لا يعقل أن تكون البرامج الحوارية في القنوات المغربية سياسية مطلقا ويستنسخ واحدها الآخر. لنتمثل التالي: ألقى الدكتور عبد الله العروي محاضرة عن المؤرخ والقاضي، بمثابة درس افتتاحي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك، ففاضت القاعة عن آخرها دون أن تحضر قناة واحدة للتغطية..في هذا السياق من الصامت؟.. وقبل أسبوعين ألقى طارق رمضان محاضرة، إن أذكر، بالعاصمة الرباط، فهبوا إليه كعاصفة..من هذه التفاصيل يتأسس تمحيص مقولة الصمت..
إن فكرة حياد المثقف أعدها فن المسافة بين الحدث، وليكن الحراك العربي وزاوية النظر إليه.. فالسياسي وحده من يصدر الرأي في آنيته لما من شأنه خدمة قناعته الإيديولوجية. وأما المثقف، فيستدعي خياله بغاية التأمل التفكير والتحليل.. وهنا نستحضر حصيلة الإصدارات المرتبطة بهذا الحراك العربي، أو ما دعي بالثورات، والتي انتهى أغلبها للظهور بتوقيع أسماء محترمة: عبد الإله بلقزيز، محمد نورالدين أفاية وعزمي بشارة كمثال.
لذلك، فالقول بالحياد لا يعد خاصة سلبية، وإنما مسافة تقتضي قبل الحكم، رصانة التأمل..
أذكر أن المفكر الراحل محمد عابد الجابري كتب سلسلة مقالات في أعقاب غزو العراق للكويت. إلا أنه وهو على قيد الحياة لم يقدم على نشرها مجتمعة في كتاب، وقد يكون لما دعوته بفن المسافة كبير الأثر في/ وعلى استصدار الرأي.
إن ما ينبغي أن نخلص إليه، كون النظر إلى وضعية المثقف العربي(ومنه المغربي) لم يكن ولن يكون مخصوصا بالسياق العربي، وإنما تثار الأسئلة حول الدور والحضور والوظيفة في كل المجتمعات دون استثناء مادام المثقف جزءا من مجتمع.
6- سعيد يقطين (ناقد): وقع تراجع في دور المثقف ولم يحصل توارٍ بحكم الأحداث
لم يتوار المثقف المغربي والعربي، فما يزال منهم من يواكب عمله وبحثه وإنتاجه. كما أن هناك مثقفين جددا يساهمون في إثراء الثقافة المغربية والعربية. لكن التواري الذي تتحدث عنه يتصل بالفعل في الأحداث، وهنا فعلا لا يمكن أن نتحدث عن توارٍ، ولكن عن تراجع. لقد كان المثقف العربي والمغربي، منذ زمان، منخرطا في الحياة العامة، السياسية والثقافية. كما كان منتميا سياسيا إلى إحدى الحركات الفكرية أو الإيديولوجية. لكن المشكل الرئيسي الذي اعترى علاقة المثقف بالسياسة تتمثل في كونه ظل يسير في ركاب السياسي لا في طليعته. بمعنى أن السياسة توظف الثقافة والمثقف في خدمتها، وعندما لا تصبح في حاجة إلى أي منهما، فإنها تلفظهما. إن المعارضة التي كانت مهيمنة في كل التاريخ الحديث، ما إن بدأت تذوق طعم السلطة حتى باتت مستغنية عن الثقافة والمثقف اللذين لا يمكن أن يمثلا بالنسبة إليها سوى الضمير الحي واليقظ. وبما أنها لا تريد لضميرها أن يظل يقظا، فإنها تخلت عن دعم كل المؤسسات الثقافية التي كانت تابعة لها. كما أنها عملت على إقصاء المثقفين الذين يمكنهم أن ينافسوا السياسيين في احتلال المواقع التي صاروا يحتلونها. ولا عجب أن نجد ضمن هؤلاء مثقفين يمارسون اللعبة السياسية المزدوجة: سياسيون مع الساسة، ومثقفون حين تضيق بهم السبل.
لقد أدى هذا الوضع إلى الابتعاد والانعزال عن الانخراط في أي عمل سياسي ملتزم. لكن ذلك لا يعني أن العديد من المثقفين يتابعون الوضع، ولا ينخرطون في الحياة العامة بطريقتهم الخاص.
وحين نتحدث عن المثقف المغربي، علينا ألا ننسى أننا نتحدث عن أفراد. والأفراد أنواع وأمشاج لا حصر لها. ولا يمكن للفرد، مهما كانت نباهته وكان موقعه الثقافي، أن يمارس دوره الثقافي، أو حقه في المحاسبة والانتقاد الذي يمكن أن يكون فعلا ذا أثر في الواقع. إن عمل المثقف لا يمكن أن يتحقق بدون "مجتمع ثقافي" تكون له مصداقية معرفية ورمزية ثقافية، كما كانت لعلماء القرويين إبان الحركة الوطنية مثلا. لم يتشكل "المجتمع الثقافي"، في تربتنا المغربية لأسباب كثيرة، أهمها علاقة المثقف بالسياسة، والتي كانت تقوم على التبعية. كما أن غياب تقاليد ثقافية تقوم على الحوار، والتفاعل، وتشكيل المؤسسات التي تؤمن بالعمل الثقافي الهادف، بمنأى عن أي ربح مادي، أو طموح سياسي، كل ذلك ساهم في غياب العمل الجماعي. وإذا كانت الجامعة كمؤسسة للبحث العلمي مؤهلة لتشكيل مثل هذه المجتمعات ذات الطبيعة العلمية والثقافية، فإن الواقع يبين أنها لم تقم بذلك لأن البنيات الجامعية التقليدية لم تتطور، فلم يتشكل "المجتمع العلمي"، ولم تظهر "المدارس" و"الاتجاهات" العلمية والثقافية. ولهذا قلما نجد "أستاذا" له طلبة بالمعنى العلمي للكلمة. وغياب هذه التقاليد العلمية والثقافية أدى إلى هيمنة روح الأنانية والفردية والتحاسد والنميمة والبحث عن المواقع الاجتماعية والسياسية...، وكل التقاليد المهينة والمهيمنة في الأوساط الثقافية والعلمية. فكيف يمكن لأفراد على هذه الشاكلة أن يمارسوا دورهم الثقافي في الانتقاد والمحاسبة، وهم أولى بالمحاسبة والانتقاد، ما داموا عاجزين عن ممارسة النقد الذاتي، والعمل على الارتقاء بأنفسهم إلى مستوى أعلى؟.
7- شعيب حليفي (روائي وناقد): صمت المثقف احتجاج ظاهري لا يدل على أنه شيطان أخرس
حينما يكون المثقف صامتا يمكن قراءة صمته بتأويلات إيجابية، فهو احتجاج ظاهري يعكس خلوة داخلية ونفسية كامنة، لابد أن تُنتج موقفا غير مُباشر من خلال أعمال أدبية أو فنية.. وهو المتحقق الآن. صمتهم الذي يفسره البعض بالحياد لا تعكسه كتاباتهم القوية.
وقد حفلت ثقافتنا العربية بمواقف متباينة، أشير من ثقافتنا المغربية إلى حالة الشاعر والعالم المغربي عبد السلام جسوس، الذي رفض أن يكون شيطانا أخرس، وأعلن رفضه الصمت على تمليك السلطان المولى إسماعيل للحراطين، كما عُرِفَ بصلابته وقوته في الحق، وأظهر حدة وغلظة في مخاطبة السلطان أثناء اجتماعه بالعلماء في قضية الحراطين، فقُتلَ مخنوقا بسجن فاس سنة 1709.
وقد عرفت ثقافتنا العربية خلال فترات الاستعمار والعقود الثلاثة الأولى من الاستقلال مثقفين ثوريين انخرطوا في حركية المجتمع، ولا أدل على ذلك ما تعرض له المبدعون والمفكرون في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث كان المثقف في طلائع النخبة المنادية بالحرية والتحرر والحداثة في وجه كل ما يحط من كرامة الإنسان.
أذكر هنا استشهاد الشاعرة سعيدة المنبهي والأديب عبد اللطيف زروال وما تعرض له عدد آخر من المثقفين العضويين في المغرب ومصر وتونس وسوريا وباقي الدول العربية من حملات قمع وحشي لإسكات صوت الفكر والإبداع الأدبي والفني.
ماذا وقع منذ الثمانينيات من القرن الماضي للنخبة المثقفة التي ابتعدت وتراجعت شيئا فشيئا؟ تنازلت عن دورها التنويري المباشر في الجمعيات والمجتمع المدني تاركة مكانها لبعض المرتزقة من مُحترفي السياسة والبحث عن مصادر التمويل المشبوه.. ومع تكاثر الأحداث الوطنية والقوية التي تهتز لها القلوب سنجد المثقف العربي يُعلن حياده السلبي مقابل مثقفين قلة انتهزوا الفرصة، وآخرين يصارعون رغم الإكراهات العديدة.
أتحدثُ، هنا، عن المواقف المباشرة للمثقف العربي، والتي تتناقض بشكل صارخ مع ما تبلوره إبداعاتهم التي تضج بالنقد والثأر والثورية، فمع تعدد وسائل النشر والتواصل المُتاحة، من جهة، وسياسة التهميش والتجاهل التي تنهجها سياسات الحاكمين تجاه الثقافة والمثقف، من جهة ثانية، تشكلت ثقافة عربية ذات جماليات عالية بدلالات ثرية يتقاطع فيها التنوع الفكري المعرفي...وهي مُفارقة غريبة تدعو إلى التساؤل: هل هذا الصمت والحياد تجاه قضايا تُنطق الحجر هو الهدوء الذي تأتي بعده العاصفة؟!.
8- محمد نورالدين أفاية (مفكر) : قوة الحدث كشفت الأوهام عن صور المثقف
لا شك أن أغلب من علَّق وكتب على الأحداث الجارية في بعض البلدان العربية من الزاوية الفكرية والثقافية يلاحظ بأنها شكلت مفاجأةً كبرى للنخب، وتجاوزت، في منطلقاتها وخطاباتها ومقاصدها، "الإيديولوجيات" التي اعتاد المثقفون العرب على التموقع داخلها، وإعادة إنتاج مفرداتها طيلة العقود الخمسة الأخيرة.
وأمام "ارتباكات" المثقفين "التقليديين"، واستقالة أو تواطؤ شرائح منهم، أو التجاء عدد منهم إلى موقف الحياد، هناك من يرى بأن هذه الأحداث سمحت ببروز "نخب جديدة"، شابة في عمومها، متسلحة بأدوات تواصل جديدة، وبوسائل تأثير مغايرة، بل ذهب البعض إلى حد إنكار كل المجهودات الفكرية التي بذلها مثقفون ومفكرون عرب، طيلة عقود، لتمجيد نمط جديد من "المثقف" يمتلك بديلاً لصورة المثقف العربي حتى الآن. ليس المثقف الجديد مثقفًا منعزلاً، ولا قابعًا في برجه العاجي، أو يقدم اجتهاداته بشكل فردي. وإنما ما شاهدناه ونشاهده، عند أصحاب هذا الرأي، انبثاق ل"عقل جمعي"، أو "مثقف عضوي" جماعي، تجاوز المفهوم التقليدي للمثقف، وقطع مع المرجعيات المؤسسية والثقافية التي كانت تمنح المثقف شرعيته، أو كانت تنكرها عليه. يستعمل "المثقف العضوي" الجماعي الجديد وسائل مبتكرة وابتكارية في العلاقة بين الشعار والتنظيم، أو بين النظرية والممارسة. يصنع "مفهومًا جديدًا" للمجال العام. لا يحتاج إلى مقرات وجرائد ووسائل إعلام قديمة، وإنما ينحت لغات وكلمات أمر، وأشكال تنظيم لها سيولة خاصة في التواصل مع أوسع عدد ممكن من الناس، وسهولة في التفاعل مع حركتهم ومطالبهم. بينما ينحصر إنتاج المثقف التقليدي في النخبة، حتى لو ادعى تمثيل "الجماهير". أما "المثقف الجماعي" الجديد فقد كسر ثنائية النخبة/ الجماهير لأن "إنتاجه" شوارعي مفتوح على الجموع المنخرطة في الفعل الجماهيري. كما أبرزت الأحداث في كل الساحات العربية المنتفضة أوجهًا جديدة من النخب التي كانت قابعة في الأطراف والهوامش، ونقلت أفكارها وهمومها إلى المركز من خلال خطابات، وتدخلات عملية في تأطير وتنظيم الأشكال الاحتجاجية، بل طرق التفاوض على كلمات الأمر وتدبير الاختلافات الطبيعية التي تختزنها الفئات المحتجة.
في مقابل هذا الفهم، المتحمس أو الواقعي، لا يهم، يلاحظ رأي آخر بأن من ينعتون ب "المثقفين التقليديين" لم يكونوا، أبدًا، في منأًى عن القضايا الكبرى التي تواجهها المجتمعات العربية، من حرية، ومساواة، وديمقراطية، وتوزيع عادل للثروة، وإعادة صوغ مكونات الهوية في ضوء مستجدات زمان العالم، بل فقد العديد منهم حريته، أو حياته، من أجل هذه المبادئ. ولذلك لم يكونوا وليسوا، اليوم، معزولين عن الأحداث الجارية في مختلف الساحات العربية. منهم من ساهم في السابق في تشخيص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للعالم العربي، ومنهم من قدم اجتهادات لاقتراح السيناريوهات الممكنة للتغيير للخروج من الاستبداد واستعادة الإنسان العربي لثقته بذاته، ونحت مقومات هوية منتجة فاعلة ومشاركة في حركة العالم.
لا يجوز محو كل هذا العطاء الفكري والثقافي الذي أنتجه المثقفون العرب، فقط لأن هناك فاعلاً تواصليًا جديدًا له ما له من اقتدار، وعليه ما عليه من حدود وعوائق. ولذلك ما يسجل على جل مواقف وردود وتحاليل المثقفين العرب لانطلاق هذا الحراك وتطور مساراته هو أنهم، في الغالب الأعم، عبروا عن ابتهاج بالتحرر من بعض أوجه التسلطية، والفرح بالدخول في آفاق تسعف بإعادة بناء المجال السياسي على أسس من الديمقراطية، والعدالة، والاعتراف بقدرة الإنسان العربي على إثبات ذاته.
قد يكون البعض فوجئ بأسباب وتوقيت انطلاقة الشرارة الأولى في تونس بعد الفعل "الأضحوي" القوي الذي أقدم عليه محمد بوعزيزي في 17 دجنبر 2010. وكأنه وهب موته لكي يحيا الآخرون. وهو فعل كسر به حواجز الخوف والصمت، وفجر به مشاعر المهانة والغضب المكبوتة بسبب القهر التسلطي المديد. ونقل هذا الغضب إلى فعل احتجاج جماعي في المجال العام، على فظاعات الوضعية السياسية التي أوصلت إليها التسلطية. لكن ما لم ينتبه إليه المحتفلون بالأدوار الجديدة ل"المثقف الجماعي" "الفيسبوكي" هو أن التفاوت الدرامي بين تطور المجتمع وجمود الحياة السياسية كان سيؤدي، لا محالة، إلى حدوث ارتجاح ما . وإذا كان ما حصل ويحصل الآن، لم يكن متوقعا حدوثه بهذه الأشكال الاحتجاجية، فإن العوامل الموضوعية لتطورات الأمور كانت تحبل بكل عوامل التململ والتغيير. ولا شك أن كثيرا منها تفعل فعلها خارج الوعي المباشر بها.
اجتهادات عدة أنتجها المثقفون العرب، وغير العرب، حول التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية. وعلى الرغم من كل أشكال النقد والمطالبة بدمقرطة الدولة والمجتمع، فإن بنيات التسلطية قاومت كل الدلالات الإيجابية لهذه التحولات، بل عرضتها للتشويه والتمييع. تتطور المجتمعات وتتكلس آليات السلطة وتتشنج، كما هو حال تونس ومصر وأغلب الأنظمة العربية. ذلك أن المجتمع المغربي، على سبيل المثال، شهد "انتقالاً ديمغرافيًا" مناسبًا يصعب معه أن لا ينتج معه "انتقالاً ديمقراطيًا". وعت النخبة الحاكمة بالمغرب هذا التلازم بشكل مبكر في التسعينيات التي شهدت تصالحًا تاريخيًا بين الملكية والمعارضة السياسية، توج بإقامة حكومة يرأسها زعيم اشتراكي، وأطلقت مصالحة تاريخية لتصفية فترات ما سمي ب"سنوات الرصاص" في إطار "هيئة للإنصاف والمصالحة" تبنت مبادئ "العدالة الانتقالية"، وأطلقت عملية استنبات تدريجي لمرجعيات حقوق الإنسان بمعناها الكوني.. إلخ، وإجراءات أخرى عديدة ساهمت في السلم المدني، وامتصاص كثير من بؤر الاحتجاج. هل يجوز للمرء استبعاد هؤلاء الفاعلين الذين حققوا هذا الإنجاز الحقوقي والسياسي الكبير من فئة المثقفين؟.
مفارقات وتناقضات لم تكن غائبة عن وعي النخبة التي يعتبرها البعض، اليوم، في ضوء هذه الانتفاضات، نخبة تقليدية، لأن عددًا لا بأس به من "المثقفين التقليديين" أثروا الفكر العربي المعاصر بعطاءاتهم وإنتاجاتهم؛ التي اتخذت من الدولة أو المجتمع أو المؤسسات أو الماضي أو الحاضر أو الآخر موضوعًا لها. أما إذا اقتصر نعت "التقليدي" على حسن استعمال الوسائل الرقمية الجديدة في التواصل والعمل، فإن ذلك غير مؤكد، نظرا لانخراط هؤلاء المثقفين في استعمال هذه الوسائل، حيث فتحوا لأنفسهم مواقع، وصفحات في الفيسبوك، وتكيفوا مع وسائل الاتصال والعمل الرقمية الجديدة.
9- محمد عزيز المصباحي (قاص) : صمت المثقف ... أم صمم المجتمع؟
إن الذين يعمدون إلى تكرار وتعميم مقولة "صمت المثقفين العرب" جهلة، لا يعرفون شيئا عن حقائق العالم العربي. الطاهر بن جلون.
كل الأسئلة، مهما كانت مشروعيتها، تكتسب مصداقيتها من سياقها الفكري أو الاجتماعي أو النفسي... وخارج هذه العلاقة العضوية تصبح الأسئلة اعتباطية وساذجة تنتظر أجوبة تفوقها اعتباطية وسذاجة.
أي سياق لهذا السؤال؟: لماذا أمام ما يعيشه العالم العربي من اندحار اجتماعي وسياسي وفكري، وما يكابده من اضمحلال أمني وتربوي و أخلاقي يلجأ مثقفونا العرب و المغاربة إلى الصمت والحياد؟؟
سؤال يفترض سياقا معينا، نتصور فيه المثقف داخل مجتمعات راقية، قطعت جميع صلاتها مع الأمية والعطالة والمذلة اليومية، ووضعت على جبين مثقفيها أكاليل الحرية وسخرت لهم العشرات من حدائق "الهايد بارك" ليبوحوا لكم بما يشتهون ... وإن شئتم نتصوره مغربيا محليا يطوف على الأسواق الأسبوعية، التي لا تزال تُعقد بمدننا أكثر من قرانا، وبيمناه مكبر صوت يدوي ينافس به صيحات باعة "دواء الفيران" و"إرجاع الشيخ إلى صباه" والقضاء على البَرص والعُنة.. أو كاتبا متمرنا يعاقر معضلة مجهولة المصدر على صفحات جرائد يومية أو أسبوعية، في مجتمعات لا تقرأ أصلا وتسخر ممن يبذّر أمواله على نشر الدواوين الشعرية والقصصية... سياق السؤال أيضا يجعلنا نتصور المثقف مرتديا قمصان المصلحين الاجتماعيين، الذين لا وجود لهم في الواقع، خارج ما سطره بعضهم من آراء وافتراضات وتوجيهات لم يسمع بها أحد...(تحضرني حالة جمال الدين ألأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وقاسم أمين وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني... وغيرهم ممن كسروا جدار الصمت داخل مجتمعات صمّاء...).
منذ البداية نصرح بأننا لا نتبنى مقولة "صمت المثقفين العرب وحيادهم" تجاه ما تعيشه المجتمعات العربية، ومنذ البداية نعلن أننا لا نتبنى المفهوم الأنتروبولوجي للمثقف بقدر ما سنقتفي بالتحديد أثر كل من هشام شرابي وعبد الله العروي وإدوارد سعيد ... يرى هشام شرابي أن "المثقف شخص يمتلك وعياً اجتماعياً، يمكِّنه من رؤية المجتمع وقضاياه من زوايا متكاملة، ومن تحليل تلك القضايا على مستوى نظري متماسك، يعكس قدرته المهنية وكفاءته الفكرية، وبالتالي فإن التعليم النظامي، أو الكسب المعرفي المتراكم عن طريق الخبرة، لا يمنحان الشخص صفة مثقف؛ لأن المعرفة في حد ذاتها لا تشكل ثقافة، وإنما الثقافة تتشكل وفق أنماط الوعي الاجتماعي والقدرة على الإسهام في حل القضايا المجتمعية". إن المثقفين لا يمثلون طبقة اجتماعية متجانسة، قائمة بذاتها، ولا ينحدرون من طبقة اجتماعية بعينها، ولا يعكسون اتجاهاً فكرياً واحداً، ولا يعبرون عن موقف استراتيجي موحد، ولا تجمعهم مصلحة اقتصادية متماثلة... إنهم كما يرى إدوار السعيد "لديهم القدرة على تمثيل وجهات نظرهم ومنطلقاتهم السياسية والأيديولوجية، والإفصاح بها إلى العلن عبر وسائط إعلامية مختلفة، ووفق معايير سلوكية لائقة بتطلعات المجتمع وقيم العدل والحرية والمساواة المتواضع عليها عالمياً". وعليه، فالمثقف هو المفكر والمبدع والمنتج لبضاعة اعتبارية ووجدانية تربطه بمجتمعه بروابط متعددة ومتداخلة ومختلفة... والثقافة في نهاية المطاف سلوك فعلي، وموقف يكتنز ما يحبل به المثقف من أفكار وتصورات ورؤى تجعل الحرية المطلقة والمحبة الخالصة والرقي المنشود أفقها ومنارتها... المثقف الذي يهمنا أمره هنا هو ذلك الشخص الذي استطاع أن يحول معرفته إلى فعل اجتماعي وتواصلي وسياسي أيضا... سواء كانت معرفته عصارة تجربة حياتية كما هو حال آبائنا وشيوخ مجتمعنا الأميين، أو كانت عصارة تجربة قرائية وتواصلية كما هو الحال مع المفكرين والمبدعين على اختلاف مشاغلهم ومجالات اهتمامهم وتخصصهم... فكلا الصنفين في نظرنا مثقف بمعنى الكلمة، وبالتالي نستبعد من هذا التعريف من فشل من المتعلمين في تحويل معرفته إلى فعل وممارسة (كالطبيب المتخصص في جراحة العظام أو استئصال الزوائد والأستاذ الحائز على شواهد عليا ... العاجزان كليا عن تحويل معرفتهما إلى فعل يخدم مجتمعهما).
ثم بالإضافة إلى ذلك، أية جهة تطرح مقولة صمت المثقف؟ هل الدولة أم الأحزاب السياسية أم المجتمع المدني؟ طبعا المجتمع المدني هو صاحب السؤال وهو المعني بالإجابة... هو نفسه ما محله من الإعراب في مجتمع غير موجود وفي مرحلة تاريخية لا وجود فيها للمواطن الفعلي... لا مواطن ولا مجتمع ونطرح السؤال عن صمت المثقفين... أليس هذا هو عين العبث؟ وما محل وزارات البر والإحسان الملقبة زورا بوزارات الثقافة؟ هل الثقافة هي دعم المحتاجين وغير المحتاجين؟ هل هي ترميم المآثر المنهارة؟ هل هي تنظيم المهرجانات البئيسة؟ ما موقفها بالضبط من صمت المثقفين أو من لغوهم...؟
لقد أثير سؤال الصمت هذا منذ سنوات قليلة، ولا أحد يعرف من أثاره رغم بلاهته، ولا أحد يعرف لماذا نتمسح به للدفاع عن إثم لم يقترفه المثقف حتما... ولماذا لا نطرح السؤال عن بلادة السياسي أو عن طيبة المواطن ومسكنته أو عن ذل المرأة أو عن تدني مستوى التعليم أو عن قهر الأطفال أو عن استعباد المواطنين أو عن مكر أهل السلطة وتحكمهم في الرقاب ظلما وعدوانا، رغم النصوص ورغم بؤس التحليل والتصور؟؟ (تحضرني الآن صور الفقر المدقع الذي تعانيه مجتمعاتنا من علماء النفس وعلماء التربية وعلماء الاجتماع.. وليغفر لي أساتذة علم الاجتماع المقيمين في قنوات التلفزة وكواليس الصحف عوض التخييم بميادين البحث و التنقيب...).
سؤال ماكر ازدادت حدة مكره مع حلول ما اصطلح عليه ب"الربيع العربي". أليس هذا الربيع من فعل المثقف ونتيجة لحفره ومثابرته الممتدة في الزمان والمكان منذ السبعينيات من القرن الماضي؟ أليس ما ينعم به المغاربة الآن من حرية تعبير وتصور وتفكير ومن حقوق إنسانية ومن وعي سياسي هو نتيجة للثمن الذي قدمه المثقف في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط؟؟
الخلاصة إذا كانت مجتمعاتنا صماء وعمياء ومهلوسة ... هل نطرح السؤال بخصوص صمت المثقفين أم بخصوص فاعل مجهول استفاد ويستفيد من صمم مجتمعاتنا وعماها وهلوستها؟ ويطرب ويصفق كلما سمع أحدا يتساءل عن صمت المثقف؟؟
مثقفونا الصامتون والمتكلمون يشبهون عادة أوراق أشجار يابسة وأعوادا حزينة تطفو ساكنة على سطوح برك آسنة، راكدة، تخفي ما تنغل به أعماقها من ديدان وتعفّن مأساوي...
أين همسات وصيحات وأنّات شعراء وقصاصين وروائيين ومفكرين مروا من هنا ... أمام معابد وهياكل وصروح ومشاتل ومواخير... الدكتاتور العربي؟ إننا لا نزال نسمع أصداء قصائد وروايات ومقالات وأعمدة صحفية يومية وخواطر... وأسماء كأنها لأحمد المجاطي ومحمود درويش ونزار قباني وأحمد بركات وأحمد بوزفور وعبد الله العروي وعابد الجابري والمهدي المنجرة وعلال الفاسي وعبد الكبير الخطيبي... وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن. وجحافل الصحافيين ومناظرات وملتقيات وملاحق ثقافية وندوات... تلوك الصمت؟؟؟؟
إن المسألة الجوهرية التي يكد هذا السؤال لإخفائها هي أن الرهان الثقافي يفوق حجما وخطورة الرهان السياسي، وأن الثقافة وليس الجهل أو الأمية أو المال هي التي يجب أن تقود السياسة وترشِدها و ترشِّدها... وبدون ربيع ثقافي قائم على أساس إسقاط الفساد السياسي و الثقافي المهيكل لبيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا وأحزابنا وإداراتنا وعقولنا وقلوبنا... لا قيامة لنا.
10-أحمد الكبيري (روائي) : الكاتبات والكتاب في جميع بلدان الربيع كانوا في الشارع وفي الميدان وفي الإعلام
أولا، أنا لست متفقا بأن الكاتب العربي والكاتب المغربي على وجه الخصوص كان صامتا أو محايدا في تعاطيه مع هذا الربيع العربي. فالكاتبات والكتاب في جميع الدول العربية، التي هبت فيها رياح هذا الربيع وبقوة، كانوا في الشارع وفي الميدان وفي الإعلام وعلى الأنترنيت، كمساهمين حقيقيين في إنجاح عملية التغيير. صحيح أن دورهم لم يكن رياديا أو أساسيا، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب السياسية نفسها التي فاجأها الشارع العربي، لكنه كان في جميع الأحوال داعما لهذا الربيع ومنخرطا فيه، كل حسب قدرته واستطاعته وموقعه والبلد الذي يوجد فيه. وقد عشنا هذا ولمسناه من خلال العلاقات والصداقات التي تربطنا بأصدقاء كتاب ومبدعين في تونس و مصر وليبيا واليمن وسوريا والجزائر. وعشناه أيضا من خلال الإعلام والتفاعل اليومي على الأنترنيت.
وفي المغرب ومنذ انطلاق حركة 20 فبراير إلى تاريخ الخطاب الملكي في التاسع من مارس2011، شكل حضور الكتاب والمثقفين ضمن الحضور الشعبي القوي تمثيلية محترمة، وإن ثم ذلك بشكل فردي وتلقائي، وخارج أي إطار منظم، سواء كان ثقافيا أو سياسيا. لقد لاحظت في كل الاحتجاجات التي دعت إليها حركة 20 فبراير، أنه كان ثمة كتاب وشعراء وصحفيون ومثقفون مطالبين كباقي المواطنين بالحرية والكرامة وبمحاربة الفساد والاستبداد وضرورة التغيير. لكن، وهذا في نظري هو الأهم، وهنا أتحدث عن التجربة المغربية، هو أن الغاية من الربيع العربي في المغرب لم تكن هي إسقاط النظام، كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وما يحدث حاليا في سوريا، وإنما كان سقف المطالب محددا في الحرية والكرامة ومحاربة الفساد والاستبداد والعدالة الاجتماعية.
لهذا لما استجاب الملك لنداء الشارع، وقبل بإدخال إصلاحات على الدستور، والتي اعتبرها الفاعل السياسي المغربي مهمة ومؤسسة لديمقراطية حقيقية من شأنها الإسهام مستقبلا في انتقال النظام المغربي من ملكية دستورية إلى ملكية برلمانية، تراجعت النخبة السياسية والثقافية، وضمنها طبعا كتاب، عن الحراك الذي واصلته حركة 20 فبراير، لإعطاء الفرصة للدولة ومؤسساتها لتنزيل الدستور الجديد وتفعيل نصوصه وتسريع وتيرة الإصلاحات ومحاربة الفساد. هل كان ذلك اختيارا وانحيازا حكيما وصائبا، حيث إنه جنب البلد الدخول في مواجهات غير معروفة العواقب ومفتوحة على المجهول، أم أن ذلك أجل فقط تأجيل الاصطدام والمواجهات إلى زمن آخر؟ الجواب عن هذا السؤال سيبقى رهينا بالإصلاحات والنتائج التي ستقدمها الحكومة المغربية للشعب في السنوات القادمة. وكما قال المهدي المنجرة: "الذي لم يقبل بإحداث تغييرات مهمة يحسها المواطن في معيشه اليومي، وراهن على ربح الوقت، لابد أنه سيدفع الثمن غاليا...".
أتمنى من كل قلبي أن نعي هذا جيدا وأن يتحمل كل واحد منا مسؤوليته، ونترفع عن ممارسة السياسوية، التي لا تساعد على التطور والنجاح بقدر ما تسعى إلى عرقلة الإصلاح والنجاح ومحاربتهما، وبكل الوسائل الدنيئة، لأننا لسنا مستعدين أن نورث هذا الوطن لأولادنا وقد أرجعناه سنوات طويلة للوراء، تكون الشركات والدول الغربية المتأهبة دوما للانقضاض على الفرص، هي المستفيد الأول والأخير من إعادة بنائه.
وقبل الختام لابد أن أشير إلى أن الكاتب، وخاصة مع سقوط الإيديولوجيات بسقوط حائط برلين، سواء في المغرب أو في البلدان العربية الأخرى، صار يعيش نوعا من العزلة القاتلة. وأصبح دوره باهتا وغير مؤثر، لعدة عوامل على رأسها معضلة القراءة، التي ساهمت في تأزيمها واستفحالها سياسات التجهيل والتفقير الممنهجة في دولنا العربية. ثم غياب ذلك الدعم المعنوي الذي كانت تقدمه، في وقت سابق، الأحزاب اليسارية والتقدمية، للكاتب والعمل على احتضانه والترويج له، كمثقف وكفاعل أساسي في إنتاج الفكر ونشر الوعي وتوسيع هامش الحريات، حتى إن تحدثنا عن أن بعض الدعم يكون انتقائيا ومناسباتيا وبشكل محدود جدا. لهذا ربما صار الكاتب العربي والمغربي على وجه الخصوص يواجه مصيره البائس لوحده. فكأي مواطن مغلوب على أمره، عليه أن يتدبره أموره حسب طاقته وإمكانياته، سواء تعلق الأمر بمنجزاته ومشاريعه الإبداعية أو بنشرها أو الترويج لها. الشيء الذي انعكس سلبا على حيوية الكتاب ونشاطهم في بلداننا العربية. ثم لا ننسى أن نشير إلى شيء أساسي، هو أن الكتاب والمبدعين بصفة عامة لا يمكن أن نحكم على صمتهم في وقت معين ونعتبرهم بالتالي محايدين. فالكتاب، بخلاف السياسيين والصحافيين، يحتاجون إلى مسافة زمنية مهمة لفهم الأشياء ونضجها بدواخلهم كي يعيدوا بناءها إبداعيا. وهذا طبعا لا يعني أننا لا نسمع، بين الفينة والأخرى، عن إصدارات من كاتب هنا أو كاتبة هنالك، أنتجوا نصوصهم من صميم هذا الربيع العربي ومن داخل ثوراته. إذن لا صمت للكتاب الحقيقيين ولا حياد لهم مع قضايا الشعوب والأوطان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.