معرض باريس للفلاحة يستحضر الشراكة الاستراتيجية بين المغرب وفرنسا    البطولة: النادي المكناسي يفرض التعادل على الوداد البيضاوي بمعقله    الركراكي: اللاعب أهم من "التكتيك"    ولاية أمن الدار البيضاء… توقيف شخص يشتبه في ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في النصب والاحتيال على الراغبين في الهجرة    البيضاء.. توقيف مواطن من أصول جزائرية مطلوب لدى السلطات الفرنسية    مهرجان دبلن الدولي للسينما يحتفي بالسينما المغربية    مبادرة "الحوت بثمن معقول".. أزيد من 4000 طن من الأسماك عبر حوالي 1000 نقطة بيع    المنتخب السعودي يتأهل لكأس العالم للشباب بفوزه على الصين    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    نهضة بركان تسير نحو لقب تاريخي    أخنوش وبايرو يثمنان "التحول الكبير" في العلاقات الثنائية المغربية الفرنسية    تشبثا بأرضهم داخل فلسطين.. أسرى فلسطينيون يرفضون الإبعاد للخارج ويمكثون في السجون الإسرائلية    القبض على شخص استغل حريق سوق بني مكادة لسرقة بضائع التجار    الملك يبارك يوم التأسيس السعودي    دنيا بطمة تلفت أنظار السوشل ميديا    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    لاعب الرجاء بوكرين يغيب عن "الكلاسيكو" أمام الجيش الملكي بسبب الإصابة    زخات مطرية وتساقطات ثلجية مرتقبة بعدد من المناطق المغربية اليوم    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    سيناريوهات ما بعد هزيمة العرب وأمريكا في أوكرانيا    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط محاولة تهريب مفرقعات وشهب نارية بميناء طنجة المتوسط    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    "قضاة المغرب" يستنكرون تهكم وهبي ويرفضون خرق واجب التحفظ    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    استشفاء "بابا الفاتيكان" يثير القلق    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    "العدل والإحسان" تدعو لوقفة بفاس احتجاجا على استمرار تشميع بيت أحد أعضاءها منذ 6 سنوات    إطلاق "كازا تراث"… منصة مخصصة لاكتشاف تراث المدينة    الصحراء المغربية.. منتدى "الفوبريل" بالهندوراس يؤكد دعمه لحل سلمي ونهائي يحترم سيادة المغرب ووحدته الترابية    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    قرعة دوري أبطال أوروبا.. ديربي مدريدي وقمتان ناريتان    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    تقدم في التحقيقات: اكتشاف المخرج الرئيسي لنفق التهريب بين المغرب وسبتة    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    لجنة تتفقد المناخ المدرسي ببني ملال    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    من العاصمة .. الإعلام ومسؤوليته في مواجهة الإرهاب    محكمة بالدار البيضاء تتابع الرابور "حليوة" في حالة سراح    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا نملك سوى المقاومة... الفردية
نشر في لكم يوم 28 - 08 - 2012


1.
لم يكن منَ المُستغرَب أن ينتصرَ الإسلاميون في الانتخابات. فهم كانوا القوة السياسية المقموعة، في الدرجة الأولى، أو تعاني من مضايقات في ممارستها السياسية، في مرحلة ما قبل الربيع العربي. السلطات المحلية والغربية كانت تخشى وصول الإسلاميين إلى الحكم، بسبب تشبثهم بالمرجعية الدينية ورفضهم الاحتكام للمرجعية الغربية، سياسياً وفكرياً. وقد كان الإسلاميون، في المقابل، منظمين ومنضبطين في التعبير عن مواقفهم كما في صداميتهم.
وفوجئ الإسلاميون، كما فوجئ الجميع، بثورة الشبان. جاء شبان الربيع العربي بجواب يختلف عن جواب الإسلاميين على الأزمة. فهم عادوا من جديد إلى قيم الحداثة في الاختيار السياسي والاجتماعي والثقافي. عالم برمته أصبح يتشكل مع هؤلاء الشبان الذين عبروا عن البعد التحرري للثقافة الحديثة. وكان اعتماد بيتين من قصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي، كافياً وحده للتنبيه على الجديد، النوعي والمبدع، في ثورة الشبان.
فهل كان من اللازم أن يكون حظنا من الفرح بثورة الشبان كلَّ هذا الانجراف في النهاية، نحو حكم إسلامي؟ صياغة السؤال، على هذا النحو، لا تعني الاستهانة بأشكال الظلم الذي كان الإسلاميون ضحيته. بل تعني أنّ هذا الظلم ليس وحده المبرر لتسلمهم مقاليد تسيير حكومات. فإذا كنت من الذين ينددون بقمع حرية الإسلاميين في التعبير، فأنا من بين الذين يرون أيضاً أن الربيع العربي أتى ليغير المسار، فيما توجُّهُ الإسلاميين نكوصٌ في مسار تاريخ الشعوب العربية الحديثة. بهذا المعنى يخفي انتصارهم هزيمة إضافية لمستقبلنا المفتوح على الذات والعالم.
غير أنّ ما يحدث قد يشجع على النظر إلى الثورات السياسية في العالم، بما هي ضوء يشع لحين يفتح طريقاً جديدة ليختفي، وننظر إلى تاريخ الثورات، من حيث هو تاريخ أفول هذه الومضات العابرة، التي تترك أثراً لا يلبث أن يمّحي. قراءة بعيدة عن مفهوم العبثية.
2.
ما عشناه، حتى الآن، في بلدان مثل تونس ومصر والمغرب، هو أن الانتقال من الشارع إلى صناديق الاقتراع، أدى إلى أن تصبح الحكومات بيد الإسلاميين، الذين فاجأتهم الثورة، وفي حالات عديدة عارضوها أو التجأوا إليها وخذلوها. بل إن منهم من تنكّر للمبادرين إليها وشعارها. حتى إن أحد زعماء الإخوان المسلمين في مصر قال إن الله هو صانع الثورة، وآخر تباهى بأن نجاح الإخوان في الانتخابات مذكور في القرآن. قوْلان ينزعان الشرعية عن إرادة الشعب التي استجاب لها القدر، كما رددت ثورة الشبان نبوءة أبي القاسم الشابي. ما حدث يتبع منطق اللعبة السياسية. لا علاقة له بالقيم ولا بالأخلاق. طريقة تعامل الإسلاميين مع ثورة الشبان هي نفسها مع القوى التي يتحالفون اليوم معها. منطق اللعبة السياسية، القائم على المصلحة لا على المبادئ.
مع ذلك، لا تراجع عن الانتصار للديموقراطية. فصياغة دساتير جديدة، وتنظيم انتخابات نزيهة، وضمان تصويت حر، بإرادة الشعب، تستجيب للمطالب التي جاهر بها الشبان وضحّوا من أجلها. أهدافٌ عليا بلغناها، ولا بد أن نتشبث بها، جميعاً، مهما كانت النتائج. موقفي، اليوم، هو نفسه الذي كنتُ قد عبّرت عنه لأصدقائي من المثقفين الجزائريين، في بداية التسعينيات، بعد انتصار الإسلاميين في الانتخابات البلدية. لكنهم كانوا يجيبونني بأنّ الجيش ضامن الثورة وأنهم يساندون الجيش. أدركت عندها أن الجواب يعبر عن العجز، لأنه لا يستطيع اختيار الديموقراطية. لا يتحمل نتائجها ولا يملك القدرة على تخيل الطريق الديموقراطي الممكن نحو مجتمع حديث. وبدلاً من الانتصار للديموقراطية، جاء الدم. وكان المثقفون في مقدمة الضحايا. فكيف لي، إذن، أن أقتنع اليوم بما لم أقتنع به في أي فترة سابقة؟ وهل علينا أن نقبل بالديموقراطية حين تكون في صالحنا ثم نرفضها حين لا تكون؟
3.
لنتذكر، مرة أخرى، أنّ ثورة الشبان جاءت من خارج الأحزاب التي أصبحت معروفة في الخطاب الإعلامي والسياسي بالأحزاب التقليدية. ذلك سر قوة ثورة الشبان. جاءت على غرار إعلان نخبة ثقافية وسياسية، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عن وعيها النقدي تجاه أحزاب ومؤسسات المعارضة آنذاك. لذا فإن ما علينا أن نقبل عليه هو تأمل الفرق بين الثورة التي قامت بها شبيبة ثائرة غير منظمة، تكونت بشكل آني، عبر الفايسبوك وفي الساحة العمومية، وبين منطق الانتخابات، المستند إلى الكتل الاجتماعية المنظمة، الجاهزة للتصويت في الوقت المناسب باختيارها الحر. إنه الفرق بين الذين أوقدوا الشعلة، وبين الذين كانوا مهيئين، تنظيمياً، للاستيلاء على المشعل، كما هي حالنا. فالأحزاب التقدمية والوطنية مسؤولة عن تراجع تأثيرها في الحياة السياسية. وهي تفتقد الشجاعة في تغيير رؤيتها أو ممارساتها، بل حتى لغتها. وأرى أنها، في وضعها الحالي، مضطرة لمراجعة نفسها إن هي أرادت أن تكون فاعلة في المستقبل.
مآل الربيع العربي، على هذا المستوى، يفرض صمتاً يسمح لنا بأن نتجنب ردود الفعل المتشنّجة. نتحسس السؤال وزاوية السؤال. لا عويل ولا ندب. إن رفض الديكتاتورية في العالم العربي، والتعبير عنه بأساليب متعددة، هو ما يدلنا على أن الشعلة، التي أوقدها الشبان، يصعب أن تنطفئ بسهولة. ولكن، ألا يمكن أن تنطفئ؟ ألا يجب أن يبقى ما تعلمناه من التاريخ حياً في الذاكرة كما في الملاحظة اليومية؟ بأي مهماز نستطيع أن ننبه على الوعي بهذا الذي يحدث؟ وكيف يحدث؟ ولماذا يحدث؟
4.
أسئلة أولية أتركها معلقة. لكل شيء أوانه. فهذا الوضع يحتاج إلى مفكرين مثلما الثورة تحتاج إليهم. وما يعنيني بشكل فوري، كمثقف، هو مصير الحياة الثقافية والفنية الحديثة في عهد حكومات يقودها إسلاميون. يعنيني ذلك بقدر ما يعني كل مثقف مرتبط بالتحرر، لأن الحركة الإسلامية تتعارض، من حيث المبدأ، مع فكرة الحداثة، التي تلازمت مع فكرة العروبة. تعارض لا يبدو على الدوام واضحاً عند الوهلة الأولى. فيما الآداب والفنون والمعارف كانت كلها مصدر الفكرة أو مصدر التوجه نحو التعدد العرقي واللغوي والثقافي في العالم العربي، كان المسيحيون إلى جانب المسلمين، بمختلف أعراقهم، فاعلين في تحديث العربية وتحديث ثقافتها، من النهضة حتى الآن. أما الإسلاميون، الذين أصبحوا يمسكون الحكم، بطريقة ديموقراطية، فهم أنفسهم الذين لم يتوقف ممثلوهم، من قبل، عن إعلان حربهم على كل ما هو ثقافي وفني، يعبّر عن قيم حديثة يرون أنها منافية للقيم الإسلامية الصحيحة. ويخصون قيم العقيدة وقواعد الأخلاق، قبل غيرها. كثيراً ما ناهضوا أعمالاً أدبية وفكرية وفنية، سينمائية أو مسرحية أو تشكيلية. تاريخ طويل من تكفير كتاب وأدباء وفنانين حيناً، أو الذهاب، حينا آخر، إلى ما هو أبعد، من حيث إصدار فتاوى (تصل إلى إهدار الدم كما في الحالة الجزائرية السوداء) وكتابة عرائض ورفع دعاوى وتنظيم حملات إعلامية ومسيرات احتجاج. يُحيون بذلك تاريخ محاكم التفتيش المسيحي، وهم لا يدركون.
تاريخ طويل وملوّث. وهو ما يدفعني إلى أن أقول بالضرورة المستعجلة التي يجب أن نعامل بها مصير الحياة الثقافية والفنية الحديثة في عهد حكومات إسلامية. ليست الثقافة أعلى من السياسة والاقتصاد، في حياة عموم الشعب. مجتمعاتنا فقيرة. مهانة. مظلومة. حجم الفقراء فيها يزداد مع العولمة، بما تعنيه من اختيار ربح المال بعداً وحيداً لتحديد العلاقات بين الأفراد. وبما تعنيه من انتفاء قيم التكافل والمساواة والتضامن. وأفهم أن الإسلاميين يشدّدون على التنديد بالأوضاع السياسية والاقتصادية. كما أن تركيز حملاتهم الانتخابية عليها كان من عوامل حصولهم على أصوات هذه الفئة الواسعة، التي ظلت محرومة ومقهورة في ظل حكومات احتقرت جرأة المواطنين على الغضب، على قول لا، بإيمان وتضحية. مع ذلك، فإن الثقافة الحديثة هي ما يؤدي إلى وَعْي الفرد بالذات وبالعالم، وهي التي تبني لحمة العالم العربي الحديث. من ثم فإن ما يهدد مصيرها لا يهدد وجود الحداثة بمفردها، بل يهدد مصير الوعي بالذات من جهة، وبالآفاق المستقبلية للعالم العربي، بعمقه التاريخي وتنوعه الاجتماعي واللغوي والثقافي، من جهة ثانية.
5.
مشكل الإسلاميين الأساسي هي أنهم ينطقون باسم إسلام لا تاريخي، ويتنافى مع الإسلام الحضاري، في كل منطقة على حدة. لذلك فهو جواب إيديولوجي، في فترة أزمة القوى التقدمية واليسارية، سواء في علاقتها مع المجتمع أو مع الغرب. وهو يلتقي في الوقت نفسه منذ الثمانينيات مع ما عرف عبر العالم باسم «عودة الدين». الإسلام السياسي تأويل حرفي، ينطلق من أسبقية المعنى الواحد على المعنى المتعدد. لهذا، كان ملجأ فئة لا تلتفت إلى تاريخ المجتمعات العربية، في ضوء ثقافتها وحضارتها، وفي ضوء تفاعلها مع ثقافة العالم في العصر الحديث. وهي النقطة المحورية لحركة التحديث عبر العالم العربي. من ثم، فإن الإسلاميين جاءوا من خارج سياق تاريخي وحضاري في آن معاً.
بدأ التعارض بين حركة التحديث وبين الإسلاميين، منذ سقوط الخلافة العثمانية وظهور حركة الإخوان المسلمين في مصر. ولا تزال هذه الحركة تختلف عن الحركات الإسلامية في المغرب العربي، التي باتت تميل إلى النموذج التركي. وإذا كان الإسلاميون قد اقتربوا قليلاً أو كثيراً من الوهابية، فإن الربيع العربي علّمهم كيف يراعون الأوضاع المحلية وعدم الانسياق وراء الإغراءات الإيديولوجية. إن أهم خصائص الربيع العربي هي تمكنه من التعبير عن الواقع السياسي والمجتمعي انطلاقاً من المحلي، لا من المشترك العربي، كما عودتنا الحركات القومية السابقة. فالتحول إلى ما هو محلي، من أهم عناصر التفاف فئات واسعة من الشعب حول الشبان وثورتهم.
من هنا فإن انتصار الإسلاميين أبان عن الاختلاف بينهم بقدر ما أبان عن تضامنهم بعضهم مع بعض. وهو اختلاف سينسحب على موقفهم مستقبلاً من الثقافة الحديثة، حسب الأوضاع المحلية التي سيكون عدم اعتبارها من قبيل تكريس ثقافة شعبوية، ذات بعد واحد هو الجهل. إلا أنّه من الصعب تكهن ما ستصبح عليه درجة موقفهم من حرية التعبير وهُمْ في الحكم. ما سمعناه من تصريحات، على لسان زعيم حركة «النهضة» في تونس أو «حزب العدالة والتنمية» في المغرب يجهر بما لم يخطر على بال الإسلاميين من قبل. أو هو يشطب، نهائياً اختيارهم العقائدي. أقوال تفصل بين الشأن الديني، كشأن شخصي، وبين الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي. تصريحات تسير على خطى موقف العلمانيين. إنها تؤكد أن لا دخل للحكومة في الاعتقاد الديني، ما دام لا يمس علنياً بالأخلاق العامة. وهي، بطبيعة الحال، تضع حداً بينها وبين الجماعات الإسلامية، السلفية والجهادية. إسلام معتدل، كما تسميه الأدبيات الإعلامية والديبلوماسية، في العالم العربي أو في الغرب الذي يرعى مصالحه بعين لا تنام. فهل هي أقوال من قبيل الحربائية في العمل السياسي؟
6.
مع ذلك، فإن الانتصار الديموقراطي للإسلاميين يعني إلغاء فكرة العروبة كفكرة ثقافية، لا كإيديولوجيا قومية، لأن نهايتها كإيديولوجيا سبق أن تحققت، منذ السبعينيات. وآخر صيغها المتمثلة في حزب البعث السوري، تتعرض اليوم للانهيار. ويعني الانتصار، أيضاً، فشل فكرة التحديث الثقافي والفني. هذا الجانب لا يهم الغربيين بقدر ما يهم العرب أنفسهم. الإسلام المعتدل، بالنسبة إلى الغرب، يعني صيانة حقوق المرأة وحرية التعبير عن المواقف الأخلاقية (كالمثلية الجنسية). أما بالنسبة إلى العرب، فإن الاعتدال جزئي، وقد يكون ظرفياً. إن انتصار الإسلاميين يفيد أننا باختصار، ننتقل إلى عهد يقف فيه الإسلاميون وجهاً لوجه مع الثقافة العربية الحديثة. وجهاً لوجه في التعليم والإعلام والثقافة. ومهما كان انفتاح الإسلاميين، ومهما بلغ تسامحهم، فإن هذا الانفتاح والتسامح لن يبطلا مجافاتهم للثقافة الحديثة. خطابهم الدعوي موجود. وهو قائم على بتر تاريخ الثقافة العربية وحضارتها، ومن غير المحتمل أن يتبدل في شموليته. بمعنى أن تصريحاتهم المتعلقة بفصل الديني عن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا تسندها ثقافة ولا ممارسة. فما الذي يساعدنا على أن نفهم قول زعيم «حزب العدالة والتنمية» في المغرب، عندما يضيف بأنه سيحمي علاقات المغرب مع أروبا، لا لأنها اقتصادية فقط، بل لأنها أيضاً فلسفية؟
حقاً، لا أحد من بين المثقفين العرب النقديين كان يتوهم، قبل هذا الذي يحدث، أن الثقافة العربية الحديثة تعيش حياة عادية في مجتمعاتنا. من هنا، لا مفاجأة. السابقون في الحكم كانوا بدورهم مناوئين للثقافة الحديثة. كانوا يريدون إخضاع المثقفين. تحويلهم إلى شحاذين يمجدون الحاكم والزعيم. ولهم بعد ذلك أن يكتبوا من المواضيع الإنشائية ما يشاؤون. وفي مناوأتهم كانوا يتركون هامشاً ما.
7.
ويشكل المغرب نموذجاً تحديثياً بحد ذاته. عهد محمد السادس يتميز بسلسلة من الإصلاحات الجريئة. ومبادرته بصياغة دستور جديد استجابت لصوت ثورة الشبان ولقسم كبير من مطالب «حركة 20 فبراير»، من دون إراقة دماء. إضافة إلى أن المعارضة التقليدية التي دشنت مرحلة التناوب السياسي، هي التي كانت تملك الثقافة لوقت طويل. ولكنها، بخلاف المؤسسة الملكية، لا تتنازل عن سيطرتها على مؤسسات ثقافية. هي سعيدة بسيطرة تضاعف من بؤس ثقافة وعبودية مثقفين. لا تتعظ ولا تريد. هناك وهنا، ظلت الثقافة الحديثة محصورة في فئة يضيق عددها، يوماً بعد يوم. منفية في البرامج التعليمية وفي الحياة العامة. وها هي العولمة تبسط سلطتها. حتى شبان الثورة لا يكادون يعرفون ثقافة الكتاب ولا الثقافة الفنية.
نموذج المغرب صيغة من صيغ الاختلاف الذي لا سبيل للإسلاميين المغاربة لتجاهله، وهم يتسلمون الحكومة. يعني أن علينا ألا نعمم التحليل ولا الاستنتاج. فالإسلاميون المغاربة لا يملكون ثقافة من إنتاجهم يواجهون بها الثقافة المغربية الحديثة. كما أنّ الحركة الثقافية لا يمكن أن تكون محايدة تجاه أي موقف ينال من حرية التعبير. رد الفعل سيكون قوياً، رغم أن هناك من سيفضل التصالح والمهادنة. إلا أن رد الفعل لا يكفي. فما نحتاج إليه هو الفعل. وهنا تطرح الأسئلة الصعبة التي هي من صلب أسئلة عوائق التحديث في المغرب، أو عبر العالم العربي.
8.
وما يبقى واضحاً، برأيي، هو مقاومة نخبة من المثقفين الأفراد، في المغرب أو في عموم البلاد التي تسيرها حكومات إسلامية. لا أنتظر أكثر من مقاومة هذه النخبة، المحدودة العدد، بالأعمال والمواقف النقدية. فهي ستستمرّ في اختياراتها التي كانت لها من قبل، حيث لا تأجيل للحوار مع الذات ومع الآخر. وأعتقد أن مؤسسات ثقافية حرة، للنشر والإنتاج ستظل هي الأخرى متشبثة بمساندة هذه النخبة المثقفة المقاومة. مصاعب التحديث الثقافي ستزداد. ولا شيء يضمن أن تكون مقاومة نخبة محدودة العدد كافية لمواجهة توسيع الفجوة بين الثقافة العربية الحديثة والمجتمع، أو بينها وبين جيل المستقبل. مقاومة فردية. نعم، لكنها تحتمي بصوت الشبان وهم يستأنفون النشيد.
* كاتب وشاعر مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.