يوسف أيت أقديم يكتب: هل تٌنذر إدانة مارين لوبان بنهاية الديمقراطية في فرنسا؟    الجيش الملكي يرفع التحدي أمام بيراميدز المصري في ربع نهائي الأبطال    أكثر من 1500 شخص يستفيدون من عفو ملكي بمناسبة عيد الفطر    الادخار الوطني بالمغرب يستقر في أكثر من 28 في المائة على وقع ارتفاع الاستهلاك    انخفاض جديد مرتقب في أسعار الغازوال بداية أبريل    أمير المؤمنين يؤدي صلاة عيد الفطر بمسجد أهل فاس بالرباط ويتقبل التهاني بهذه المناسبة السعيدة    مسيرة حاشدة في طنجة تُحيي عيد الفطر تضامناً مع غزة    الرئيسان الفرنسي والجزائري يؤكدان عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها بعد أشهر من التوتر    أكثر من 122 مليون قاصد للحرمين الشريفين في شهر رمضان للعام 1446    العفو الملكي يشمل عبد القادر بلعيرج بعد 17 عامًا من السجن بتهمة الإرهاب    الجيش يختتم الاستعدادات في القاهرة    منتخب الفتيان يستعد لمواجهة زامبيا    أكثر من 122 مليون مسلم اعتمروا بالحرمين الشريفين في شهر رمضان    عامل إقليم بولمان يؤدي صلاة عيد الفطر وسط حشود كبيرة من المصلين بمصلى ميسور    اختتام فعاليات الدورة الرابعة لملتقى تجويد وحفظ القرآن الكريم في اكزناية    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    بعد إدانتها.. التجمع الوطني الفرنسي يطلق عريضة لدعم لوبان    الطقس غدا الثلاثاء.. سحب كثيفة وأمطار متفرقة    ارتفاع عدد الحجاج والمعتمرين إلى 18.5 مليون في 2024    الجزائر ترضخ للضغوط الفرنسية وتنهي أزمتها مع باريس    القهوة في خطر.. هل نشرب مشروبًا آخر دون أن ندري؟    حادث خطير في طنجة يوم العيد.. إصابة شابين في اصطدام دراجة نارية بسيارة مركونة    في ظل تراجع الصادرات إلى المغرب.. مربو المواشي الإسبان يطالبون بفتح أسواق جديدة    تعزيزات مشددة ليلة عيد الفطر تحبط محاولات للهجرة السرية إلى سبتة المحتلة    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة (الجولة 1/المجموعة 1).. منتخب زامبيا يفوز على تنزانيا (4-1)    "المطارات" ينبه إلى التحقق من رحلات    ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال ميانمار إلى 2065 قتيلا    اتفاق ينصف حراس أمن مطرودين    الإمارات تقضي بإعدام قتلة "كوغان"    الجيش الملكي في اختبار صعب أمام بيراميدز بالقاهرة    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    المصور محمد رضا الحوات يبدع في تصوير إحياء صلاة عيد الفطر بمدينة العرائش بلمسة جمالية وروحية ساحرة    ترامب يزور السعودية منتصف ماي المقبل    ست حالات اختناق بسبب غاز أحادي أكسيد الكربون ليلة عيد الفطر    نبيل باها: الانتصار ثمرة عمل طويل    الملك محمد السادس يؤدي صلاة عيد الفطر المبارك بمسجد أهل فاس بالمشور السعيد بالرباط    الملك محمد السادس يتوصل بتهانئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة عيد الفطر المبارك    وكالة بيت مال القدس تتوج عمليتها الإنسانية الرمضانية في القدس بتوزيع 200 كسوة عيد على الأيتام المكفولين من قبل المؤسسة    كأس العالم لسلاح سيف المبارزة بمراكش: منتخبا هنغاريا (ذكور) والصين (سيدات) يفوزان بالميدالية الذهبية في منافسات الفرق    صفقة ب367 مليون درهم لتنفيذ مشاريع تهيئة وتحويل ميناء الناظور غرب المتوسط إلى قطب صناعي ولوجستي    ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"    إشباع الحاجة الجمالية للإنسان؟    لماذا نقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟    عفو ملكي عن عبد القادر بلعيرج بمناسبة عيد الفطر 1446 ه.. من هو؟    مطالب لربط المسؤولية بالمحاسبة بعد أزيد من 3 سنوات على تعثر تنفيذ اتفاقية تطوير سياحة الجبال والواحات بجهة درعة تافيلالت    طواسينُ الخير    ادريس الازمي يكتب: العلمي غَالطَ الرأي العام.. 13 مليار درهم رقم رسمي قدمته الحكومة هدية لمستوردي الأبقار والأغنام    كأس إفريقيا.. المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يطيح بأوغندا بخماسية نظيفة    المعهد العالي للفن المسرحي يطلق مجلة "رؤى مسارح"    الموت يفجع الكوميدي الزبير هلال بوفاة عمّه    دراسة تؤكد أن النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    منظمة الصحة العالمية تواجه عجزا ماليا في 2025 جراء وقف المساعدات الأمريكية    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    انعقاد الدورة الحادية عشر من مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم بطنجة    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    هيئة السلامة الصحية تدعو إلى الإلتزام بالممارسات الصحية الجيدة عند شراء أو تحضير حلويات العيد    أكاديمية الأوسكار تعتذر لعدم دفاعها وصمتها عن إعتقال المخرج الفلسطيني حمدان بلال    تحذير طبي.. خطأ شائع في تناول الأدوية قد يزيد خطر الوفاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسْلاميّون والاختيَار الثقافَي
نشر في كود يوم 25 - 03 - 2012

1. لم يكن منَ المُستغرَب أن ينتصرَالإسلاميون في الانتخابات التشريعية. فهم كانوا القوة السياسية المقموعة، بالدرجة الأولى، أو تعاني من مضايقات في ممارستها السياسية، في مرحلة ما قبل الربيع العربي. السلطات المحلية والغربية كانت تخشى وصول الإسلاميين إلى الحكم، بسبب تشبثهم بالمرجعية الدينية ورفضهم الاحتكام للمرجعية الغربية، سياسياً وفكرياً. وقد كان الإسلاميون، في المقابل، منظمين ومنضبطين في التعبير عن موافقهم كما في صداميتهم.

وفوجئ الإسلاميون، كما فوجئ الجميع، بثورة الشبان. جاء شبان الربيع العربي بجواب يختلف عن جواب الإسلاميين على الأزمة. فهم عادوا من جديد إلى قيم الحداثة في الاختيار السياسي والاجتماعي والثقافي. عالم برمته أصبح يتشكل مع هؤلاء الشبان الذين عبروا عن البعد التحرري للثقافة الحديثة. وكان اعتماد بيتين من قصيدة 'إرادة الحياة' لأبي القاسم الشابي، كافياً وحده للتنبيه على الجديد، النوعي والمبدع، في ثورة الشبان.

فهل كان من اللازم أن يكون حظنا من الفرح بثورة الشبان كلَّ هذا الانجراف، في النهاية، نحو حكم إسلامي؟ صياغة السؤال، على هذا النحو، لا تعني الاستهانة بأشكال الظلم التي كان الإسلاميون ضحيته. بل تعني أن هذا الظلم ليس وحده المبرر لتسلمهم مقاليد تسيير حكومات. فإذا كنت من الذين ينددون بقمع حرية الإسلاميين في التعبير، فأنا من بين الذين يرون أيضاً أن الربيع العربي أتى ليغير المسار، فيما توجُّهُ الإسلاميين نكوصٌ في مسار تاريخ الشعوب العربية الحديثة. بهذا المعنى يخفي انتصارهم هزيمة إضافية لمستقبلنا المفتوح على الذات والعالم.

إلا أن ما يحدث قد يشجع على النظر إلى الثورات السياسية في العالم، بما هي ضوء يشع لحين، يفتح طريقاً جديدة ليختفي؛ وعلى النظر إلى تاريخ الثورات، من حيث هو تاريخ أفول هذه الومضات العابرة، التي تترك أثراً لا يلبث أن يمّحي. قراءة بعيدة عن مفهوم العبثية.
2.
ما عشناه، حتى الآن، في بلدان مثل تونس ومصر والمغرب، هو أن الانتقال من الشارع إلى صناديق الاقتراع، أدى إلى أن تصبح الحكومات بيد الإسلاميين، الذين فاجأتهم الثورة، وفي حالات عديدة عارضوها أو التجأوا إليها وخذلوها. بل إن منهم من تنكّر للمبادرين إليها وشعارها. حتى إن أحد زعماء الإخوان المسلمين في مصر قال إن الله هو صانع الثورة، وآخر تباهى بأن نجاح الإخوان في الانتخابات مذكور في القرآن. قوْلان ينزعان الشرعية عن إرادة الشعب التي استجاب لها القدر، كما رددت ثورة الشبان نبوءة أبي القاسم الشابي. ما حدث يتبع منطق اللعبة السياسية. لا علاقة له بالقيم ولا بالأخلاق. طريقة تعامل الإسلاميين مع ثورة الشبان هي نفسها مع القوى التي يتحالفون اليوم معها. منطق اللعبة السياسية، القائم على المصلحة لا على المبادئ.

مع ذلك، لا تراجع عن الانتصار للديمقراطية. فصياغة دساتير جديدة، وتنظيم انتخابات نزيهة، وضمان تصويت حر، بإرادة الشعب، تستجيب للمطالب التي جاهر بها الشبان وضحوا من أجلها. أهدافٌ عليا بلغناها، ولا بد أن نتشبث بها، جميعاً، مهما كانت النتائج. موقفي، اليوم، هو نفسه الذي كنتُ عبرت عنه لأصدقائي من المثقفين الجزائريين، في بداية التسعينيات، بعد انتصار الإسلاميين في الانتخابات البلدية. لكنهم كانوا يجيبونني بأن الجيش ضامن الثورة وأنهم يساندون الجيش. أدركت عندها أن الجواب يعبر عن العجز، لأنه لا يستطيع اختيار الديمقراطية. لا يتحمل نتائجها ولا يملك القدرة على تخيل الطريق الديمقراطي الممكن نحو مجتمع حديث. وبدلا من الانتصار للديمقراطية، جاء الدم. وكان المثقفون في مقدمة الضحايا. فكيف لي، إذن، أن أقتنع اليوم بما لم أقتنع به في أي فترة سابقة؟ وهل علينا أن نقبل بالديمقراطية حين تكون في صالحنا ثم نرفضها حين لا تكون؟
3.
لنتذكر، مرة أخرى، أن ثورة الشبان جاءت من خارج الأحزاب التي أصبحت معروفة في الخطاب الإعلامي والسياسي بالأحزاب التقليدية. ذلك سر قوة ثورة الشبان. جاءت على غرار إعلان نخبة ثقافية وسياسية، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عن وعيها النقدي تجاه أحزاب ومؤسسات المعارضة آنذاك. لذا فإن ما علينا أن نقبل عليه هو تأمل الفرق بين الثورة التي قامت بها شبيبة ثائرة غير منظمة، تكونت بشكل آني، عبر الفيس بوك وفي الساحة العمومية، وبين منطق الانتخابات، المستند إلى الكتل الاجتماعية المنظمة، الجاهزة للتصويت، في الوقت المناسب، باختيارها الحر. إنه الفرق بين الذين أوقدوا الشعلة، وبين الذين كانوا مهيئين، تنظيمياً، للاستيلاء على المشعل، كما هي حالنا. فالأحزاب التقدمية والوطنية مسؤولة عن تراجع تأثيرها في الحياة السياسية. وهي تفتقد الشجاعة في تغيير رؤيتها أو ممارساتها، بل وحتى لغتها. وأرى أنها، في وضعها الحالي، مضطرة لمراجعة نفسها إن هي أرادت أن تكون فاعلة في المستقبل.
مآل الربيع العربي، على هذا المستوى، يفرض صمتاً يسمح لنا بأن نتجنب ردود الفعل المتشنّجة. نتحسس السؤال وزاوية السؤال. لا عويل ولا ندب. إن رفض الديكتاتورية في العالم العربي، والتعبير عنه بأساليب متعددة، هو ما يدلنا على أن الشعلة، التي أوقدها الشبان، يصعب أن تنطفئ بسهولة. ولكن، ألا يمكن أن تنطفئ؟ ألا يجب أن يبقى ما تعلمناه من التاريخ حياً في الذاكرة كما في الملاحظة اليومية؟ بأي مهماز نستطيع أن ننبه على الوعي بهذا الذي يحدث؟ وكيف يحدث؟ ولماذا يحدث؟
4.
أسئلة أولية أتركها معلقة. لكل شيء أوانه. فهذا الوضع يحتاج إلى مفكرين مثلما الثورة تحتاج إليهم. وما يعنيني بشكل فوري، كمثقف، هو مصير الحياة الثقافية والفنية الحديثة في عهد حكومات يقودها إسلاميون. يعنيني ذلك بقدر ما يعني كل مثقف مرتبط بالتحرر. لأن الحركة الإسلامية تتعارض، من حيث المبدإ، مع فكرة الحداثة، التي تلازمت مع فكرة العروبة. تعارض لا يبدو على الدوام واضحاً عند الوهلة الأولى. فيما الآداب والفنون والمعارف كانت كلها مصدر الفكرة أو مصدر التوجه نحو التعدد العرقي واللغوي والثقافي في العالم العربي. كان المسيحيون إلى جانب المسلمين، بمختلف أعراقهم، فاعلين في تحديث العربية وتحديث ثقافتها، من النهضة حتى الآن. أما الإسلاميون، الذين أصبحوا يمسكون الحكم، بطريقة ديمقراطية، فهم أنفسهم الذين لم يتوقف ممثلوهم، من قبل، عن إعلان حربهم على كل ما هو ثقافي وفني، يعبر عن قيم حديثة يرون أنها منافية للقيم الإسلامية الصحيحة. ويخصون قيم العقيدة وقواعد الأخلاق، قبل غيرها. كثيراً ما ناهضوا أعمالا أدبية وفكرية، سينمائية أو مسرحية أو تشكيلية أو مهرجانات ثقافية وغنائية. تاريخ طويل من تكفير كتاب وأدباء وفنانين حيناً، أو الذهاب، حينا آخر، إلى ما هو أبعد، من حيث إصدار فتاوى (تصل إلى إهدار الدم، كما في الحالة الجزائرية السوداء) وكتابة عرائض ورفع دعاوى وتنظيم حملات إعلامية ومسيرات احتجاج. يحيون بذلك تاريخ محاكم التفتيش المسيحي، وهم لا يدركون.
تاريخ طويل وملوّث. وهو ما يدفعني إلى أن أقول بالضرورة المستعجلة، التي يجب أن نعامل بها مصير الحياة الثقافية والفنية الحديثة في عهد حكومات إسلامية. ليست الثقافة أعلى من السياسة والاقتصاد، في حياة عموم الشعب. مجتمعاتنا فقيرة. مهانة. مظلومة. حجم الفقراء فيها يزداد مع العولمة، بما تعنيه من اختيار ربح المال بعداً وحيداً لتحديد العلاقات بين الأفراد. وبما تعنيه من انتفاء قيم التكافل والمساواة والتضامن. وأفهم أن الإسلاميين يشدّدون على التنديد بالأوضاع السياسية والاقتصادية. كما أن تركيز حملاتهم الانتخابية عليها كان من عوامل حصولهم على أصوات هذه الفئة الواسعة، التي ظلت محرومة ومقهورة في ظل حكومات احتقرت جرأة المواطنين على الغضب، على قول 'لا'، بإيمان وتضحية. مع ذلك فإن الثقافة الحديثة هي ما يؤدي إلى وَعْي الفرد بالذات وبالعالم، وهي التي تبني لحمة العالم العربي الحديث. من ثم فإن ما يهدد مصيرها لا يهدد وجود الحداثة بمفردها، بل يهدد مصير الوعي بالذات من جهة، وبالآفاق المستقبلية للعالم العربي، بعمقه التاريخي وتنوعه الاجتماعي واللغوي والثقافي، من جهة ثانية.
5.
مشكل الإسلاميين الأساسي هو أنهم ينطقون باسم إسلام لا تاريخي، ويتنافى مع الإسلام الحضاري، في كل منطقة على حدة. لذلك فهو جواب إيديولوجي، في فترة أزمة القوى التقدمية واليسارية، سواء في علاقتها مع المجتمع أو مع الغرب. وهو يلتقي، في الوقت نفسه، منذ الثمانينيات، مع ما عرف عبر العالم باسم 'عودة الدين'. الإسلام السياسي تأويل حرفي، ينطلق من أسبقية المعنى الواحد على المعنى المتعدد. لهذا كان ملجأ فئة لا تلتفت إلى تاريخ المجتمعات العربية، في ضوء ثقافتها وحضارتها، وفي ضوء تفاعلها مع ثقافة العالم في العصر الحديث. وهي النقطة المحورية لحركة التحديث عبر العالم العربي. لذلك، فإن الإسلاميين جاءوا من خارج سياق تاريخي وحضاري في آن.

بدأ التعارض بين حركة التحديث وبين الإسلاميين، منذ سقوط الخلاقة العثمانية وظهور حركة الإخوان المسلمين في مصر. ولا تزال هذه الحركة تختلف عن الحركات الإسلامية في المغرب العربي، التي باتت تميل إلى النموذج التركي. وإذا كان الإسلاميون قد اقتربوا قليلاً أو كثيراً من الوهابية، فإن الربيع العربي علمهم كيف يراعون الأوضاع المحلية وعدم الانسياق وراء الإغراءات الإيديولوجية. إن أهم خصائص الربيع العربي هو تمكنه من التعبير عن الواقع السياسي والمجتمعي انطلاقاً من المحلي، لا من المشترك العربي، كما عودتنا الحركات القومية السابقة. فالتحول إلى ما هو محلي، من أهم عناصر التفاف فئات واسعة من الشعب حول الشبان وثورتهم.

من هنا فإن انتصار الإسلاميين أبان عن الاختلاف بينهم بقدر ما أبان عن التضامن مع بعضهم البعض. وهو اختلاف سينسحب على موقفهم مستقبلاً من الثقافة الحديثة، حسب الأوضاع المحلية، التي سيكون عدم اعتبارها من قبيل تكريس ثقافة شعبوية، ذات بعد واحد هو الجهل. إلا أنه من الصعب التكهن بما ستصبح عليه درجة موقفهم من حرية التعبير وهُمْ في الحكم. ما سمعناه من تصريحات، على لسان زعيم 'حركة النهضة' في تونس أو 'حزب العدالة والتنمية' في المغرب، بعد الفوز في الانتخابات التشريعية، يجهر بما لم يخطر على بال الإسلاميين من قبل. أو هو يشطب، نهائياً، على اختيارهم العقائدي. أقوال تفصل بين الشأن الديني، كشأن شخصي، وبين الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي سيتوجه نحوه عمل الحكومة. تصريحات تسير على خطى موقف العلمانيين. إنها تؤكد أن لا دخل للحكومة في الاعتقاد الديني، ما دام لا يمس علنياً بالأخلاق العامة. ولئن كانت كلمة 'علنياً' تترك الباب مفتوحاً أمام أصناف لا حد لها من المنع، فهي، رغم طبيعة تأويلها، تضع حداً بينها وبين الجماعات الإسلامية، السلفية والجهادية. إسلام معتدل، كما تسميه الأدبيات الإعلامية والديبلوماسية، في العالم العربي أو في الغرب، الذي يرعى مصالحه بعين لا تنام. فهل هي أقوال من قبيل الحربائية في العمل السياسي؟
6.
مع ذلك، فإن الانتصار الديمقراطي للإسلاميين يعني إلغاء فكرة العروبة كفكرة ثقافية، لا كإيديولوجيا قومية. لأن نهايتها كإيديولوجيا سبق وتحققت، منذ السبعينيات. وآخر صيغها، المتمثلة في حزب البعث السوري، تتعرض اليوم للانهيار. ويعني الانتصار، أيضاً، فشل فكرة التحديث الثقافي والفني. هذا الجانب لا يهم الغربيين بقدر ما يهم العرب أنفسهم. الإسلام المعتدل، بالنسبة للغرب، يعني صيانة حقوق المرأة وحرية التعبيرعن المواقف الأخلاقية (كالمثلية الجنسية). أما بالنسبة للعرب، فإن الاعتدال جزئي، وقد يكون ظرفياً. إن انتصار الإسلاميين يفيد أننا، باختصار، ننتقل إلى عهد يقف فيه الإسلاميون وجهاً لوجه مع الثقافة العربية الحديثة. وجهاً لوجه في التعليم والإعلام والثقافة والفنون. ومهما كان انفتاح الإسلاميين، ومهما بلغ تسامحهم، فإن هذا الانفتاح والتسامح لن يبطلا مجافاتهم للثقافة الحديثة. خطابهم الدعوي موجود. وهو قائم على بتر تاريخ الثقافة العربية وحضارتها، ومن غيرالمحتمل أن يتبدل في شموليته. بمعنى أن تصريحاتهم المتعلقة بفصل الديني عن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا تسندها ثقافة ولا ممارسة. فما الذي يساعدنا على أن نفهم قول زعيم 'حزب العدالة والتنمية' في المغرب، عندما يضيف بأنه سيحمي علاقات المغرب مع أروبا، لا لأنها اقتصادية فقط، بل لأنها أيضاً فلسفية؟
حقاً، لا أحد من بين المثقفين العرب النقديين كان يتوهم، قبل هذا الذي يحدث، أن الثقافة العربية الحديثة تعيش حياة عادية في مجتمعاتنا. من هنا، لا مفاجأة. السابقون في الحكم كانوا بدورهم مناوئين للثقافة الحديثة. كانوا يريدون إخضاع المثقفين. تحويلهم إلى شحاذين يمجدون الحاكم والزعيم. ولهم بعد ذلك أن يكتبوا من المواضيع الإنشائية ما يشاؤون. وفي مناوأتهم كانوا يتركون هامشاً مَا.
7.
ويشكل المغرب نموذجاً تحديثياً بحد ذاته. عهد محمد السادس يتميز بسلسة من الإصلاحات الجريئة. ومبادرته بصياغة دستور جديد استجابت لصوت ثورة الشبان ولقسم كبير من مطالب حركة 20 فبراير، من دون إراقة دماء. إضافة إلى أن المعارضة التقليدية، التي دشنت مرحلة التناوب السياسي، هي التي كانت تملك الثقافة لوقت طويل. ولكنها، بخلاف المؤسسة الملكية، لا تتنازل عن سيطرتها على مؤسسات ثقافية. هي سعيدة بسيطرة تضاعف من بؤس ثقافة وعبودية مثقفين. لا تتعظ ولا تريد. هناك وهنا، ظلت الثقافة الحديثة محصورة في فئة يضيق عددها، يوماً بعد يوم. منفية في البرامج التعليمية وفي الحياة العامة. وها هي العولمة تبسط سلطتها. حتى شبان الثورة يكادون لا يعرفون لا ثقافة الكتاب ولا الثقافة الفنية.

نموذج المغرب صيغة من صيغ الاختلاف الذي لا سبيل للإسلاميين المغاربة تجاهله، وهم يتسلمون رئاسة الحكومة. يعني أن علينا ألا نعمم لا التحليل ولا الاستنتاج. فالإسلاميون المغاربة لا يملكون ثقافة من إنتاجهم يواجهون بها الثقافة المغربية الحديثة. كما أن الحركة الثقافية لا يمكن أن تكون محايدة تجاه أي موقف ينال من حرية التعبير. رد الفعل سيكون قوياً، وقد بدأ يظهر، رغم أن هناك من سيفضل التصالح والمهادنة. إلا أن رد الفعل لا يكفي. فما نحتاج إليه هو الفعل. وهنا تطرح الأسئلة الصعبة التي هي من صلب أسئلة عوائق التحديث في المغرب، أو عبر العالم العربي.
8.
وما يبقى واضحاً، برأيي، هو مقاومة نخبة من المثقفين الأفراد أو من بين جمعيات المجتمع المدني، في المغرب أو في عموم البلاد التي ستسيرها حكومات إسلامية. لا أنتظر أكثر من مقاومة هذه النخبة، المحدودة العدد، بالأعمال والمواقف النقدية. فهي ستستمرّ في اختياراتها التي كانت لها من قبل، حيث لا تأجيل للحوار مع الذات ومع الآخر. وأعتقد أن مؤسسات ثقافية حرة، للنشر والإنتاج والتنشيط والعمل في أوساط مختلفة، ستظل هي الأخرى متشبثة بمساندة هذه النخبة المثقفة المقاومة. مصاعب التحديث الثقافي ستزداد. ولا شيء يضمن أن تكون مقاومة نخبة محدودة العدد كافية لمواجهة توسيع الفجوة بين الثقافة العربية الحديثة والمجتمع، أو بينها وبين جيل المستقبل. مقاومة فردية. نعم، ولكنها تحتمي بصوت الشبان وهم يستأنفون النشيد.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data\2012\03\03-06\06qpt897.htm


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.