إن الروح الوطنية تتطلب منا في هذه اللحظات العصيبة من تاريخنا، أكثر من أي وقت مضى، أن نبتعد عن الشعارات السطحية ومنطق التخوين وتمجيد الذات إلى التحليل الرزين والموضوعي والجهر بالحقيقة تجاه ما يحدث في مغربنا وما يحدث في الحسيمة من أحداث تاريخية تسائلنا وتسائل حكامنا وأحزابنا ومنظماتنا ومثقفينا. كذلك المسألة تتجاوز منطق فك الحراك والتهدئة عن طريق المطالبة بالتدخل كما تطالب به بعض الفعاليات، لأننا لسنا بصدد محاولة فك شجار أو خصام بين طرفين. إن حراك الريف هو حراك المغرب قاطبة، وهو عنوان لأزمة المجتمع والدولة والبناء الديمقراطي. إن متتبع أحداث ما اصطلح على تسميته بحراك الريف بالشمال المغربي يجد نفسه مضطرا من الناحية العلمية للوقوف والإحاطة ولو جزئيا بتجليات الأحداث وتسلسل مراحل تاريخ هذه المنطقة العزيزة علينا، ألا وهي المنطقة الشمالية بمفهومها الواسع. كذالك هي مناسبة لتوضيح بعض المحطات الأساسية، التي طبعت جزءا من المغرب الذي طالما ظل من المسكوت عنه، وقل ما تتاح الظروف بالنسبة للشباب للتعرف على تاريخ هذا الجزء من البلاد. الريف يمكن تعريفه جغرافيا كمنطقة ذات طبيعة جبلية وعرة، نسبة إلى سلسلة جبال الريف، وهي التسمية العلمية والمتعارف عليها دوليا، وتمتد على طول الشريط الغربي لشمال إفرقيا الموازي للساحل المتوسطي من مدينة طنجة غربا، مرورا بمنطقة تطوان وشفشاون وزان وتاونات والحسيمة حتى الحدود المغربية الجزائرية شرقا. كما لسلسلة جبال الريف امتدادات بالجزائر وجنوب اسبانيا بمنطقة الأندلس، نظرا لتكوينها الجيولوجي جراء اصطدام الصفيحة الإفريقية والأوربية منذ عشرات الملايين من السنين، ثم انفصالها في ما بعد عن أوربا. وتكون سلسلة الريف كجزء جنوبي من قوس جبل طارق كما يصطلح على تسميته من طرف الجيولوجيين (Arc de Gibraltar) وتعتبر جزر أوصخور البرهان وبادس والنكور وجزيرة ليلى من المظاهر الطبيعية للدينامكية التي عرفتها المنطقة جيولوجيا. ويمكن أن نقسم الريف إلى ثلاث مناطق، الريف الغربي من طنجة إلى كتامة، ثم الريف الأوسط. وفي أقصى الشرق يمتد الريف الشرقي إلى حدود الجزائر. أما جنوبا فتحد المنطقة بسهل الغرب ووادي ورغة. من الناحية البشرية يمنكن تقسيم السكان إلى قبائل الريف الناطقة بالأمازيغية، وقبائل جبالة وغمارة وصنهاجة، وهي قبائل مستعربة ذات أصوال أمازيغية، بالإضافة إلى الموريسكيين الوافدين من الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492. وسيمكن الانصهار والتمازج العرقي لهذه المكونات في ما بينها من تلاقح العنصر الشمالي ذي الأصل الريفي الجبلي والأندلسي. وبالعودة إلى التاريخ المعاصر للمنطقة الشمالية، خصوصا إبان النفوذ الإسباني، أو المنطقة الخليفية، في مقابل "المنطقة السلطانية" في الجنوب تحت الحماية الفرنسية منذ 1912، ستعرف هذه المنطقة تطورات وأحداثا ستجعل منها منطقة ذات خصوصية وحساسية، وسيتبلور وعي جماعي لدى سكانها، يمكن سميته تجاوزا بالموروث الثقافي، ألا وهو الإحساس بالتهميش والظلم والتخلي والجحود من طرف السلطة المركزية. ومن بين الأحداث التي نعتبرها ذات أهمية، وكان لها وقع على الذاكرة الجماعية لسكان هذه المنطقة نذكر: المقاومة المسلحة الشرسة ضد الأسبان، والتي ابتدأت منذ 1909 من طرف قبائل جبالة بقيادة الشريف الريسوني، حتى هزمهم من طرف قبائل الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال معركة أنوال سنة 1921. وبذلك حطمت بطولات الثوار أسطورة أن المستعمر الأوربي لا يقهر. وألهمت هذه الثورات مناطق أخرى من المغرب ومن الشباب المغربي من أجل مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني في ما بعد، ونشأ ما أصبح يعرف بالحركة الوطنية في المغرب (حزب الإصلاح الوطني في الشمال وحزب الاستقلال في الجنوب ابتداء من سنة 1930) ونشأ جيش التحرير بالمنطقة الشمالية في ما بعد، واتخذ مدينتي تطوان والناظور مركزين لقيادته سنة 1955. نفي المقاوم عبد الكريم الخطابي بعد هزمه من طرف تحالف الفرنسي الإسباني سنة 1926، ما سيضطره إلى العيش بالمنفى لما يفوق عشرين سنة بجزيرة نائية بالمحيط الهندي، إلى أن وافته المنية رحمه الله.سنة 1963 بمصر. واعتبرت ثورة عبد الكريم الخطابي من الطابوهات التي ميزت فترة ما بعد الاستقلال. اندماج "حزب الإصلاح الوطني" بزعامة عبد الخالق الطريس في "حزب الاستقلال" يوم 17 مارس 1956، قبل اعتراف إسبانيا باستقلال منطقة الشمال، تجسيدا لمبدأ وحدة القضية المغربية من طرف الحركة الوطنية بالشمال، وتهميش قياداتها بعد الاستقلال. وقد حاولت بعض القيادات إحياء هذا الحزب في بداية التسعينيات، إلا أنه منع نظرا لطبيعته الجهوية. استفراد حزب الاستقلال بالجنوب وتهميش القيادات الشمالية في كل الأدوار التي كان من الممكن أن تلعبها بعد استقلال المغرب. القمع الشديد الذي تعرضت له منطقة الريف الغربي غداة الاستقلال من طرف النظام المغربي سنة 1958، والتدخل العنيف لقوات الجيش والشرطة ضد المواطنين ردا على الحركة الاحتجاجية التي قاموا بها من أجل مطالب اجتماعية. الأحداث الدامية والعقاب الجماعي الذي تعرضت له المنطقة الشمالية من طرف الأجهزة الأمنية للدولة جراء انتفاضة الخبز لسنة 1984 نتيجة سياسة التقويم الهيكلي. هذا العقاب الذي كان قاسيا بكل المقاييس، والذي شمل كل الفئات والأعمار، إلى درجة نعت سكان الشمال بالأوباش. مقتل الشاب محسن فكري يوم28 أكتوبر 2016طحناً في شاحنة نفايات، بعدما قام رجال الشرطة برمي أسماكه فيها بحجة أن السمك الذي صاده ممنوع بيعه، ما دفع الشاب إلى إلقاء نفسه في الشاحنة احتجاجا على مصادرة سلعته. نتائج انتخابات 2016 وما ترتب عنها من تغيير الخريطة السياسية لمنطقة الريف. ولا يتسع المجال هنا للتعمق في سرد التاريخ السياسي للمنطقة الشمالية، إذ ما يهمنا اليوم، ونظرا لتسارع الأحداث والمزايدات من هنا ومن هناك، وبعيدا عن منطق التخوين والتهدئة، هو محاولة الإجابة عن سؤال مركزي، وهو كيف تشكل الوعي لدى سكان من أجل هذه الانتفاضة، وهل تشكلت اليوم لدى سكان الريف أو الشمال فعلا نزعة انفصالية؟ وهل يمكن اعتبار أن الأسباب التي أدت إلى الاحتجاجات التي تعرفها منطقة الحسيمة مرتبطة بأجندات خارجية كما ذهبت إلى ذلك أحزاب الأغلبية الحكومية المغربية؟ أم أنها ذات طبيعة اجتماعية تهم جل المناطق المغربية؟. محاولة منا للإجابة سنسرد لحظة وحدثا تاريخيا ذا شحنة عاطفية كبيرة عاشه كل أبناء منطقة الشمال وفي آن واحد، ألا وهو أول زيارة للملك محمد السادس إلى الشمال غداة اعتلائه العرش، ودخوله مدينة تطوان سنة 1999، والاستقبال الحار الذي خصه به أبناء المنطقة بحماس، والحب منقطع النظير الذي عبروا عنه، والإعجاب والفرح الذي كان باديا عليه وهو يقابل الجماهير والحشود التي لم يسبق أن رأته قط في حياتها إلا عبر شاشة التلفزيون. ومنذ 1999 إلى يومنا هذا ستصبح المدن والقرى والجبال الشمالية، وحتى الوعرة منها من طنجة إلى الحسيمة، أمكنة سيتردد عليها الملك محمد السادس بشكل دائم، إما من أجل قضاء عطلته أو من أجل العمل وإقامة المراسيم الرسمية واستقبال الشخصيات. ومنذ ذلك التاريخ عرفت المنطقة أوراشا كبرى ومشاريع هيكلية على مستوى البنيات التحتية والمرافق الاقتصادية، جعلت منها قطبا اقتصاديا وتنمويا حقيقيا، فتم إنشاء الميناء المتوسطي الذي يعتبر من أهم الموانئ إفريقيا، ومعمل السيارات بطنجة، والطريق الساحلي الرابط بين الفنيدقوالحسيمة، والطريق السيار والسكة الحديدية الرابطة بين الدارالبيضاء والميناء المتوسطي؛ ناهيك عن المنشآت المائية، كالسدود ومشاريع إنتاج الطاقة الريحية بمرتفعات الريف شمال تطوان؛ فضلا عن برنامج تهيئة المدن الشمالية ومشاريع اجتماعية لصالح الفئات الهشة، والتي جعلت المواطن في صلب اهتمام الدولة. إن المجهودات التي قامت بها الدولة في هذا الإطار اعتبرها أهل الشمال جبرا للضرر وبداية لتصالح هذه المنطقة. لكن لا يعني ذلك أن كل شيء تحقق بالنسبة للحاجيات الاجتماعية والخدمات، من صحة وتعليم وفرص الشغل وعدالة، بل مازالت الطريق طويلة. وعلى الدولة أن تبذل مجهودات أكثر من أجل القضاء على الفقر ونهب المال العام واستغلال وسرقة الثروات واقتصاد الريع والفساد المستشري في الإدارة والقضاء والصحة وفي قطاعات أخرى. كما تجدر الإشارة إلى أن تلك المطالب تعبر عنها ساكنة جل المناطق والمدن المغربية على حد السواء، وبأشكال مختلفة. ولعل مطالب حركة 20 فبراير الاحتجاجية لسنة 2011 وحراك الريف والحركات الاحتجاجية، والأحداث الدامية التي عرفها المغرب خلال سنوات 1981 و1984 و1990 خير معبر عن الاحتياجات ومطالب الفئات المتضررة في المغرب، وهي فئات العمال والفلاحين والموظفين الصغار والمتوسطين والطلبة والمعاقين، والنساء والشباب والمقاولين الصغار والمسنين والعاطلين والمعطلين ذوي الشاهدات... هذه الفئات أصبحت اليوم عاجزة في ظل غلاء الأسعار حتى عن تلبية الحاجيات البسيطة والأساسية لأسرها، من تطبيب ودراسة وأكل وسكن، في المقابل فئة قليلة تستحوذ على كل الخيرات والنعم، وهي آمنة على صحة ودراسة وعيش أبنائها وذويها، وتستفيد من الدولة ومن حمايتها، سواء عن طريق الريع أو لها امتيازات؛ وهي التي تمتلك المال والسلطة ولها امتدادات في عالم السياسة والإدارة. أما السواد الأعظم من المواطنين فلا حول ولا قوة له في غابة قانونها المضاربة في أسعار المواد الغذائية والمحروقات والسلع الأساسية. أما التعليم والصحة فتخلت الدولة عنهما، وأطلقت العنان للخواص للاستثمار في المدارس الخصوصية والجامعات الخصوصية والعيادات الخاصة، ليكتمل المشهد بالأبناك التي تحقق أكبر نسبة للأرباح ولا تعرف الخسارة، في غياب أي آليات للحماية والمراقبة. أما بالنسبة للموارد والثروات الطبيعية فالجميع يعرف أن مقالع الرمال ومواد البناء ورخص الصيد في أعالي البحار والمناجم ورخص النقل ورخص الاستيراد والأراضي الصالحة للزراعة تدر على أصحابها الملايين، وتستفيد زيادة على كل هذا من دعم الدولة! طبقا للقانون في إطار البرامج الحكومية لدعم الصناعة والتجارة والفلاحة والصيد البحري؟! وهنا نستحضر المثل المغربي "طالع واكل هابط واكل!". إن الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في إطار النظام الديمقراطي وجدت لتكون الناطق باسم هذه الفئات، وتدافع عنها وتؤطر مطالبها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وصيانة الحريات وإحداث التوازن بين الدولة والمجتمع وتحقيق البناء الديمقراطي. والسؤال هنا: هل قامت الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني بدورها، أم أنها ذهبت كذلك لتجد موقعا لها ولذويها والحفاظ على بقائها، مستعملة هذه المؤسسات الحزبية كطوق نجاة علها تنجو مما يتعرض له عموم الشعب من بطش وتحقير، وفضلت الاصطفاف إلى جانب المستغلين والسكوت عن الظلم. ولا نستغرب عندما قامت بعض الأحزاب مباشرة بتخوين المحتجين في الريف واتهامهم بالعمالة لجهات أجنبية تسعى إلى زعزعة الاستقرار بالمغرب كما لا نستغرب أن بعض الأحزاب جعلت من الاحتجاجات التضامنية مع حراك الريف خطا أحمر لا يمكن الاقتراب منه، خاصة بالنسبة لشبيباتها. أمام هذا الوضع يبقى السؤال حول مفهوم الوطن والمواطنة مشروع، ألا وهو: أي وطن هذا الذي لا يحمي أبنائه من بطش اللصوص والمضاربين والمستغلين والمحتكرين والمتلاعبين والسماسرة؟ أليس من المشروع أن ينتفض الضعفاء والمغلوبون ويتكتلوا من أجل الدفاع عن أنفسهم وبكل الوسائل، خصوصا عندما تصل بهم الأمور إلى فقدان الأمل وعندما لا يكون لديهم ما يخسرون؟ وهل يعقل في زمننا هذا أن نجد أشخاصا لا يجدون حتى ما يقتاتون به في وطنهم؟. إن حراك الريف ما هو إلا مظهر من مظاهر الاستياء العارم الذي يعيشه المغرب كله، وليست له أي علاقة بنزعة انفصالية أو أجندات خارجية، إذ إن كل محطات تاريخ هذه المنطقة تدل على تشبثها بوحدة واستقلال المغرب كما سبق الذكر. والمعالجة يجب أن تكون شمولية وباستعجال، بداية بقراءة تاريخنا المعاصر بموضوعية وبدون عقدة ذنب وبكل تفاصيله، والذهاب إلى أصل الداء الذي يعاني منه الجسد المغربي كله وليست الحسيمة فقط. ويجب على الحاكمين بالمغرب أن يفتحوا كل الملفات، بداية بإطلاق سراح المعتقلين، وتأمين العيش الكريم للمواطن المغربي، ومحاربة الفساد وتحقيق المساواة بين المواطنين، وتحقيق العدالة والتوزيع العادل للثروات؛ لأنه لم يعد ما يخفى في زمننا هذا، ولم يعد هناك شخص واحد يرضى أن يتنازل عن حقه في الكرامة والعزة، ولم يعد أحد مستعدا أن يعيش مقهورا في بلده. كما أن الوطن للجميع، ولا يمكن لأي كان أن يدعي الوطنية على حساب المقهورين والضعفاء والمساكين. *أستاذ باحث بجامعة محمد الخامس - الرباط