أردت أن أكتب شيئا عن الحكم الذين قضت به المحكمة الجنحية بعين السبع ضد القاضية مليكة العمري، إلا أنني تراجعت.. ثم عقدت العزم مرة أخرى على الكتابة، ثم توقفت.. ثم حاولت مرة أخرى مرغما على نفسي التعليق على ما حدث.. فخانني التعبير وفرَّت كل الكلمات التي تمنيت أن تكون طوع بناني في هذه اللحظات العصيبة.. هربت الكلمات وهرب معها المعنى.. وخانتني العبارات وخانني معها المبنى، في لحظات يكون فيها من الواجب أن يتكلم فيها الإنسان ويعبر.. يعبر عن حسرته وانكساره، عن ألمه وخيبة أمله.. وها أنذا أحاول رغم أنفي.. ما يقع للسيدة القاضية مليكة العمري تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتشيب له الولدان.. وترى الناس حيارى، وما هم بحيارى ولكن ظلم العباد شديد .. شديد على النفس.. قاس على القلب.. يمزق الكبد تمزيقا مريعا في حالة بمثل حالة مليكة العمري.. الأحكام القضائية «عنوان الحقيقة»!!! عن أي حقيقة يتحدثون؟ وعن أي عنوان يتهامسون؟ عندما تخطئ الأحكام العنوان.. فهل بوسعها أن تصل إلى الحقيقة؟ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد الضلال إلى الغواية؟. وماذا بعد الغواية إلا النهاية؟ أغرب غرائب الحكم، ليس الثلاث سنوات العجيبة، بل قيمة الغرامة التافهة.. مقارنة مع العقار موضوع القصة، وكأن الحكم يحمل ضمنه كل معاني السخرية السوداء في حق من تجرأ وطالب بالحق، أو صدع بالحق.. وفي متنه كل أشكال التهكم على شخص يظهر في كلامه الصدق مع الوجع.. وفي ملامحه الوقار مع الفزع.. السير نحو الحق طلبا أو صدعا أو مناشدة أو رجاء أصبح مغامرة مخيفة جدا.. وأصبح مرعبا للضعفاء من الناس في مواجهة الأقوياء والنافذين.. هذه هي الحقيقة الساطعة.. فليس لأن صاحبها لن يلوي على شيء فحسب، بل لإن حريته ستصبح في خطر، وسمعته على لسان من فسد من البشر.. فيعض أنامل الندامة والحسرة.. على حق ضُيِّع وحرية سُلبت وسمعة انتهكت.. فإذا كانت الأحكام عنوان الحقيقة كما يزعمون، فإن المطالبة بالحق أضحت عنوان التهلكة، كما يؤكدون.. وإذا كانت العدالة ملجأ كل مظلوم كما يدعون، فإن نهايتها شؤمٌ على كل ضعيف محروم، بما يُبَيتون.. وإذا كانت المحاكم محراب كل ضائع كما يروجون، فإن أروقتها تحولت متاهةً لكل والجٍ ، بما يَعْملون.. مليكة العمري، القاضية في محراب العدالة المقدس، التي ظلت تتعبد فيه ثلاثة عقود ونيف.. وبعد عمر طويل من الحكمة والدُربة والخبرة، ضلت طريقها نحو محرابها الآمن، أو ربما أخطأت عنوانها الذي يقود إلى الحقيقة.. هكذا ظنت وتوهمت!! لا يا سيدتي القاضية.. عنوان الحقيقة تغير فحسب.. هذا كل ما في الأمر.. عنوانك القديم لم يعد يؤدي إلى ذلك المحراب التي تعبدْت فيه بخشوع وصدق وإخلاص ووقار طيلة زهرة عمرك الذي وهبته له عن حب.. لم يعد العنوان هو العنوان.. ولم يعد المحراب هو المحراب.. والعدالة ارتدت حلتها الجديدة.. بمعاني عجيبة.. وبأحكام غريبة.. مليكة العمري، سيدتي الرئيسة.. أتقدم بين أيديكم وأنا أحمل بين أعماقي المتمزقة كل معاني الأسى والألم.. لأضع أمامكم طلباتي الأولية ودفوعي الشكلية.. فأما طلباتي الأولية؛ فهي دعوتكم إلى الاحتساب والصبر.. في زمان الذل والقهر .. ودعوتكم إلى إلى الاستمرار دون انكسار.. فما ضاع حق وراءه طالب.. ورب العزة يقول للمظلوم «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين»، وعليك بالدعاء والتضرع إلى الله، فقد وعدك بالنصر من لا يُخلف وعده، ولا يهزم جنده.. وحمل دعوتك فوق الغمام محلقة بين السماء والأرض، حتى لا تصلها يد عابث حقود، ولا يكون بينها وبين الله حجاب.. هذا وعد غير مكذوب.. طلباتي الأولية لك سيدتي الرئيسة؛ أن تواصلي رحلة المطالبة بالحق رغم صعوبتها، رغم مشقتها، رغم عناءها.. رغم شوكها، رغم ألغامها.. فأنت نبراس المظلومين، ومنارة الضعفاء والمحرومين.. الذين هُضمت حقوقهم، وزُيِّفت حقائقهم، وسلبت أرزاقهم.. منك يستمدون القوة والجرأة والإصرار.. أنت صوت المساكين الذين سرقت منهم أرزاقهم وأراضيهم ومساكنهم فأصبحوا تائهين ومشردين بلا مأوى، بلا مسكن.. وبلا عنوان... لأن عنوان الحقيقة الجديد للأحكام القضائية لم يعد في متناول الضعفاء والمساكين والمقهورين.. فهو ملاذ الأقوياء والنافذين، وليس ملاذ الضعفاء والمساكين.. أما دفوعي الشكلية فأتمنى ألا تضميها إلى الجوهر، بل تمتعينها -استثناء- بحكم مستقل، ولو لمرة واحدة.. هي هذه.. سيدتي .. وأما دفعي الأول فهو متعلق بعدم الاختصاص، وذلك بتطاولك على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما منصة اليوتيوب، فذلك فضاء خاص، يشغله السواد الأعظم من التافهين والمنحرفين، يملؤونه تفاهة وانحرافا وكذبا وبهتان وتشهيرا، وليس فضاء لقامة قانونية وقضائية مثلك سيدتي، سيدة يعلوها الوقار ويكسوها الاحترام.. ولا لمثل من عرفوا بطيبتهم وسمتهم وأخلاقهم العالية، ولا لمثل من عرفوا بعلمهم وثقافتهم، فها أنت كما ترين، فكل من سولت له نفسه أن يتحدث في الحق وانتقاد الواقع أو إنكار الفساد إلا وانهالت عليه كتائب التفاهة سبا وشتما وتشهيرا وبهتانا.. ثم يُؤخذ إلى مقصلة العدالة في عنوانها الجديد لتطبق عليه فصول الإدانة المتعلقة بانتهاك فضاء خاص بالتافهين وصعاليك الإعلام.. من أجل استعماله في نشر الحقائق والصدع بالحق.. والدفع الثاني متعلق بانتهاك أحد أخطر فصول «دستور القوة والنفوذ» الذي ظهر بعد الردة الحقوقية والانتكاسة السياسية الأخيرة.. حيث أتى ذكرك على شخصيات تقدست أسماؤها عن كل ذكر سيء غير ذكر التمجيد.. وتحصنت أفعالها عن كل اتهام غير التطبيل والتهليل.. لما تحمله من عصمة وتبجيل.. فذلك سيدتي كان خطأك الأخطر.. وجريرتك التي لا تغتفر.. مما يتعين معه القول والحكم عليك بخرق مقتضيات فصول «دستور القوة والنفوذ»، و«المس» بمن تقدست أسماءهم وتحصنت أفعالهم.. مع ترتيب الآثار التي ترين الآن أهوالها وتعيشين آلامها.. سيدتي القاضية.. حتى لا أطيل على سيادتكم.. ألتمس منكم بكل احترام أخذ طلباتي الأولية ودفوعي الشكلية بصدر رحب، وطيب نفس، وقلب جسور.. فالملايين من المغاربة معك بقلوبهم ودعاءهم.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..