"الحق لا ينصر إلا بالحق للحق مع الحق.. فإن نصر بالباطل كانت الغاية الشريفة مبررة للوسيلة الوضيعة، و إن نصر للباطل كانت النصرة نسخة منه قد ألبست لبوس الحق، و إن نصر مع الباطل فشر صحبته أفتك من السم القاتل.. فإن لم يكن من مسايرته بد، فذاك من النكد، فتحل بالصبر و خذ الحذر و ادفع بالتي هي أحسن و اصحب معك للسم ترياقه.." عن لقاء باطل الاستبداد بعدالة الحق و مدى إمكانية اجتماعهما، و نصرة الباطل لبعض قضايا الحق العادلة لأسباب متنوعة ليس منها بالتأكيد إرادة الخير لأهل الحق و العدالة، و إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر كما جاء في الحديث الشريف، و عن ورود مساهمة ذوي النيات الحسنة ممن يبتغي طريق الحق في مساندة الباطل، بسبب خطإ في الاجتهاد أو قصور في تقدير الأمور و مآلاتها.. أتحدث مسترشدا بحكمة نيرة للإمام علي كرم الله وجهه يقول فيها:" إن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا". فطريق الضلالة و ما يسير في ركابها من عناوين الباطل، و طريق الهدى و ما يسير في ركابها من عناوين الحق، سبيلان متوازيان لا يلتقيان أبدا لا في المنطلق ولا أثناء السير ولا في نهاية الأمر و منتهى الطريق. و إن اجتمعا لسبب ما على أمر ما، فلا يلبث أن يطرد أحدهما الآخر و يبعده عن ساحته، إذا زال السبب و قضي الأمر.. لأن لقاء الحق بالباطل لا يكون إلا منازلة أو مدافعة شعارها " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق "، أو مداراة قد يسكت بموجبها حاملو الحق عن بعض جوانبه إلى حين، إذا كان الحال لا يستطيع من ضعفه و غلبة الباطل عليه، إلا أن يأخذ الحقائق جرعات مخففة تحافظ على الجسم المريض و لا تقضي عليه إذا أخذ الدواء دفعة واحدة . لكن يشترط أن يكون الطبيب الذي يريد معالجة الواقع عالما بما هو الحق كاملا و ما هو الباطل، حتى إن سكت عن قول كل الحقيقة، عرف ما سكت عنه و لما سكت، و لم يقل باطلا أبدا، لأن ضلالات الباطل الزائل لا توافق مشروع الحق الراسخ ، و شتان ما بين المداراة و التدرج، والمبادئ مصانة، و ما بين الموافقة و ما فيها من معاني الاتفاق و التعاون على الباطل. ومن التعاون مد أهله بما يساعدهم على التوصل إلى قضاء مآربهم، و التي في قضائها قضاء على معاني الحق، ليس بمعنى الاستئصال، لأنه لا يخلو زمان من وجود هذين النقيضين، و لكن بمعنى تأخير ظهورها لتخلف شروط نصرتها. و حتى لا تنقلب المداراة و مراعاة الأولويات و التدرج في العمل، إلى مشوش يدخن و يضبب الصورة على الناس و يعسر عليهم التميز بين الحسن و القبيح، لابد أن يكون من علماء الحق من يبين بجلاء الحدود الفاصلة بينهما، حفظا للأصول من تأثير متطلبات سياسة الواقع و فتنه و إكراهاته . و قد يكون للباطل في زمان ما نصيب، و جولة له فيها صولة، فلا يسمح لأهل الحق بنزول ساحته ، إلا إن غيروا ثوبهم، و لبسوا ثيابه الكريهة، فإذا هم لا يحملون منه إلا اسمه،أما حقيقته فقد وضعوها قبل الدخول ، إلا أن يتدارك الله تعالى عباده فيصححوا المسار و يقطعوا مع الباطل و أذنابه، و يتيقنوا أنه لو دام اجتماعهم به إلى آخر الدهر فلا توافق أبدا. أو يصيبهم من ويلاته العفنة ما يغير الريح و يفسد ما بقي من مسحة تركها ماضي المبادئ الجميلة. و ما أفسد " خضراء الدمن " ،كما ورد في الحديث الشريف، و لم ينفعها جمالها إلا أنها حسناء جميلة لكنها نبتت في منابت السوء، بل إن الجمال و الحال هاته يصير مدعاة لرفض الحق و الاكتفاء بالقشور الجميلة يعزي بها فاقد الأصول نفسه . و أصدق مثال على التدافع السرمدي بين الحق الباطل و الضلالة و الهدى، التدافع بين الاستبداد و الظلم من جهة،و بين الحق و العدل من جهة أخرى بشكل مواز لمسار الحياة على وجه هذه البسيطة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لايلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء، ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لايعرف غيره. ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما طلع من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره" رواه الإمام أحمد. تعاقب بين العدل و الجور ما تعاقب الليل و النهار، فإما أن يتوسط الساحة العدل و يزهق الجور كما تزهق الأرواح الخبيثة من الأجساد لتعود إلى زواياها المظلمة في الكون ، أو يحضر الجور إذا وهن أهل الحق و العدل فيتوسط الرقعة و يرغمهم على الركون إلى الهوامش،هذا إن هم نجوا واستعصوا عن أن يدفعوا إلى الركون إلى الذين ظلموا، أما أن نحلم بالتوافق فلا. يقول الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" سورة النحل الآية:90 . فالعدل و ما يسير في ركابه من أصول الفضائل من إحسان و بذل للمعروف و وصل لما أمر الله به أن يوصل، و البغي و ما يلازمه من الفحشاء و المنكر، لا يمكن أن يتوافقا، و لو اجتمعا كان اجتماعا صوريا أو مصلحيا،و هل من مصلحة للحق و العدل إلا بإزالة الباطل و الظلم؟! أم هل يستطيع الجور المستبد أن يصنع شيئا من مفاسده على أعين الحق و أنوارُه كاشفة متقدة؟! بل هل يجتمع في حكم الشرع و تصور العقل أمر الله تعالى و نهيه؟! تجليات هذه المقدمات التي ذكرنا رأيناها في تاريخنا السابق كما نراها اليوم في واقعنا الحالي . رأينا في الماضي من تاريخ المسلمين، في أغلب فتراته ، كيف أن الجور و الاستبداد لم يتمكن من نشر أذرعه الأخطبوطية إلا بعد أن هيأ الظروف لإبعاد العدل و أهله، بداية بنظام الحكم الذي تحول من الشورى عن حرية و اختيار إلى بيعة بالإكراه، ثم ما تبع ذلك من جور اقتصادي و تضييع لأموال الأمة على التافه من الأمور،إلى أن وصل الأمر إلى التشتت الكبير الذي أصاب الأمة . إن كان الاستعمار الغربي قد أظهر هذا التشتت على أرض الواقع ، فإنه وقع قبل ذلك في النفسيات و بين طوائف الأمة و مكوناتها . أما العدل و فضائله فقد عاش مهمشا في الضمائر أو في بعض القضايا التي لا تمس الظلم و الظالمين، و لم يوافق الجور أبدا. و لذلك لم تلمع نجوم أفراد من الأمة في سماء العدل في الحكم إلا بعد أن لفظوا الظلم بالكلية، و أعلوا بلبنات الحق أسوارا منعت السيل من التدفق إلى حياضهم. فرقد هذه النجوم بعد الخلفاء الراشدين عطية الله على رأس المائة الأولى من تاريخ المسلمين مجدد الدين ، و ما كانت شؤون الدنيا و هي المسرح الظاهر لبناء صروح الدين بمعزل عن توجيهاته و تشريعاته ، إنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، من أحيا الله تعالى به العدل و أخمد نار الظلم . لم يبلغ عدله رضي الله عنه ما بلغ إلا بعد أن أبعد الجور من حضرته و سد عليه ترع حظيرته، بداية من نفسه فأهل بيته فالمحيطين به، و ما زالت الدوائر تتسع حتى عمت الأمة كلها بل و تعدتها إلى باقي الناس من أهل الذمة و غيرهم .. و بقدر ما اتسعت دوائر العدل تقلصت من الجور مثلها. هذا رجل وسع عدله العالمين فكان ما سمعنا من بركات الله عليه و عليهم ... لكن حظائر الظلم المتربصة لم تلبث أن عدت على الحضرة الشريفة لتكسر شوكتها و تدنس طهارتها، استشهد أشج بني أمية رضي الله عنه ، و هي علامته بينهم ، ذكره بها جده عمر الفاروق رضي الله عنه ، إصابة من فرس تركت أثرها على جبينه ، كانت أمارة عرف بها بين ملوك بني أمية في حياته، و بقي رضي الهر عنه علامة و آية تهتدي بها الأمة بعد مماته، و هي تجتهد مترقبة موعود الله تعالى و موعود رسوله صلى اله عليه و سلم بعودة العمريين .. ترقب مستبشر عامل، لا قعود منتظر خامل. و لعل في هذه الهبات المتوالية للشعوب المسلمة، ما يبشر بمستقبل يقطع مع الذهنية التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل. و لا يحسن بمتحدث عن محاربة الاستبداد و هبات الشعوب في وقتنا الحاضر أن لا يذكر المعاناة الفظيعة التي يعيشها إخوتنا في سوريا ، حيث الآلة البعثية العابثة النصيرية المارقة ، تريد أن تشق طريقها في البقاء المخلد ، و لو سيرا على جماجم و عظام المضطهدين المستضعفين من الرجال و الولدان و النساء الذين يقولون " يا الله مالنا غيرك يا الله " . ضلالة ما بعدها ضلالة و إفساد ما بعده فساد ، هذا العنف الممنهج بمنهجية المجانين الخائفين لازم النظام البعثي منذ ظهوره ، و مع ذلك ما فتئ يصم الآذان بأنه قلعة المقاومة و حصن الممانعة و أنه مركز الجذب الذي يلم شعت المقاومين. بالله عليك كيف تجمتع مقاومة البغي و الاحتلال و الاستكبار العالمي .. و هي أمانة الأمة في أعناق أبنائها، بخيانة الشعب و استضعافه و كتم أنفاسه فضلا عن السماح له أن يرفع البغي عن نفسه و يختار من خارج الأسرة الأسدية "المستأسدة" من يسوس أمره .. أهو الكيل بمكيالين مختلفين كشفت عنهما النفسية العاضة على الحكم لما نوزعت فيه ، أم هو النفاق المصلحي الذي يرفع الفزاعة الصهيونية و خطرها في وجه كل داعية للإصلاح و العدل و تداول السلطة .. وقد أظهرت الثورات الأخيرة أن لكل نظام متهالك متكالب فزاعة يتكأ عليها، فمن تنمية مزعومة إلى استقرار لا يحرك معه أحد ساكن إلى إسلاميين قادمين إلى ما هنالك من متكآت فارق صاحبها الحياة لما فارق شعبه، وما إن تحرك هذا الأخير حتى سقط الجسم المنخور و ظهر للناس أن لو كانوا يعلمون الحقيقة ما لبثوا في العذاب المهين. أي نفاق بعثي هذا الذي يرفع الفزاعة و يولول في الناس و يقرع الطبول محذرا منها ثم لا يزيد على ذلك، بل يحمي الفزاعة ليفزع بها الخصوم، و يشغل الجوقة من حوله بصوت قرع الطبول على ألحان الأماني المعسولة للمقاومة.. و الحق أن مقاومة الصهاينة و محاربتهم و تحرير الأرض المقدسة، حق لا يأتي إلا على أيدي قوم مهتدين مقسطين سبيلهم واضح ، لا من مستنقعات متعفنة ملطخة بدماء الأبرياء الذين تحرق البيوت فوق رؤوسهم ، ثم يسوق الإعلام السوري أن شراذم العصابات المسلحة تجوس خلال الديار و تحرق في طريقها حاويات القمامة لتصور الدخان المنبعث منها على أنه دخان مبان محترقة!! .. أنظمة تنزل بها الرعونة إلى هذه الدرجة لا يمكن أن تدعي مقاومة الظلم و هي حق، مع ظلم الناس و هو باطل، لأن الحق لا يوافق الباطل و لو اجتمعا. و كل من يوافق أنظمة الضلالة هذه ويساندها، فاستدل بذلك على ورود الضلالة عليه و لو بوجه من الوجوه، و أنه يحمل في تصوراته أفكارا خاطئة و موازين مختلة و إلا لما وصل إلى تلك النتيجة ، لأن اختلال النتائج من اختلال المقدمات و الخطإ في بناء المعادلات .. و المعادلة الصحيحة أن نظام الجور ضلالة و الضلالة لا توافق الهدى، فإن وافقتَ الجور وافقتَ الضلالة و تنكبت عن طريق الهداية... و ما النظام الإيراني و حزب الله اللبناني ، بموقفهما من النظام السوري ، ببعيدين عن هذه المعادلة ، إلا أن يصححا المسار ، و يبحثا عن الاختلالات بكل أنواعها ، التي تدفع مكونات تتبنى "مرجعيات إسلامية " - حسب فهمها للإسلام- إلى مساكنة الاستبداد و ربط مصيرها بمصيره. و مع ذلك تريد أن تقطع دابر الظلم و هي لم تقطع مع أهله. و هذه سنة الله تعالى في التاريخ بين أيدينا ، تعلمنا أنه لا خير يرجى لفرد أومجتمع، يمكن أن يأتي من الاجتماع و التحالف بين الضلالة و الهدى أو بين الاستبداد و العدالة، فإما أن يكون هذا أو يكون ذاك، و العاقبة للمتقين.