بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه \"لم يعد ممكنا حكم العالم بنظام وحيد القطب\" عزمي بشارة يعيش العالم فوضى شاملة وأزمة متعدّدة الأوجه عصفت بالعولمة وكشفت عن الاختلال البنيويّ الفظيع في \"النّظام العالميّ\"، ومع ذلك ما تزال الصّورة الثّابتة هي إصرار الولايات المتّحدة على الرّؤية الإسرائيليّة في التّعامل مع القضيّة الفلسطينيّة تحديدا ومنطقة الشّرق الأوسط على العموم لأنّ الخطاب الذي تتبنّاه في السّياسة الخارجيّة لم يتغيّر، فغداة انعقاد مؤتمر هيرتزيليا بالقدس المحتلّة في يناير كانون الثّاني صرّح أحد الحاضرين من أقطاب الإدارة اليمينيّة المنسحبة أنّ إسرائيل تواجه تهديد جدّيّا يتمثّل في السّلاح النّوويّ الإيرانيّ لذلك دعاها إلى التّدخّل عسكريّا لإبعاد هذا الخطر المحدق، والحقيقة أنّه في غياب تعريف مجمع عليه للإرهاب وطالما يصادر الغرب بزعامة الولايات المتّحدة وإسرائيل الحقّ في المقاومة بتجاهل الطّبيعة الجنائيّة للاحتلال واستبعاد أخلاقيّات القانون الدّوليّ عند فرض العقوبات الجماعيّة على الشّعوب، وطالما تحصّن الدّول دائمة العضويّة نفسها ضدّ القانون وتوفّر لجيوشها وحلفائها عفوا خاصّا واستثنائيّا من المتابعة عمّا تقوم به من جرائم ضدّ الإنسانيّة وضدّ السّلام العالميّ فإنّ بؤر الصّراع في العالم تحتمل أكثر من اتّجاه، خصوصا بعدما أفضى التّعنت الإسرائيليّ إلى كوارث ضاعفت معاناة الفلسطينيّين على نحو أسقطها في ضمير العالمين، وساهم إلى حدّ كبير في بناء رأي عامّ عالميّ مناهض للهيمنة وهو ما يسمح بتسجيل الحقائق التّالية: 1 سقوط الإمبراطوريّات لقد شهد منتصف القرن الماضي سقوط الإمبراطوريّات التّقليديّة وصعود إمبراطوريتين غير تقليديتين كان مطلع القرن الحاليّ شاهدا على نهاية إحداها، وتتطلّع الإنسانيّة إلى أن يكون العقد الثّاني فاتحة عهد جديد بأفول نجم أعتى الإمبراطوريّات التي عرفها التّاريخ، فالله الذي خلق الله الإنسانيّة أنعم عليها بنعمة العقل وفضيلة التّكليف، وبهداية الوحي وتعاليم الرّسل ليلاّ تصيبها عيوب الطّغيان بالاستغناء عن منهجه وبالتّعويل المطلق على الاجتهاد العقليّ فيكون مآلها الدّمار والحرمان، فالأسباب المفضية إلى الطّغيان المؤدّية إلى عواقبه الفظيعة عموما إنّما هي متفرّعة عن أحد الأعراض الأربعة التّالية وهي: أوّلا: الانحراف في العقيدة وفي المنهج بتخيّل القدرة على رسم منظومة للقيم ونموذج للحياة يصون المصالح المختلفة والإصرار في ذات الوقت على إلغاء الجوانب الرّوحيّة أو إغفالها، وهو الشّيء الذي نلمسه في الأنظمة الوضعيّة التي لا تحفل إلاّ بالمتطلّبات المادّية، وفي التّصوّرات الذّهنيّة للتّنظيم الاجتماعيّ التي تنزل بالإنسان من ذلك المستوى الرّفيع الذي استحقّ به التّكريم الإلهيّ، إلى درك وضيع يجعل منه مجرّد حيوان يمشي في الأرض على غير هدى، ما أدّى إلى ظهور الأمراض المستعصية التي يتعاظم خطرها في المجالات الصّحّيّة والاجتماعيّة يوما بعد يوم بشكل لا سبيل إلى الحدّ من تهديده المتنامي إلاّ بعقلانيّة مؤمنة تسترشد بالوحي، وتهتدي بتلك القيم التي أراد الله تكون قبسا من علمه المطلق، ينير للبشريّة طريق الصّلاح والسّعادة. فالله سبحانه وتعالى يشير في الآية (14) من سورة الملك إلى حقيقة منطقيّة وموضوعيّة تحترم أساس البداهة العقليّة وقواعد المناظرة والحجاج المستند إلى الخبرات المكتسبة لدى المخاطب حيث يقول: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، فهو الخالق العليم بمصالح الخلق ومفاسدهم وله المثل الأعلى، لأنّ من يصنع صنعة يكن بالضّرورة عليما بها، ومن ثمّة يحقّ له لا لغيره أن يضع منهجا يوضّح أفضل طرق صيانتها، فالله الذي يخلق هو الأحقّ بالأمر والنّهي، ولا يحقّ لمن لا يخلق أن يشرّع لنظرائه في الخلق، وعلى أساس هذه الحقيقة الواضحة شرع لكلّ أمّة من الأمم في الأطوار التّاريخيّة التي مرّت بها البشريّة منهاجا يراعي مبدأ التّدرّج ويتأسّس على العدل كحاجة إنسانيّة ضروريّة للموازنة الرّشيدة بين متطلّبات الرّوح ونوازع الجسد، وقيمة مطلقة توجّه مهامّ الاستخلاف نحو غاياتها الرّبّانيّة مع ما تقتضيه من تحقيق للتّوحيد والعبوديّة لله، ومن عمارة الأرض بجعلها موطنا تتساكن فيه الحيوات المختلفة، وتتعايش فيه الثّقافات المتعدّدة، والأجناس المتنوّعة، قال تعالى في سورة المائدة: (لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون)، فبهذا المنهاج الرّبانيّ وحده يصير الإنسان دائم الارتباط بالحيّ القيّوم محتاجا إلى قيّوميّته المتعالية التي تستقيم بها ومعها جميع أمور الحياة. ثانيّا: الاغترار بكمال العلم والاعتقاد ببلوغ حدّ من المعرفة يغني عن الخالق عزّ وجلّ ويمكّن من التّصرّف ((بحرّية)) في العالم وهو ما يمكن اعتباره خلفيّة نفسيّة و (فكريّة) لظاهرة الاستعلاء الثّقافيّ التي تعكس في آن واحد تورّم (الأنا) في الذّات الحضاريّة، ومن خلال العدوان بالقوّة العسكريّة حالة من الإفلاس القيميّ، ولعلّ التّفاوت شديد الحدّة بين الدّول الغنيّة والأمم الفقيرة في المجالات العلميّة والتّقنيّة هو أبرز نتائج هذا الاستعلاء، وأكثر مظاهره تعبيرا عن احتكار المعرفة التي ينظر إليها كسلاح استراتيجيّ يحقّق التّفوّق النّوعيّ في الميادين الاقتصاديّة والعسكريّة، لذلك اقتضت الضّرورة أن يقوم التّواضع الثّقافيّ من جهة على مبدأ التّكامل بين الجوانب المادّية والرّوحيّة المكوّنة للوجود العاقل، ومن جهة أخرى على مراعاة التّوازن بين طموح التّقدّم العلميّ ومطلب الحفاظ على البيئة، وعلى الاستفادة من مختلف التّجارب والخبرات الإنسانيّة لتنمية التّفاعل المطلوب بين عموم الثّقافات، والتّواصل المنشود بين الحضارات، من حيث إنّ التّواضع الثّقافيّ هو عنوان السّلام، وهو أفضل السّبل المؤدّية إليه في عالم استفحل فيه أمر الطّغيان المعرفيّ لدرجة أصبحت تنذر بالكوارث الصّحّيّة والأخلاقيّة وبأسوأ العواقب: فاستخدام الفضاء الخارجيّ للأنشطة العسكريّة والتّجسّسيّة، والتّلاعب بالمورّثات عبر طرق التّعديل الجينيّ والهندسة الوراثية، واستثمار أحدث المعدّات في إطار برنامج يُجْري تجارب على الغلاف الأيّونيّ للأرض وعلى نظامها الكهربائيّ عبر هوائيّ يعمل بنظام (HARPE) ليُصْدِر تردّدات كهرومغناطيسيّة خطيرة قد تسبّب الزّلازل فتؤثّر على القشرة الأرضيّة، وقد تُغيّر الأنماط المناخيّة فترفع من تأثير(البيت الزّجاجيّ)، كما قد تؤثّر على حياة الكائنات الحيّة فتسبّب للإنسان السّرطان وأعراض تفكّك الخلايا والتّشوّه الجينيّ والخمول وغيرها من الأعراض الفتّاكة، وعلى نموّ النّبات وحياة الحيوان بالتّأثير على حركة هجرة الطّيور والأسماك وعلى استقرار الكائنات في بقعة معيّنة. ثمّ توظيف التّقنيّات المخبريّة في الأبحاث حول مشروع التّنوّع الجينيّ والأبحاث المختلفة حول المادّة اللّزجة وتقنيّة (NANO) الدّقيقة التي قد يؤطّرها السّعي إلى إنتاج أسلحة بيولوجيّة ذكيّة وفتّاكة تنتخب الأعراق عند إطلاقها للتّدمير بشكل قد يلخّصه إلى حدّ ما عنوان الرّواية الفرنسيّة (Le José Bové Qu il Faut Tuer)، وهذا وغيره ممّا يمكن أن يقود إليه غرور العلم وتفضي إليه شهوة الهيمنة وطغيان الاستكبار! ثالثا: كنز الأموال واحتكار الخيرات والمنافع الذي ينشئ الكبر والأثرة في الأنفس الغافلة عن الله، المعرضة عن تعاليم الأنبياء، وفي هذا المعنى ضرب الله مثلا بقارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم بثرائه الفاحش، واستعلى عليهم بما يملك من جاه ومحتكرات فقال عزّ من قائل في سورة القصص: (إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة، إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين، قال إنّما أوتيته على علم عندي، أولم يعلم أنّ الله قد أهلك من القرون من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعا، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)، وفي هذا المعنى أيضا يشير القول المنسوب للسّيّد المسيح في الإنجيل إلى ما ينشئ حبّ الدّنيا من غفلة عن الله واستغناء عن منهجه حيث جاء في الإصحاح (6) من رواية متّى: (لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين في الوقت نفسه لأنّه إمّا أن يبغض أحدهما ويحبّ الآخر، وإمّا أن يتبع أحدهما وينبذ الآخر، فليس بالوسع خدمة الله وجمع الأموال). 2 فشل التّصوّرات الاقتصاديّة التي أرستها اتّفاقيّة بريتون وودز سنة 1944 إنّ الشّغف بجمع الثّروات بكلّ طريقة وأسلوب مهما كان مؤذيا ومحرّما هو ما أفضى إلى الأزمات الماليّة الدّوريّة والمستعصيّة وإلى التّباين العميق والخياليّ بين الدّائنين والمدينين وأسّس لاقتصاد عالميّ مبنيّ على سوء التّوزيع وعلى الرّبا المعولم، ففي فضاء مشرع على الاستغلال أعطت المصارف العالميّة لنفسها الحقّ في استدراج الدّول الفقيرة إلى الاستدانة بشروط مجحفة تسلب إرادتها، وتكبح من نموّها واستقلالها، وتجعلها مشدودة إلى الفقر بألف وثاق، كما وجدت البورصات المجال مناسبا للتّلاعب بالأسواق الماليّة لمساعدة الشّركات العملاقة على تحقيق الرّبح المطلوب للانتشار والسّيطرة على منابع الثّروة واستبعاد شركات أخرى تريد أن تستقلّ باختياراتها عن توجّهات المستبدّين بصنّاعة القرار العالميّ في مجال الاقتصاد والاستراتيجيّات الماليّة لإرغامها على الانسحاب، ما يجعل مراجعة سجلاّت تلك البورصات وتتبّع ما أنجزته من عمليّات على مدى نصف قرن أمرا ضروريّا للوقوف من جهة، على الخلفيّات الحقيقيّة التي تحكّمت في التّلاعب بسوق الأسهم والسّندات، ومن جهة ثانية لتفسير ذلك التّوجّه النّهم إلى الاستهلاك والاقتراض سواء بالنّسبة للدّول أو المؤسّسات أو الأفراد، ففي ظلّ وضع اقتصاديّ غير متكافئ بسبب انعدام المرجعيّة الأخلاقيّة في النّظام العالميّ وجدت الدّول (الكبرى) ما يبرّر سلوكها، ويشجّعها على أن تجعل من قدرتها العسكريّة وتفوّقها النّوعيّ في المجالات العلميّة والميادين التّقنيّة وسيلة تؤهّلها لأن تتبوّأ مقعد الصّدارة في استراتيجية السّيطرة. فمسائلة الأفكار السّائدة والتّصدّي على نحو رصين لما يضعف المناحي الرّوحيّة ويغلّب بشكل مضطرد المناحي المادّيّة والمظاهر الفردانيّة في الحياة الاجتماعيّة للمجتمعات البشريّة، هي في الواقع ضرورة من ضرورات الفعّاليّة الفكريّة التي تعرّي الزّيف وتكشف الحقائق لتذكي بذلك الرّغبة في التّعايش المؤسّس على الاعتراف والتّعارف بين جميع الشّعوب والثّقافات، وتدعم الأصوات المطالبة بالعدالة وباحترام الأخوّة الإنسانيّة وتعزّز صيغ التّفاعل الإيجابيّ بين الحضارات فتنمّي فرص السّلام العادل وتعيد السّكينة إلى واقع النّاس، وتحرّض على الأخذ بكلّ ما يمكن أن يُقِيم الحياة على المنهج الرّبّانيّ الذي يريد الله للبشريّة أن تسير عليه إلى يوم القيامة. فالثّورة العلميّة والتّقنيّة التي يشهدها العالم اليوم، تثير تناقضاتها ومنجزاتها، احتمالاتها ومضاعفاتها الاجتماعيّة والبيئية المذهلة تساؤلات عميقة وملحّة عن معنى الحياة، معنى التّاريخ، عن الإنسان وعلاقته بالبيئة والمجتمع، عن الحرّية وصلتها بالمسئولية، وعن مدى قدرة البشريّة على فهم نفسها ونقد ما يحكمها من علاقات وبالتّالي على مواجهة ما تفضي إليه من نتائج قد تدمّر أحيانا كثيرة تلك القيم النّاظمة للوجود، وذلك التّوازن الذي يكتنف هذا الوجود ويمكّنه من الاستمرار. ولا شكّ أنّ الصّيغ المستحدثة لتغليف الاستغلال تكرّس خللا فظيعا يستدعي الارتكاس إلى \"قانون الأدغال\" (La Loi de la jungle) وينشئ مجتمعا دوليّا يبتعد بالاستناد إلى علاقات القوّة عن قيم الحقّ والعدل والصّواب، فالقضيّة إذن هي قضيّة ما يفرض (الأنموذج الغربي) للنّموّ والتّطوّر من إشكالات باعتبار ما يؤسّسه من نفي وإقصاء واستفراد بالخيرات وما يؤسّس له من \"ثقافة\" تميل إلى الاستهلاك والتّشجيع على الإنفاق والمبالغة في تبذير الثّروات بشكل يدمّر المحيط الطّبيعيّ والمجال الاجتماعيّ. إنّه مُنْتَج (حضارة) مريضة بتفاقم نموّها المادّيّ وباستفحال تخلّفها الأخلاقيّ والعقديّ وبعدم قدرتها على اقتراح وتحقيق غايات إنسانيّة مُنْتَجٌ تجري مأسسته مع ما يعانيه إسناده الأخلاقيّ من وهن ليتواصل مع ذلك تعميمه بالرّشوة حينا وبالإكراه أحيانا كثيرة عبر قنوات العولمة وأجهزتها! وقد لا يسعف في الرّدّ على هذا الموقف التّحجّج بالدّفاع عن \"الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان\" لأنّ الواقع التّاريخيّ يؤكّد أداتيّة هذا الخطاب وتعامله الانتقائيّ الحريص على مصالح المنظومة الاستكباريّة التي توظّف شعار (الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان) في الوقت والمحلّ المناسبين لتغطيّة تدخلّها في العديد من الدّول والمناطق سواء تحت سقف (القرارات الأمميّة) أو خارجه، بل تستعمل كلّ ثقلها المادّيّ ونفوذها السّياسيّ لانتهاك ذلك الشّعار عينه عندما يتطلّب الأمر حماية الصّهيونيّة والاحتلال من أيّة مقاومة محلّّيّة أو إدانة دوليّة! فالوقائع على أرض فلسطينوأفغانستان والعراق تؤكّد هذا السلوك العجيب الذي لا تشعر معه ((القوى العظمى)) بأيّ حرج عندما تبديه حصرا بهذا الخصوص، فهو من الكثرة والتّردّد بما يكفي لاستنفار الانتباه إلى طبيعة السّياق الذي يمكن أن تستعمل فيه شعار (الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان) لبلوغ أهدافها، ويدفع إلى مقارنة الخطاب بالممارسة ليجعل التّمييز بين الأمرين ممّا تقتضيه الضرورة ويتطلّبه الوعي بمرجعيّة (حقوق الإنسان) التي ما انفكّت تستثمر الخلفيّة السّياسيّة لتعميم منظورها الفلسفيّ اللّيبراليّ الذي يقوم على تصوّر خاصّ للوجود وأنماط السّلوك ولو بالقسر دون مراعاة ما للشّعوب المغايرة من إرث ثقافيّ وخصوصيّة حضاريّة! فصيانة تاريخ الأمّة الإسلاميّة وتراثها الحضاريّ، وحماية مستقبلها، وتنمية مواردها وطاقاتها، وتدبير ثرواتها بما يخدم مصالحها ويرقّي أساليب ومستوى عيش أبنائها ويحدّ من استنزاف خيراتها وهجرة مواردها البشريّة المؤهّلة مطلب ملحّ تستشعر القوى الحيّة زخمه التّاريخيّ على امتداد العالم الإسلاميّ وتنوّع ربوعه الجغرافيّة وخريطته العرقيّة والطّائفيّة بعد أن امتلأت البنوك الغربيّة بوادائع ماليّة مستنزفة من ثرواتها، وبعد أن وفّرت الاستثمارات الخليجيّة ما يتجاوز نسبة 27% من المنتج الدّاخليّ الخامّ للاقتصاد الأمريكيّ في وقت تعاني فيه دول عربيّة وإسلاميّة التّخلّف والتّبعيّة والفقر والمديونيّة الخارجيّة، وبعد أن استفادت الجامعات ومراكز الأبحاث الأوروبّيّة والأمريكيّة المتخصّصة من كفاءات أبناء الشّعوب المسلمة التي أصبحت مجرّد أسواق مفتوحة أمام الأموال الأجنبيّة والشّركات متعدّدة الجنسيّة بينما ارتفع مستوى الحمائيّة ضدّ الشّركات الإسلاميّة عموما والعربيّة تحديدا بدعوى (الأمن القوميّ)، وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى صفقة الموانئ التي أبرزت للعيان أنّ للعولمة مسارا في اتّجاه واحد ووحيد، وأزاحت ستار الوهم عن تعامل العقل السّياسيّ الغربيّ مع مقولات ومفاهيم ما فتئ يرتّلها ترتيلا في كلّ مناسبة مثل (السّوق الحرّة، الحرّيّة والدّيمقراطيّة). فباعتبار ما تمّت الإشارة إليه، وبالإحالة إلى أنّ البنك المركزيّ لأكبر (قوّة اقتصاديّة) في العالم \"قطاع خاصّ\" ندرك ما تحتاج إليه الأمّة من إعادة للنّظر في سلّم الأوليّات لحماية مستقبل غامض ومهدّد بنظام دوليّ متوحّش تسوده الأنانيّة ويأكل فيه القويّ الضّعيف، لأنّ (الثّقافة التي يتضمّنها النّموذج الغربيّ ويبشّر بها لا يمكن أن تفضي من خلال أشكالها الحداثيّة وما بعد الحداثيّة إلاّ إلى انخلاع الإنسان وتفكيك المجتمع، فما فقده الإنسان الغربيّ في التّجربة المعاصرة من وحدة وتوازن في علاقاته متعدّدة المسارات: مع الطّبيعة، مع المجتمع، ومع الله، يؤكّد ذلك! فقد انفصل عن التّعامل السّويّ مع الطّبيعة التي اعتقد أنّه سيّدها ومالكها فراح يخلّ بتوازنها، ويستنزف بإفراط ثرواتها عبر وسائل وتقنيّات منحته القدرة على التّدمير والإضرار بالحيوات التي تعايشت على ظهر الأرض لآلاف السّنين! وانفصل عن الحضور السّويّ في المجتمع الإنسانيّ بتفاقم الفردانيّة وبالأنانيّة التي يجري تغليفها بما يُزْعَم أنّه منافسة مهما جرت على حساب القيم وكانت بالغشّ والاحتيال، فالسّعي الدّءوب للأفراد وراء إشباع الحاجات المادّيّة للجسد دفع الكثيرين إلى المعاناة من الجشع ومن الغربة واللامبالاة لدرجة رفعت من معدّل الجريمة وباتت معها الظّواهر الشّاذّة (كالزّواج المثليّ، البيوت الزّجاجيّة، القتل الرّحيم والتّخلّي عن أقرب الأقرباء في الملاجئ الخيريّة أو في دور العجزة) مؤشّرا واضحا ودليلا ملموسا على فقدان الدّفء في الرّوابط والعلاقات التي مالت بدرجة كبيرة نحو الانفراط! وانفصل بالتّالي عن الله ثمّ عن عقيدة وحقيقة التّوحيد بابتعاد المسيحيّة عن نقائها الأوّل، بعد أن تمّت قولبتها في صيغ شركيّة إغريقيّة ورومانيّة على يد مجمع نيقية الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين، فبتخلّيها عن أساسها العقديّ وعن أعظم مقاصدها المتمثّلة في الثّورة على الظّلم والظّالمين ومناهضة التّحريف والمحرّفين وفي محاربة النّفعيّين الذين لا يتورّعون عن المتاجرة بالدّين، ثمّ بتخلّفها عن البراء من الطّغاة والمجرمين وعن مقاومة الإغراءات المادّيّة والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة العدل والحقيقة والوقوف بثبات إلى جانب المستضعفين وهداية الحيارى وإعانة التّائبين على لزوم الطّريق السّويّ والاستقامة على أمر ربّ العالمين، غرقت بهذا التّخلّي عن المنطلق وبهذا التّخلّف عن المقصد في لاهوت مشبع برطانة الفلسفة اليونانيّة ومتخم بتراثها الغريب كلّ الغرابة عن الوحي المسيحيّ الأساس، ثمّ انهزمت في مرحلة لاحقة في مواجهة علمانيّة (متعالمة) تدّعي الإجابة عن جميع مشاكل الحياة)! لقد كتب ديفيد كورتن مستشار المؤسّسة الدّوليّة للتّنميّة ومستشار مؤسّسة فورد، برؤية استشرافيّة يستعرض من خلالها الظّروف التي شهدتها نهاية القرن المنصرم مشيرا إلى أنّ العالم قد استهلّ الألفيّة الثّالثة وهو يعاني أزمة شرسة في علاقة الشّمال بالجنوب على المستوى الاقتصاديّ، وتدهورا مضطردا في النّظام البيئيّ، وتوتّرا عنيفا في النّظم الاجتماعيّة، منبّها الاستراتيجيّين إلى خطورة هذه الأزمة المتداخلة: الفقر من جهة، والضّغوط البيئيّة من جهة ثانيّة، ثمّ العنف المجتمعيّ من جهة ثالثة، ومحذّرا بقوّة من تهديدها المتعاظم في لعبة الصّراع خصوصا وأنّ اللاعبين في هذا الفضاء الجديد للعلاقات الدّوليّة هم كلّ البشر، ما يلغي المفهوم التّقليديّ للأمن القوميّ، ويثير لدى السّواد الأعظم من النّاس فضلا عن النّخب والقيادات السّياسيّة أسئلة تتناول مصير العالم والبشريّة وتتطلّب أجوبة عمليّة أكثر عمقا وشمولا، كالتّساؤل مثلا عن: إمكانيّة التّعايش في عالم الفوارق الاقتصاديّة الشّديدة حيث يوسّع الظّلم الاجتماعيّ باضطراد الهوّة بين الأغنياء والفقراء! إمكانيّة التّنميّة كجوهر حيويّ يعيد التّكوين النّوعيّ لكلّ المؤسّسات الفاعلة والتكنولوجيات المستخدمة، وللقيم والسّلوك بما يلائم الحقائق البيئيّة والاجتماعيّة ويُسْنِد دور العدالة باعتماد مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة التّناسبيّة الذي يمكّن الجميع من وسائل وفرص الوصول إلى الحد الأدنى من المشاركة ومن الاستفادة من شروط الحياة الكريمة، ويؤازر دور الاستدامة كممارسة تنمويّة تأخذ في الاعتبار حقوق الأجيال القادمة في النّظام البيئيّ وفي المصادر الطّبيعيّة، كما يعزّز دور التّعاون والتّكامل بين خبرات ومبادرات كلّ الأطراف في الأسرة الدّوليّة والمجتمعات المحلّيّة في مناخ علميّ وسياسيّ مفتوح يمكّن من تداول الأفكار والتّجارب، ومن تنقّل الأفراد ورؤوس الأموال، ويمنع اللجوء إلى الإقصاء القهريّ ومنه إلى الصّراع الاجتماعيّ؟! إمكانيّة الاشتراك في صنع خيارات المستقبل لجعل القرن الجديد بداية سلسة للتقدّم على جميع المستويات المادّية منها والأخلاقيّة، ونهاية سعيدة لفترة العنف وصراع البقاء بين النّظم والأيديولوجيّات التي أنهكت الشّعوب والمجتمعات، وبدّدت الطّاقات والثّروات؟! كما كتبت كاترين ميك أستاذة الدّراسات الأفروأمريكيّة بجامعة جورجيا عن الاتّجاهات العنصريّة السّائدة في بداية القرن الواحد والعشرين والمتعلّقة تحديدا بترابط مفهوم النّوع ومفهوم الطّبقة بمنظور الهيمنة وثقافة العولمة، مبيّنة أنّ التّوجّه الجديد نحو المجال الحيويّ أصبح هو المعيار في الأمثلة العديدة التي أكّد من خلالها الغرب عبر ما يمتلك من تقنيّة متقدّمة وقوّة عسكريّة ضاربة تبنّيه لفكرة الحقّ في استغلال الثّروات والسّيطرة على منابعها، ومحذّرة من أنّه إذا لم تكن هناك أيّ قيمة للبشر في هذا التّوجّه فلن تحظى البيئة بأيّ اعتبار خصوصا وأنّ الفئات المحظوظة في الغرب ترفض كلّ مساس بطريقتها في الاستهلاك مهما تعارضت مع حقوق الفقراء في كلّ العالم ومنبّهة إلى أنّ عمى البصيرة والعنصريّة البغيضة والتّمايز الطّبقيّ الواضح في الحياة على النّمط الغربيّ عموما والنّمط الأمريكيّ على وجه الخصوص، كلّ ذلك لن يساعد على تخفيف التّوتّر وإلغاء العنف بل سيزيد منه ويرفع من وثيرته! 3 صعود قوى إقليميّة وظهور لاعبين جدد: وممّا لا شكّ فيه أنّ شيطنة العدوّ بالتّركيز فقط على ((نيّته السّيّئة))، واعتمادا على رَوْحَنَة القناعة المتعصّبة والعنيفة الدّاعية إلى إلغائه بإسناد عقديّ يبعد القلق الأخلاقيّ كإعلان (الحرب على الإرهاب)، وترتيب الذّرائع والفرص التي تسمح بتدميره طبقا لمتساويّة كارل سميث التي تقول: ((موتك حياتي))، لمن شأنها أن ترفع من مستوى الضّغط وحالة الاحتقان، وتزيد الأمر صعوبة بتوسيع بؤر التّوتّر وتصعيد حالات الانفجار، لهذا يجب النّظر بعمق ومسئوليّة إلى الأسباب الحقيقيّة المحرّضة على الفتن والاضطراب من أجل بناء تصوّر يضع حلاّ عادلا شاملا دائما وفعّالا ينهي الأزمة القائمة التي ينبغي أن ينطلق علاجها بإقرار الحقوق الثّابتة لكلّ الشّعوب المظلومة في العالم ومنها حقوق العراقيّين والأفغان، وحقوق الشّعب الفلسطينيّ اعتبارا لما تتمتّع به قضيّة الشّرق الأوسط من مركزيّة في الاستقرار والسّلم العالميّين، وذلك بإغلاق القواعد العسكريّة الأجنبيّة التي انتشرت كالفطر في دول المنطقة وترحيل جيوش الاحتلال عنها، وبردع الإرهاب الإسرائيليّ المسلّط يوميّا على المدنيّين والعزّل، ثمّ بالكفّ عن إعطاء الأولويّة المطلقة للمسائل الاقتصاديّة على حساب المسائل السّياسيّة والمتعلّقة تحديدا بقضيّة القدس، وقضيّة اللاّجئين، وبقضايا الحدود والمياه والمستوطنات التي أخذت وثيرة بنائها تتصاعد في الضّفّة الغربيّة على نحو يهدّد بتهويد المنطقة وبفرض سياسة الأمر الواقع، وعلى هذا الأساس يقتضي الواجب تقدير الفروق الجوهريّة بين حالتين متمايزتين: بين الأثرياء الذين يوجّهون أنظمة الاستكبار إلى خدمة أغراضهم من وراء متاريس جماعات الضّغط ومجموعات \"التّفكير\" والمحافل الماسونيّة التي لا يُعْرَف شيء لا عن أعضائها ولا عن أنشطتها وأرصدتها الماليّة، والذين بحكم كنز الأموال والسّيطرة على منابع الثرّوة ومواقع السّلطة يوظفون الاختلال الملحوظ على صعيد العلاقات القائمة بين عناصر المجتمع الدّوليّ لتعزيز مواقعهم وإحاطة أنماطهم الحياتيّة بالمزيد من الضّمانات، تلك الفوضى التي تنجم في الواقع عن التّغييب المتعمّد لمعايير العدالة فيما يجري من تبادلات اقتصاديّة وثقافيّة وغيرها، وعن التّعطيل المقصود لآليات النّظام (الدّيمقراطيّ) التي لا يمكن أن تستقيم كما يزعم مثقّفو الغرب أنفسهم إلاّ بإشراك الشّعوب كلّ الشّعوب في صياغة القرار عبر المؤسّسات التّمثيليّة ومؤسّسات المجتمع الأهليّ والجمعيّات. وبين الشّعوب وقواها الحيّة التي تراهن على ما تحدث الكلمة الحرّة والمسئولة من تأثير خلاّق، وتعوّل على التّحسّن المضطرد لوعي أبنائها وعلى ما يقوم به عامل الزّمن من دور حاسم في فضح الزّيف وإطلاق التّناقض في المصالح بين رموز القوّة المستأسدة بما يعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسيّة ويهدم الأساس الأيديولوجيّ لهيمنة القطب الوحيد. فللشّعوب خيارات لا بدّ من مراعاتها لإنجاز النّقلة النّوعيّة المطلوبة لبناء نظام عالميّ جديد يقوم شقّه المبدئيّ على احترام التعدّديّة والاختلاف وشقّه العمليّ على العدالة والمشاركة والتّكافؤ والتّعاون متعدّد المجالات بين جميع العناصر والفاعليّن لاسيما وأنّ الظّرفيّة السّائدة تستدعي بناء تكتّل سياسيّ على الصّعيد الدّوليّ لإنهاء احتكار (القوى الكبرى) للقرار الاقتصاديّ، والاشتغال على الحسم مع سياسات وعقليّات أفضت إلى الأزمة: 1 بسبب فرض الدّولار أساسا للتّعامل الماليّ ومحاربة السّعي إلى توزيع مراكز القوّة في الاقتصاد العالميّ باعتماد سلّة عملات مختلفة 2 بسبب المبالغة في الاستهلاك والإنفاق، وفي الإقراض والاقتراض، والتّفريط بالرّقابة على الأبناك والشّركات الماليّة والبورصات 3 بسبب ارتفاع المديونيّة نتيجة خوض الحروب الخاسرة وعدم القدرة على تحمّل الموازنة العامّة للإنفاق على التّواجد العسكريّ بالخارج، وتصاعد العجز في الميزان التّجاريّ النّاجم عن المنافسة الآسيويّة وعن تقلّب أحوال سعر صرف الدّولار 4 بسبب تقهقر الإنتاج الصّناعيّ نتيجة التّوجّه المفرط نحو الإنتاج الخدميّ الذي تضاعف في السّنين الأخيرة ب: 123 مرّة على حساب قطاع الإنتاج الحقيقيّ، وبسبب الفضائح الماليّة التي تورّطت فيها العديد من الأبناك والشّركات والتي ذهب ضحيّتها العمّال والمستخدمون وأصحاب الودائع الماليّة ومنهم الأثرياء العرب الذين فقدوا نتيجة ذلك كلّه ما يزيد عن 115 مليار دولار 5 بسبب (التّدهور الدّيمقراطيّ) النّاجم عن تضخيم الهاجس الأمنيّ الذي حظي بالأولويّة المطلقة في السّياسات الدّاخليّة حيث لم يعد هناك ما يميّز في مجال الحرّيات العامّة بين (أسوء الدّيكتاتوريّات) وبين (أعرق الّديمقراطياّت) التي أخذت تستهلك رصيدها الاجتماعيّ بوثيرة لا تقلّ سوءا عن استهلاكها للأرصدة الاقتصاديّة والبيئيّة. 4 تغيّرات دوليّة بنيويّة تفرض مراجعات شاملة وعميقة بأوّليّات مناسبة: لقد أرسى (منطق) الهيمنة بنى سياسيّة واقتصاديّة خدمت إلى حدّ كبير مطامع (Le Capitalism Féroce et Inapprivoisé) الرّأسماليّة الضّارية ولبّت جشعها المتعاظم الذي إفضى إلى ما يتقلّب فيه العالم من كوارث بيئيّة واجتماعيّة بالغة الخطورة تدعو كلّ العقلاء والأحرار إلى مراجعة المواقف وتنسيق الجهود للنّضال من أجل أن تشمل العدالة كلّ الشّعوب، ومن أجل أن تُحْتَرَم كرامةُ النّاس التي لا يمكن أن ينظر إلى احترامها إلاّ كحدّ يفصل بين التّحضّر والهمجيّة، ثمّ لخدمة أهداف مشتركة برؤية استشرافيّة تلتزم القضايا الكبرى والمصيريّة للإنسانيّة لترشيد مشاركة إيجابيّة في صنع المستقبل الواعد وتحقيق الأمن والاستقرار من منطلق الإيمان الرّاسخ بأنّ الذين يصنعون بإرادتهم الواعية أقدارهم هم الذين يصنعون التّاريخ، وهم وحدهم الذين يخلّدهم التّاريخ الذي يضرب صفحا عمّن لا إرادة لهم لأنّهم إنّما هم سائمة سرعان ما يطويها عالم النّسيان، ومن منطلق اليقين بأهمّية الحقيقة كمسئوليّة علميّة والتزام أخلاقيّ بنصرة قيم العدل والحقّ والصّواب لأجل توسيع دائرة التّواصل الإيجابيّ والتّفاعل القاعديّ بين الثّقافات والحضارات وبين الشّعوب والمؤسّسات. فالتّساؤل عمّا توليه بعض المؤسّسات ذات الطّابع الدّوليّ للإنسان من قيمة ومنزلة في مواقفها وأنشطتها الحسّاسة يفرض نفسه كلّما عمّت الفوضى السّياسيّة، حيث يصبح في حكم الواجب توجيه كلّ إرادة خيّرة إلى استعادة ما تستحقّه القيم الرّفيعة من مكانة لائقة تؤنسن الوجود وتساعد بفعّالية على إنقاذ ما يجب إنقاذه واستدراك ما ينبغي استدراكه، خصوصا وأنّ منظّمة تنصّب نفسها لخدمة التّنوّع والاختلاف كالمنظّمة العالميّة للتّربيّة والثّقافة والعلوم تلوذ بالصّمت كلّما تعلّق الأمر بالإسلام والمسلمين، فهي عندما أقامت الدّنيا ولم تُقْعدها تباكيا على تدمير تماثيل باميان بالرّغم من أنّها ليست مسجّلة في قائمة الآثار المعتبرة تراثا عالميّا لم تحرّك ساكنا إزاء ما قام به السّيخ من تدمير لأهمّ المعالم الأثريّة الإسلاميّة بكشمير، ولا إزاء ما قام به الصّرب والكروات من تدمير لمساجد البوسنة، ولم تأخذ أيّ إجراء عمليّ لردع ما يقوم به الصّهاينة من بناء لجدار الفصل العنصريّ وإقامة الحواجز بجميع أراضي فلسطين، ومن نبش للقبور وتخريب للمنشآت العمرانيّة وطمس للمعالم الأثريّة والرّموز الإسلاميّة خصوصا بمدينة القدس التي تجري الآن الآن على قدم وساق عمليّة تهويدها ومحاولة إجلاء أهلها عنها، ولم تبذل أيّ مجهود لفضح ما ترتّب عن سياسة التّمييز والمضايقات اليوميّة من الحرمان المقصود للأطفال الفلسطينيّين من حقّ التّمدرس، ولم تبد أيّ موقف رسميّ أو إجراء عمليّ ضدّ الاحتلال الأمريكيّ الذي أعاد إلى الأذهان والعيان بربريّة (La Barbarie) هولاكو بتعمّد السّماح للجنود بانتهاك مواقع العبادة واعتقال المصلّين والإجهاز على الجرحى المعتصمين بها، وبتعمّد الاعتداء على قدسيّة المصحف الشّريف بدوسه بالأقدام ازدراء وتمزيقه ورسم الصّليب على غلافه نكاية وتدنيسه في أماكن الخلاء بمعتقلات الظّلم والعدوان وفي مقدّمها معتقل غوانتانامو سيّء الذّكر، ثمّ بتوفير الغطاء العسكريّ للجرائم التي وجّهت ضدّ التّراث الإنسانيّ بالعراق، فالمعالجة الانتقائيّة للأحداث المتسارعة والقضايا المتنوّعة في هذا الفضاء المشْرَع على الاستلاب (Aliénation) دليل قويّ يؤكّد تورّط الغرب في ممارسة العنف الثّقافيّ والإعلاميّ، ويضعه في مواجهة مفتوحة مع التّساؤل عمّا فَضُلَ في مجتمعاته من معاني الحرّية غير تمثال جامد يولّ وجهه شطر مغرب الشّمس مشيرا إلى أفول القيم الرّفيعة وحلول القيم المتحوّلة، والتّساؤل عمّا بقي لديه من رصيد تنويريّ في مجال الدّفاع عن الحقّ في الاختلاف الذي يوسّع نطاق الممارسة الفكريّة القائمة على المراجعة النّقديّة لجميع ما عرفته تلك المجتمعات عبر الأطوار المتعاقبة من مظالم اجتماعيّة وانحرافات أخلاقيّة ومن عنصريّة مقيتة سلخت الضّحايا من مقوّمات الاستقلاليّة في التّفكير وسلبتهم الأصالة في التّعبير عن الرّأي وعمّا يميّز شخصيّاتهم المستقلّة. فالانطباع الذي يستولي على المرء عند تأمّل موقع الأثرياء وأصحاب المصالح الفئويّة في الأنظمة \"اللّيبراليّة\" لا يشجّع عاقلا على الاقتناع بديمقراطيّة الغرب التي لم تعد تبدو من النّاحية العمليّة إلاّ مجرّد شعار أيديولوجيّ أداتيّ يشرعن العدوان ولا ينضبط عموما لمعايير وأساسيّات الحكم العادل، وذلك بسبب ما تسمح به لأولئك المترفين من استئثار بالقوّة الفعليّة في صياغة وتدبير القرار السّياسيّ من وراء ستار عبر محافل الضّغط وتجمّعات المصالح، ومن نفوذ رهيب على الحكّام والسّاسة والمثقّفين والصّحافيّين عبر تمويل الحملات الانتخابيّة والاستثمار في مجالات الإعلام والصّحافة والإنتاج الثّقافيّ والفنّيّ ما يجعل مَثَلَهم من هذه النّاحية في تلك الصّورة كمَثَل مربّي الكلاب يطلقها كلّما حلّ وقت الصّيد في شهر شباط لتتقدّم الرّكب وتبحث له عن صيد قد لا تنال منه سوى الفضلات، ويجعل مَثَلَ أولئك السّاسة والمثقّفين النّفعيّين كمَثَل الكلاب التي تمشي أمام سيّدها وتلتفت إلى الوراء في كلّ مرّة لتستطلع وِجْهَتَه وتأخذ الأوامر والتّعليمات، والتي تجسّد (بالتّنافس) في الكرنافالات الانتخابيّة ما كان يجري في ألعاب روما القديمة (Gladiatorial game) من قتال دنيء يعبّر عن الرّغبة المتحرّرة من قيد العقل والخلق، المتحفّزة إلى تصفيّة المنافس أو إرغامه على إنهاء المبارزة والرّضا بقضاء أربه الغريزيّ بعد الذي هو أقوى منه. وفي هكذا صورة مكتملة العناصر المشهديّة نستطيع أن نلمس الدّور الحاسم الذي يقوم به الأثرياء في واقع تلك النّظم، فهم من يحتضن هذا المرشّح أو ذاك، وهم من يزكّيه ويموّل حملته الانتخابيّة ويسخّر الآلة الدّعائيّة لتصنيع شخصيته السّياسيّة وتلميع سمعته الاجتماعيّة، وهم من يدعمه إلى أن يصل إلى سدّة الحكم ليؤدّي ما لهم ما عليه من دَيْنٍ، فَيُطْلِق أيْدِيَهم في توجيه سياسته نحو أهدافهم بالدّاخل والخارج، وإن أبدى أيّة ممانعة مهما كانت شكليّة، أو أيّ تردّد مهما كان بسيطا في تلبية رغباتهم التي ليست لها حدود، سخّروا نفس الآلة التي صنعته لتدميره والقضاء على نجوميّته سواء من النّاحية الاجتماعيّة أو السّياسيّة لأنّ تلك الآلة التي يتحكّمون فيها بجدارة متأهّبة دوما للتّأثير على الحشود، تترقّب بصرف النّظر عن الحقيقة والعدالة والمنطق السّويّ فريسة تلاحقها إلى أن تختفي أو تستقيل. إذن فما يجري خلف الكواليس من انقلاب للأدوار بين التّابع والمتبوع، أي بين من يتصدّر واجهة النّظام السّياسيّ في الغرب وبين من يحكم بالفعل يدفع إلى التّحفّظ بل إلى الاعتراض على فلسفة الدّيمقراطيّة وعلى أساسها الذّهنيّ العقديّ، وليس على مقاصدها وآليّاتها التي يمكن تكييفها مع ما لكلّ أمّة من موروث ثقافيّ ومن خصوصيّة حضاريّة، ويضع علامة استفهام كبيرة حول الخطاب الرّسميّ الذي تجنّد لخدمة سياسة: (من ليس معي فهو ضدّي)، وأخذ يضفي عليها قيمة أيديولوجيّة مضافة ويدعمها من غير تبصّر بالعواقب بشكل يُفْقِد كلّ ثقة في النُّخب التي لم تُبلوِر إلى الآن أيّ رؤى سياسيّة منصفة لحلّ الأزمة بعدما أخذ العدوان على المستضعفين أبعادا سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة خطيرة تحيل بأشكالها المتعصّبة ومضامينها التّوسّعيّة إلى الأهمّية الكبرى لقراءة التّاريخ المعاصر قراءة متأنّية وممحّصة من أجل استنتاج الخلاصة اللازمة لفهم الواقع والتّعامل معه، فالتّشابه القويّ بين قيام إسرائيل من جهة وبين قيام الولايات المتّحدة ونظام الفصل العنصريّ من جهة ثانيّة يفسّر ذلك التّحالف التّاريخيّ الذي انعقد بشكل منطقيّ بين هذه الكيانات، حيث سيجد كلّ باحث منصف أنّ هذا التّماثل التّناظريّ يستند إلى أسطورة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وينهل من المرجعيّة الإحيائيّة التي تعتمد (تقاليد الأحبار) الواردة في التّلمود وتعاليم الكنائس لسوغ ما أقدمت عليه من مجازر تضفي على التّطهير العرقيّ مسحة دينيّة (مقدّسة)، كما سينتهي إلى قناعة مفادها: أنّ سقوط نظام الفصل العنصريّ الذي عاين العالم انهياره بوثيرة أسرع من قيامه بفضل إصرار المستضعفين وصمود مقاومتهم، يعتبر مؤشّرا قويّا على النّهاية المحتومة لمشاريع السّيطرة العنصريّة مهما تأجّلت، ودليلا ملموسا يؤكّد أن لا بديل عن المقاومة التي تقرّها المادّة الأولى من البروتوكول الإضافيّ لمعاهدة جنيف، ويحمي المبدأ الإنسانيّ للقانون الدّوليّ شرعية إعلانها ضدّ الأنظمة العنصريّة وضدّ الاحتلال والعدوان الخارجيّ سواء على الواجهة السّياسيّة والاقتصاديّة أو الثّقافيّة والعلميّة أو الإعلاميّة والعسكريّة، لأنّ التّخلّي عن المقاومة والتّضحيّة بمشروع الأمّة الجهاديّ تخلّ عن الحياة واستسلام للمعتدي الغاصب، خصوصا عندما يبطل المنطق أحادي الرّؤية أنانيّ النّزعة بدافع القوّة العمياء المبادئ العامّة وقواعد القانون والشّرعيّة موهما بالاستجابة للمستجدّات التّاريخيّة وبالتّكيّف مع المتغيّرات الاجتماعيّة والمناخ السّياسيّ الطّارئ، فينتهك المساطر القانونيّة ويتخطّى الإجماع الدّوليّ ليبثّ دون مراعاة للوازع الأخلاقيّ صور القتل والبربريّة من صحاري أفريقيا إلى جبال أفغانستان، ومن أراضي الضّفّة والقطاع إلى العراق، وليدرج من شاء كيفما شاء في حكم الإرهاب مستغلاّ في ذلك أيّ عمل معزول قد يلحق الضّرر بعدد محدود من الأبرياء في الوقت الذي يضفي فيه صفة البطولة على دول عرفت بجرائم الإبادة العنصريّة والقتل الجماعيّ لشعوب بالكامل، ولا يريد هذا المنطق في الواقع سوى أن يغزو عقول العالمين ويلوّث أرواحهم، ويفقدهم إنسانيّتهم واحترامهم لذواتهم كما أشارت إلى ذلك السّيّدة ريتا لازار عندما أُخْبِرَت بوفاة أخيها في أحداث نيويورك وهو يحاول بشهامة إنقاذ صديقه المعاق من تحت الأنقاض بالقول: (أدركت على الفور أنّ بلادي ستستعمل قتل أخي لقتل عدد كبير من الأبرياء في بلاد أخرى). وفي سياق التّلميح إلى التّذبذب الذي قد يعتري مواقف المنظّمات الدّوليّة ومنها منظّمة اليونسكو إزاء ما يعانيه الإنسان المسلم نتيجة العنف الثّقافيّ في أعرق ديمقراطيّات الغرب التي تزايد في سوق الأيديولوجيا بخطاب يدافع عن (الحرّية والحقّ في الاختلاف)، لا بدّ من التّذكير بظواهر تستحقّ أن تُدْرس بعمق وجراءة سأقتصر منها على ما يلي: 1 ما تتعمّد الخرائط الرّسميّة وبعض الموسوعات الثّقافيّة تقديمه للقارئ الغربيّ عن المنطقة الإسلاميّة وتاريخ العرب والمسلمين من معلومات مغلوطة بهدف الإساءة وحجب الحقيقة العلميّة والموضوعيّة، ومن انطباعات تُنَفِّر من ديانة الإسلام وحضارته. 2 ما تروّجه وسائل الإعلام عن الإسلام والمسلمين في الغرب عامّة وفي الولايات المتّحدة على الخصوص من صور مهينة ومحرّضة على الكراهيّة، وأشير هنا إلى الدّعاية الملتهبة التي حظيت بها الرّسوم المسيئة لرسول الإسلام كما حظيت بها أعمال بعض المتسرّبين من ثقافتهم الأصليّة الذين اعتمدوا في كتاباتهم على خلفيّة دعائيّة سوقيّة (Marketing) ورخيصة لكي يقدّموا للغرب ما يفضّل أن يرى من المشاهد الغرائبيّة المشوّهة للواقع والحقيقة الموضوعيّة، التّائهة بأسلوبها الفولكلوريّ في غياهب البعد عن الرّوح الأدبيّة المفعمة بالصّدق الفنّيّ التي تعكس مناهجها الملتزمة بأدوات البحث العلميّ وبما توصّلت إليه المقاربات العلميّة الرّصينة من نتائج محترمة في المجالات النّفسيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة قيما أصيلة تضيء جانبا من الحقيقة التي تساعد على قراءة الواقع بأبعاده المتعدّدة، وتوجّه عبر ما تقترح من بدائل إلى التّغيير والأخذ بالأفضل. كما أنبّه في سياق الحديث عن الإعلام والإنتاج الثّقافيّ إلى ما نتج عن الارتباط الاستراتيجيّ بين مؤسّسة هوليود وبين إدارة الدّفاع الأمريكيّة من أعمال سينمائيّة وأشرطة وثائقيّة تسيء إلى الإسلام دينا وحضارة وتحرّض بخلفيّة مذهبيّة أصوليّة على كراهيّة العرب والمسلمين، مشيرا عن سبيل المثال إلى الشّريط (الملحميّ) (Armageddon) وإلى العديد من الأشرطة (التّسجيليّة والوثائقيّة) عن حرب الخليج واحتلال أفغانستان والعراق التي شوّهت الوقائع وعتّمت عن الحقيقة بشكل مرآويّ يقلب المواقع والأحداث، ويصرف الاهتمام عمّا تفجّر حينها من تساؤل حول ما تسرّب إلى العلن من جرائم أثارت جدلا قانونيّا ونقاشا أخلاقيّا حقيقيّا حول أهداف عدوان عسكريّ أثبتت الوقائع التّاريخيّة افتقاره للعقيدة القتاليّة ولكلّ مبرّر قانونيّ أو غطاء سياسيّ. 3 ما تعانيه الأقلّيات في الغرب من عنف ثقافيّ بسبب التّعصّب للعرق أو اللّون أو العقيدة أو المذهب الدّينيّ والرّأي السّياسيّ تتراوح أعراضه في الحياة الاجتماعيّة بين المضايقة اليوميّة، وبين استثارة العاطفة القوميّة ورفض مظاهر الاختلاف التي قد تأخذ بعدا مؤسّسيّا في برامج الأحزاب والجمعيّات وغيرها 5 لا بدّ من مراجعة الأسلوب والاستراتيجيّات: لم يعد ممكنا توهّم التّغيير بالاعتماد فقطّ على مراجعة التّكتيك الدّيبلوماسيّ في عالم استعلى فيه المترفون وعتوا عتوّا كبيرا بعد أن تناسل الخواء العقديّ والفراغ الأخلاقيّ في أنفسهم المريضة من حيث إنّ الخواء يلد الخواء، وبعد أن قادت الأنانيّة الطّغاة والمستكبرين إلى تكريس الرّشوة في العلاقات الدّوليّة باسم (المساعدة الإنسانيّة) تارة وباسم (الواقعيّة) تارة أخرى، ولم يعد بالإمكان القبول بإعلان العداء للإسلام بوصفه دينا سماويّا ينتمي للأسرة الإبراهيميّة من خلال التّنظير الفكريّ والدّعاية الإعلاميّة الملتهبة، وعبر تسخير ثُلّة من الانتهازيّين من ذوي الخلفيّات الفلسفيّة المستندة إلى (العقيدة النّيتشويّة)، والمرجعيّات الأيديولوجيّة اليمينيّة التي تعاني من خلل منهجيّ في فهم التّاريخ والتّعامل مع فلسفته، أو باستعمال تلامذتهم من المتسرّبين على نحو أنتج في مجال التّاريخ مفهوم (نهاية التّاريخ)، وفي مجال الحضارة مفهوم (صراع الحضارات)، وفي المجال العلائقيّ مفهوم (موت الإنسان)، فالتّعامل الانتقائيّ لهؤلاء (المجنّدين) مع المعطيات احالهم إلى مجرّد أدوات أيديولوجيّة تقوم بما يقوم به في العادة الكنّاسون من بحث في أكوام القمامة عن الأشياء القابلة لإعادة التّدوير، ما زاد المستكبرين إصرارا على اغتيال كلّ صوت شجاع يدين طغيانهم ويعتدّ في جرأته على التّصدّي لهم برصيده الأخلاقيّ وبما يستشعر من المسئوليّة أمام الله وإزاء الضّمير الإنسانيّ، ويزيد قلق الأحرار حول إمكانيّة العيش المشترك والتّفاعل الإيجابيّ بين سكّان القرية الكوكبيّة. فبالرّغم ممّا تتميّز به نصوص القرءان الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة بوصفها مصدرا رئيسا للتّشريع الإسلاميّ من تنبيه إلى أنّ الشّيطان هو العدوّ الحقيقيّ للإنسانيّة ومن دعوة إلى اجتناب عداوة الإنسان لأخيه وحضّ للمؤمنين بالإله الواحد على عداوته بنصّ الآية 60 من سورة يسن: (ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم)، ومع ما تميّزت به تلك النّصوص من دعوة إلى الأخوّة وما تضمّنته من توجيه يدعو إلى التّفاعل السّلميّ بروح إيجابيّة تأكيدا على حقيقة ربّانيّة مفادها أن لا تفاضل بين النّاس إلاّ على أساس العلم بالله والخشية منه والتّقرّب إليه بصالح الأعمال ممّا ينفع النّاس كلّ النّاس بنصّ الآية 13 من سورة الحجرات: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) ما تزال عمليّة التّضليل الإعلاميّ تقرع طبول الحرب تحت عناوين مختلفة على عدوّ افتراضيّ هو في الواقع كلّ المستضعفين لأنّها ليست في الحقيقة سوى مغامرة أيديولوجيّة تعبّر عن مصرع العقل الغربيّ على مذبح هوى الأثرياء، فالمعلوم يقينا أنّ مجرّد الاختلاف لا يسوّغ الحرب ولا يمكن أن يكون سببا للعدوان على المخالفين إذ لم يفعل الأنبياء ذلك ولم يأمروا أتباعهم بفعله، وهكذا هو تعليم الإسلام المستفاد من قوله تعالى في الآيتين 8 و9 من سورة الممتحنة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين، إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم، ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون)، ولعلّ الوحش المدمّر الذي يسكن الأنفس المنحرفة بابتعادها عن هداية الأنبياء إذا لم يُرَوّض بالحكمة الرّبّانيّة وبنور العقل ولم يُقاوم بالكلمة الطّيّبة والإرادة الخيّرة، وإذا انفلت من كلّ قيد قانونيّ وأخلاقيّ فإنّه سيقود حتما إلى المفاسد الكبرى والمهالك العظمى، وإلى خراب الحضارة الإنسانيّة كما أخبر بذلك المطهَّر عيسى بن مريم عليه وعلى أمّه السّلام عندما جاء بالبشارة وأخذ يحكي للنّاس قصصا تقرّبهم من معناها، إلاّ أنّ العزّة بالإثم كانت قد أخذت كثيرا منهم كما هو الحال اليوم عن الإصغاء لقصصه، ومنعتهم من الاستجابة لها فما كان منه عليه السّلام سوى أن بادرهم نصحا بقوله: (الحقّ أقول لكم: إن لم تصيروا كما الأطفال [أي في براءتهم وفي نقاء فطرتهم وبعدها عمّا يدنّسها من الآثام] فلن تدخلوا ملكوت الله)، لهذا فإنّنا نعتقد جازمين أنّ الجهل بحقيقة الإسلام أو التّعتيم المغرض على بيانه وهديه من قبل الإعلام الغربيّ المنحاز في عموم مواقفه خسارة كبرى للإنسانيّة، وقطعا لسبل التّواصل والتّفاعل بين الثّقافات المختلفة والحضارات المتنوّعة، وإعاقة للتّعاون وحسن الجوار بين الأمم والشّعوب، ونستغرب كيف تصرف المبالغ الخياليّة على عمليّات استكشاف البحار والأغوار والفضاء الخارجيّ بهدف البحث عن المصادر البديلة للطّاقة، وعن المواقع الحصينة الكفيلة بتحقيق أغراض السّيطرة على الكون وعلى النّاس، ولا تصرف إلاّ مبالغ زهيدة جدّا على استكشاف الإنسان نفسه تاريخا وحضارة، فكرا وثقافة! بل إنّنا نستغرب فعلا كيف أنّ البحوث التي أنجزت في هذا النّطاق تحت إشراف المعاهد الغربيّة لم تكن لتخدم مند تأسيسها بسبب توجّهها الدّعائيّ والعدائيّ إلاّ أغراض السّيطرة والتّشويش على الحقيقة العلميّة لاختلاق الذّرائع والمبرّرات الكفيلة بالإعداد المادّيّ والنّفسيّ لإلغاء الآخر المختلف ومصادرة حقّه في الوجود! متفائلين في نفس الوقت بما اكتشفه في الغرب المثقّفون النّزهاء من زيف في المنطلق العلميّ لتلك البحوث المنجزة، خصوصا منها تلك التي تناولت التّراث الإسلاميّ والتي اعتمدت في البداية منهجا وصفيّا، ثمّ تخلّت عنه لتعتمد المنهج النّقديّ في التّعامل مع المصادر في مرحلة أولى، ثمّ في التّعامل مع الرّوايات والمتون في مرحلة ثانيّة، وبما أنجزه المفكّرون الفضلاء رغبة في المعرفة واستشعارا للأمانة العلميّة من بحوث ودراسات استحدثت مناهج علميّة وبحثيّة جديدة أكثر اتّزانا في تناولها لثقافات الشّعوب ولتراثها الحضاريّ، فتوصّلوا بفضل ذلك إلى خلاصة ابتعدت كثيرا بحيادها عن الأجندة الدّعائيّة، عن الخلفيّات السّياسيّة العدائيّة التي استحكمت في البحوث والدّراسات التي سبقتها، ونأسف بمرارة لأنّ هذه البحوث والدّراسات الرّصينة إلى حدّ ما لم تستقبل بالتّرحيب اللازم في الإعلام الغربيّ المنحاز، ولم تجد لها الصّدى المطلوب في فكر وسلوك عموم المثقّفين والسّياسيّين الغربيّين. 6 لزوم \"البيت\" للأعمى سلامة: لقد سجّل التّاريخ صفحات سوداء عن الأنانيّة المتورّمة (للفرد الأبيض) وعقليّته المنكفئة على الذّات، واحتفظت ذاكرة الأجيال بصور كالحة عمّا مارسه ((رسول الحضارة المؤمن بالمخلّص)) من ظلم شنيع وتمييز فظيع على أبناء الشّعوب التي تغلّب عليها بقوّته وقهرها ببطشه، إذ لم يتورّع يوما عن تغيير أسمائهم ودياناتهم ولغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم وأنماطهم الحياتيّة بالعنف والإكراه، ليحيلهم إلى كائنات تستمدّ انتماءها على الدّوام من حضارة مَن حوّلها إلى رموز متحرّكة (لانتصاراته)، وتستعير مجدها من تاريخ غير تاريخها، وثقافة غير ثقافتها، ولغة غير لغتها، ولم يمنعه (تحضّره وإيمانه) من أن يُنْزِل أقسى العقوبات التي لا يمكن لإنسان سويّ أن يتخيّلها بمن كان يواجه عُتُوَّه بالمقاومة واستكبارَه بالممانعة مصرّا على الاحتفاظ بشخصيّته الحضاريّة المميّزة، وبتراثه الثّقافيّ واللغويّ، ولمن أراد التّوسّع في استطلاع تلك الأساليب والتّيقّن من تلك الهمجيّة عليه الاستماع إلى تجارب من مرّوا بسجن جزيرة روبن وبقوا على قيد الحياة، أو إلى معاناة أولئك الذين كانت لهم فرصة الإقامة في إحدى نسخه المعدّلة الموجودة بكلّ من إسرائيل وبغرام وغوانتانامو وبروكلن وبلمارش ولم تسحقهم فيها آلة الموت. فنحن لا نريد أن نفاجئ أحدا بالقول: إنّ في ثقافة الغرب من الرّواسب ما يدفع (الرّجل الأبيض) لأن يستمرئ عذاب الغير ممّن ينصّبهم أعداء بمنعهم من النّوم ومن الطّعام والشّراب ومن النّظافة، وإذاقتهم ألوانا من العذاب الجسديّ والتّنكيل النّفسيّ، حتى إذا ما حلّت مناسبة من المناسبات الدّينيّة ذهب ليحتفل إن كان يهوديّا مع أسرته بيوم كيبّور وعيد الغفران، وإن كان مسيحيّا بالشّعانين وأعياد الميلاد فيردّد مع أفراد أسرته ومع جيرانه وأقاربه في الكنيسة صلاة يسوع: (أبانا الذي في السّماوات ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك في الأرض كما في السّماء، أعطنا خبزنا كفاف يومنا واغفر لنا ذنوبنا كما غفرنا نحن للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في التّجربة لكن نجّنا من الشّرّير)! غير عابئ بما يقترفه من الكذب على الله، موهما نفسه بالاستقامة والصّلاح في الوقت الذي يستكثر فيه على غيره من بني آدم نعمة الله لاعتقاده بأنّهم غير مشمولين بالعناية الإلهيّة إيمانا منه بما نصّ عليه العهد القديم في الفقرة 32 من الإصحاح 18 من سفر التّكوين حيث ذُكِر أنّ الأسود لا يدخل الجنّة لأنّه ملعون، وبما نصّت عليه أيضا الفقرة 36 من الإصحاح 14 والفقرة 45 من الإصحاح 17، والفقرات من 24 إلى 27 من الإصحاح 18 من سفر صامويل، والفقرات من 19 إلى 29 من الإصحاح الثّامن من سفر يشوع، والفقرة 48 من الإصحاح 20 من سفر القضاة حيث أباح (ربّ الجنود) دماء الأمميّين، ودعا إلى قتل جميع رجالهم ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم، وإحراق أراضيهم وتدمير قراهم والقيام بما ليس له من معنى آخر غير الإبادة الجماعيّة وهو ما يسمح بالقول: إنّ البنية العميقة للفكر المميّزة \"لعقلانيّة الغرب\" (L épistémè occidentale) ذات الجذر الوثنيّ: الإغريقيّ/الرّومانيّ، والطّابع اليهوديّ/المسيحيّ، والنّسغ العلمانيّ، التي لا يمكن اختزالها فقطّ في الأيديولوجيّة السّائدة بالمجتمع الغربيّ كما هو معلوم، إنّما تقوم في الواقع على حتميّة صارمة تعتمد مبدأ الصّراع متعدّد المستويات: الطّبيعيّ والاجتماعيّ والنّفسيّ الذي يلغي الإنسان ويعطّل ما يمكن أن يكون لديه من حرّية الاختيار ومن قدرة على تقرير المصير. ومن ثمّة فالملاحظ أنّ ثقافة الغرب في جانب مهمّ منها مبنيّة على تمجيد القوّة، وأنّ العقل الغربيّ عموما يقدّس مبدأ القوّة ولا يقبل بالتّنازل عنه والأخذ بمبدأ الحوار والتّفاوض، ومظاهر هذا التّقديس واضحة في أساطير العهد القديم، وفي الألعاب الأولمبيّة ومسارح الكولوسيوم الرّومانيّة وحلبات مصارعة الثّيران التي ما تزال تستقطب المتفرّجين إلى اليوم، وفي الأفلام السّينمائيّة وفي الحياة اليوميّة حيث يسود العنف وعدم الاستقرار، وكذلك في العلاقات الدّوليّة حيث السّباق نحو التّسلّح والتّنافس في السّيطرة على الموارد، وفي الخطابات الفلسفيّة المعاصرة وأبرزها خطاب نيتشه الذي شبّه تاريخ الفكر السّياسيّ في المجتمع الغربيّ بقصّة صراع أيديولوجيّ بين حالتين متناقضتين تمثّل الأولى حالة التّطلّع إلى امتلاك القوّة والتّعطّش للاستحواذ على السّلطة، وتمثّل الثّانية الحالة الأخلاقيّة التي اضطلعت بها الكنيسة لقمع هذا التّوق عبر استثمار موقعها الاجتماعيّ ومكانتها السّياسيّة، ومن خلال توظيف الأتباع (الغوغائيّين) وفرض خطاب يركّز على (أسطورة الشّريعة) المؤسّسة على (بدعة الخير والشّر) منتصرا في النّهاية للحالة الأولى، ومؤكّدا في كتاباته الفلسفيّة على أنماط القوّة وأشكال استمرارها بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادّية. وبسبب ما عرفه القرن العشرين من أحداث مأساويّة ومدمّرة امتدّت عدوى هذا التّوجّه غير الأخلاقيّ الذي يثبّت السّمة اللاإنسانيّة للفكر الغربيّ الحديث إلى مختلف العلوم الاجتماعيّة، حيث تمّ تسريبه بإصرار وترويجه بكثافة في الأبحاث المهتمّة بمجال العلاقات الدّوليّة وفي الأبحاث السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة من قبل أنصار الواقعيّة عموما وأنصار الليبراليّة الجديدةبالولايات المتّحدة على وجه التّحديد من أجل تكريس النّظر إلى الفوضى كمعامل هيكليّ وحالة بنيويّة تدمغ النّظام الدّوليّ بطابعها المميّز، ومن أجل التّنظير لما ينشأ في ظلّ هذه الفوضى من علاقات سلبيّة مختلّة وغير متوازنة تؤسّس قواعد تنظّم الاختلال وتشرعن سلوك الأطراف القويّة فيه خصوصا، بعد أن عزّز السّقوطُ المريعُ للخصم التّقليدي المواقفَ المتطرّفة الدّاعية إلى توظيف حالة الفوضى في إنجاز تحوّلات عميقة نوعيّة وحاسمة تعتمد على القوّة الفائقة المتحرّرة من كلّ قيد أخلاقيّ باعتبارها مفتاحا للسّياسة الدّوليّة، وبالنّظر إلى قدرتها على إعادة صياغة الواقع وعلى إنتاج معاني جديدة تفسّر الخيارات وتحدّد أنماط التّحالف بين الدّول. وعلى أساس هذه الخلفيّة الأيديولوجيّة دفع الحماس المفرط بمسئولي البنتاغون إلى السّماح لأنفسهم بالحديث علنا ومن غير تحفّظ في إطار ما يسمّونه \"مشروع القرن الأمريكيّ\" عن \"التّدمير الخلاّق\" الذي يعبّر عن الحلم الإمبراطوريّ للولايات المتّحدة، والذي تمّ اعتماده والتّوقيع عليه سنة 1998 لتدشين مرحلة جديدة من العداء لأكثر من مليار وأربع مئة مليون إنسان من ساكنة العالم لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة، ما زاد المنخرطين في إطار الصّحوة الإسلاميّة والقائمين عليها اقتناعا باعتبار الثّقافة الغربيّة مشروعا أيديولوجيّا لقيم العولمة من حيث هي معادل للأمركة، ودفاع عن القيم اليهوديّة/المسيحيّة، واستراتيجيّة استعماريّة ذات وظيفة تفكيكيّة من شقّين: *يقوم الشّقّ الأوّل منها على المستوى المحليّ بتسخير (النّخب) المعروفة بانتهازيّتها في خدمة ذلك المشروع واستثمار ما يسمح به من هوامش تعزّز مراكزها كفئة طفيليّة مستغربة *بينما يقوم الشّقّ الثّاني منها على المستوى الخارجيّ: أي بتوظيف القوّة (الصّلبة) من حيث بعدها السّياسيّ وركنها الماليّ، ومن حيث مظهرها العسكريّ في تدبير غزو يعتمد تقنيّة وعتاد المرحلة الإلكترونيّة بهدف تدمير الأنسجة الاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافيّة للأمّة الإسلاميّة لتطويق قَوْمَتِها ولجم تطلّعها نحو الاستقلال، وللسّيطرة على مقدّراتها المادّية ورصيدها المعنويّ دون رادع من الضّمير أو اعتبار للضّوابط الدّينيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، فما تأسّس من علاقة بين الثّقافة والحالة الاقتصاديّة للمجتمع الغربيّ، حيث تهيمن الأنانيّة والنّزعة الفرديّة ويسود منطق الاحتكار الذي أصبح ضمن دائرة الأعراف المقبولة اجتماعيّا، وحيث استولت\"عقليّة الشّركة\" (The Mind of the monopoly corporation) على السّياسيّين لتستبدّ بصياغة ما يمكن استصداره من قرارات تضع مصالحهم الفئويّة فوق كلّ اعتبار لتجعلهم لا يدينون بالوفاء لأيّ كان إلاّ المال والنّفوذ، تلك العقليّة التي ابتدعت وثنيّة جديدة تقدّس ثالوث القوّة واللّذّة والرّبح وتدعم في المقابل ثالوث القمع والتّزييف والفساد من حيث هي آليّات للاستبداد وبريد للاحتلال لتنشر بذلك \"ثقافة الفساد والاستهلاك\" على أوسع نطاق حيث أصبح كلّ شيء قابلا للعرض والمتاجرة مقدّسا كان أو مدنّسا نافعا كان أم ضارّا حتى الأمشاج البشريّة بل حتى الدّم الفاسد، والتي توسّعت إلى حدّ بعيد في (علم الاستغلال) فلم تترك للأجيال القادمة غير إرث فضيع من السّمّ، وفاتورة ثقيلة من الضّرائب القاسية، هو ما دفع مفكّري الصّحوة إلى اعتبار الحضارة الغربيّة في عصر العولمة انحطاطا للبشريّة، ونذيرا بأفول القيم الرّفيعة، ومسّا بحقّ الحياة على ظهر الأرض لأنّها لم تُشَيَّد بمنطق يتوافق مع السّنن الكونيّة، ولم تصل إلى ما وصلت إليه الآن من نموّ مادّيّ على أساس احترام التّوازن البيئيّ والمشترك الإنسانيّ، ولأنّ مقابحها أكثر من أن تُعدّ، فأنظمة الحياة في ظلّها تحتضر، والمحيط الحيويّ الذي يغذّي أشكال الحياة ويدعمها بفعل جموحها يتدهور، والثّروات تُسْتَنْزف وتُبَذَّر، ولا يقترب الأقوياء والأثرياء تحت مظلّتها من المستضعفين والفقراء بإبداع فولتير وروسّو وجون لوك وشكسبير وموليير وغيرهم من روّاد (حركة الأنوار) من الفلاسفة والعلماء والمبدعين، وإنّما بخلاعة مادونا وتخنّث مايكل جاكسون وبما يُعْرَض على المراحيض الإلكترونيّة من تخريب فكريّ وشذوذ جنسيّ، وبالتّخدير الإعلاميّ والتّخذيل الثّقافيّ، وبغطرسة أمريكا وهمجيّة إسرائيل لدرجة لم تعد معها لحظة تاريخيّة أو منطقة جغرافيّة، وإنّما أصبحت مجرّد رحى ثقيلة تدور لتطحن ما بقي من قيم نبيلة استمرّت تقاوم فوضى الحاضر ولم تُحَنَّط ضمن ماض انتهى ولم يعد له وجود، بل لتهدّد الظّاهرة الإنسانيّة نفسها عبر عولمة الإنسان الطّبيعيّ المتحرّر من المسئوليّة وتكريس مفهوم الفرد المطلق الذي ليس له من مرجعيّة خارجة عن ذاته، والذي يعيش حالة من العدميّة ويعاني من دوار ميتافيزيقيّ يحلّله من تحمّل أيّة أعباء أخلاقيّة. وهو ما يسمح بالنّظر إلى تلك الثّقافة من زاوية كونها مناخا فكريّا يقود إلى التّلوّث الأخلاقيّ والتّيه العَقَدِيِّ الذي يُضِيع وسيلة الحرّية الحقيقيّة وهي تمام العبوديّة لله التي بها تتمّ حرّية الإنسان، ويُفَرِّط في هدف الوجود الإنسانيّ وهو عمارة الأرض وإقامة العدل ونشر قيم المحبّة والسّلام، فالسّياسات التي يتعامل من خلالها الأقوياء والأثرياء مع المستضعفين والفقراء تحت مظلّة العولمة والقطب الوحيد لا تقترح في واقع الأمر وسيلة أخرى لبلوغ الغايات المعلنة والمرامي المبطنة غير تفكيك بنى الشّعوب وتدميرها بما هو مناسب ومتاح على أساس نظريّة كلاوزفيتش، إمّا بالرّشوة أو بالقوّة، وعبر تنصيب نظم ترسي \"حالة المماليك\" لجعلها قاعدة تتّخذ لتجنيد العملاء، ومن خلال تمكين المتعاونين من المنابر الإعلاميّة والوسائل المادّية لإثارة جدل سفسطائي يطبّع مع المفاهيم الطّائفيّة والأنساق الفكريّة المعاقة ويستدرج المستهدفين للخضوع والاستسلام والقبول بالأمر الواقع، في محاولة للإجهاز على ما بقي لديهم من الولاء لهوّيتهم وقيمهم الحضاريّة، واستهداف ما تتمتّع به قواهم الحيّة من روح المقاومة بوصفها مظهرا من مظاهر العافية وسرّا من أسرار الخلق التي أودعها الله في جميع المخلوقات بما فيها النّباتات والجمادات 7 فما عاش من عاش في ذلّة *** وإن طاب الدّهر وطال العمر إنّ الحرّية التي يحرص المسلمون على التّشبّث بها والدّفاع عنها إنّما تعني نموذجا سلوكيّا اجتماعيّا يؤنسن الوجود العاقل بما يملك من قدرة على الاختيار وبما ينضبط له طواعية من القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة التي تنمّي إرادة الأقوم وتخدم العدل وتحصّن الشّعور بالمسئوليّة فيمكّن الإنسان من الفعل المتعقّل الذي يسعى إلى تحقيق المصالح العامّة والغايات الوضعيّة التي تطلب عن قصد على نحو معلوم من الشّرعيّة الاجتماعيّة والمقبوليّة الأخلاقيّة، فالحرّية الحقيقيّة هي بهذا المعنى من حيث هي دافع شخصيّ يقويّ الالتزام بالأهداف الرّفيعة ويقدّمها عن الرّغبات الأنانيّة الضّيّقة، وبغيره تصبح همجيّة مقيتة تعيد صياغة الكائن البشريّ فتجعله أشدّ بؤسا وفتكا وأقذر وحش يسير في الأرض على غير هدى لا يهذّبه دين، ولا يزينه خلق، ولا يؤمن إلاّ بنزواته المنفلتة من أيّ وازع أو ناظم أو رادع، ومن منظور إسلاميّ فإنّ الحرّية من صميم كرامة الإنسان الذي يستمدّ قيمته من كونه عبدا لله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، ومن ثمّة فهي واجب أكثر منها حقّا لأنّ مناط أيّ تكليف هو الأهليّة التي ترتبط بالعقل وبالإرادة الحرّة ضمن السّقف الإيمانيّّ ومقاصد الشّرع الحنيف بوصفها حزام الأمان، وضمن الاحترام الصّادق للآخرين والقواعد مرعيّة الإجراء والنّظام العامّ. وبالنّظر إلى ما تؤسّس الحرّيّة من كرامة إنسانيّة وعدل اجتماعيّ أقرّ الإسلام الحرّيات الفرديّة والجماعيّة ونظّمها بنصوص محكمة وثابتة قد تجمل إلى حدّ بعيد معانيها النّبيلة تلك العبارة البليغة المأثورة عن الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه التي تقول: (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا)، كما استنبط الفقهاء والأصوليّون من مصادر الشّريعة الرّئيسة قاعدة فقهيّة مفادها أنّ (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب)، ورأى معظم المتكلّمين أنّ اقتران الحرّية بالمسئوليّة شرط ينسجم مع مهمّة الاستخلاف ووظيفة الإعمار التي كلّف الله بها الإنسان منذ بدء الخليقة، ولا يسع المرء إلاّ أن يتعجّب ممّا تحدّث به أبرز قادة الغرب وأقلّهم تعقّلا عن الحرّية بشكل يتجاهل عن قصد وربّما دون اختيار ما تقوم به مصانع وشركات بلده الاحتكاريّة من تلويث للبيئة الطّبيعيّة والمحيط الاجتماعيّ، ومن سرقة واستنزاف للثّروات وتجنيد مدروس ل \"أمهر\" علماء النّفس والخبراء الإعلاميّين قصد الاستفادة من خبرتهم في توظيف اللّغة الإيجابيّة والصّور المثيرة لإنجاز وصلات إعلاميّة تمتاز بالإبهار وتبني عالما متخيَّلا يستدرج الرّاشدين والقاصرين على التّطابق مع ما ترغب فيه لتحوّلهم إلى مستهلكين أغبياء مستقلّين عن بعضهم البعض، ويزداد العجب على نحو مضاعف عند حديثه عن (الدّيمقراطيّة) والحال كما يعلم الجميع أنّ تلك الشّركات هي من يصنع قرار الحرب، وهي من توزّع \"بسخاء\" الأحلام المستحيلة ثمّ ما تلبث أن تحوّل تلك الأحلام إلى كوابيس. فهل كان المسخ (الدّيمقراطيّ) الذي جاء به جيش الحلفاء إلى أفغانستان والعراق يعني شيئا غير شعارات أذاتيّة تخلط السّمّ بالعسل وتحمل مضمونا عرقيّا وطائفيّا يحوّل الصّراع على السّلطة في تلك البلاد إلى مجال لتعميم \"ثقافة الفساد\" إن كان للفساد ثقافة، أي بما يوسّع قاعدة الخلل الإداريّ والماليّ والإفساد الاجتماعيّ والأخلاقيّ سعيا إلى تقسيم كلّ بلد على أساس يحيلها إلى كانطونات متناحرة تتنافس على الهرولة نحو \"السّيّد\" الأمريكيّ لتدفع الثّمن غاليا مقابل حمايته؟ * إلى أيّ حدّ تحترم حكومات الغرب مشاعر وطموحات الشّعوب فتبني خياراتها في السّياسة الخارجيّة وفق ما تريد تلك الشّعوب وعلى مسافة معقولة من الولايات المتّحدة وإسرائيل؟ * هل استشير الشّعب الأمريكيّ فيما أبرم من صفقات سرّية لإسقاط نظامي طالبان والبعث، وإن كان الأمر كذلك فما هو حجم الرّشاوى السّياسيّة والماليّة التي تمّ دفعها \"للأنظمة\" المتعاونة؟ * هل أصبح العالم أكثر أمنا بإزالة طالبان والإطاحة بنظام البعث، ماذا كانت النّتيجة غير بناء المزيد من القواعد العسكريّة لمراقبة إنتاج وتسويق البترول والتّحكّم في أسعاره، وماذا كانت حصيلة \"التّحرير\" المزعوم غير البؤس والدّمار وبكاء اليتامى وأنين الجرحى وحنق المفجعين بفقد معيليهم وأهاليهم وأحبّائهم؟ كيف يمكن اعتبار (الكتاب المقدّس) وثيقة تبرّر الظّلم والهمجيّة؟ وثيقة تدعو إلى تنصيب مزرعة الشّرّ على الأرض المقدّسة مرقد الأنبياء ومهبط الوحي، وإلى الحفاظ على تفوّق الغاصبين ودعم سيطرتهم على إيلياء بزعم التّعجيل بعودة المخلّص؟! * هل (الوعد الأبويّ) حقيقة تاريخيّة تزكّيها المعطيات العلميّة والتّاريخيّة من خلال الوثائق والحفريّات الملموسة أم أسطورة واهمة تشرعن الاحتلال والعنف الهمجيّ وسرقة الأرض والتّاريخ جهارا دون خوف من الله، أو رادع من الضّمير الإنسانيّ، أو رقابة من مؤسّسات المجتمع الدّوليّ ومنظّماته المدنيّة؟ * ألم تكن الأرض كلّ الأرض موعودة للموحّدين من أجل القيام بواجب الدّعوة إلى الله على بصيرة بالحجّة العلميّة والمنطق السّويّ وبإعطاء المثل في الالتزام بالخلق الحسن؟ * كيف يستطيع \"ابن الرّمّة\" ذلك المخلوق الذي يحتاج في كلّ أحواله إلى توفيق الخالق سبحانه والذي يخضع أبدا للإرادة المتعاليّة أن يفرض فعلا مشيئته، فيعجّل وقتما شاء وكيفما شاء بظهور آية الله المعجزة المتمثّلة في عودة السّيّد المسيح إلى الأرض؟ على أيّة خلفيّة قانونيّة يمنع التّظاهر ضدّ الممارسات الصّهيونيّة التي تستهدف الأطفال والنّساء والشّيوخ والمدنيّين العزّل، وعلى أيّ أساس يمنع النّظر إلى دولة إسرائيل كواقعة احتلال ودولة استيطان ستنتهي حتما إلى ما انتهت إليه مثيلاتها من الدّول والوقائع الاستعماريّة عبر تاريخ المجتمعات الإنسانيّة؟؟ * ما الذي يتبقّى من (الدّيمقراطيّة) حين تنتصب للدّفاع بكلّ الطّرق عن الهمجيّة الصّهيونيّة وتطرّفها العنصريّ، وحين تسوّغ الغزو الذي ينتقص من كرامة الإنسان ويعتدي على المقدّرات المادّية والمعنويّة للشّعوب فتحول دون القيام بواجب النّضال من أجل إنقاذ الحياة وصون الحقّ في الحياة على كوكب الأرض الذي لم يعد معرّضا فقطّ لمخاطر التّلوّث الماديّ وإنّما لمضاعفات التّلوّث المعنويّ وبدرجات تنذر بالانزلاق نحو الكوارث الاجتماعيّة والأخلاقيّة؟! * ما الذي يبقى من (قيمها العلمانيّة) التي تتعالى عن الالتزام الخلقيّ حين تغدو أيديولوجيّة دغمائيّة وزيّا سياسويّا \"للمعاصرة\" يغلّف قيم النّفي والإقصاء ويسوّق العولمة بالإغراء والإكراه فيعمّدها شريعة تعطي للأقوياء حقّ التّصرّف في تدبير الشّأن العالميّ بما يخدم مصالحهم ويكرّس امتيازهم على حساب المستضعفين الذين لم يعد لهم من خيار إلاّ الانصياع للأوامر، وحين تسمح لنفسها ومن غير سند بإلغاء أيّ حقّ في الاختلاف ولا تترك خيارا وسطا: فإمّا أن تكون مع هذه الذّئبقراطيّة كما هي وبشروطها، وإمّا أن تكون ضدّها وعليك أن تتحمّل النّتائج؟! ألا يحقّ النّظر إلى مجموعة الثّمانيّة كحكومة عالميّة بديلة نصّبت نفسها بأسلوب فجّ لا يحترم المقدّمات النّظريّة والأعراف السّياسيّة للديمقراطيّة الغربيّة عينها، حكومة تنذر بنهاية دور (هيئة الأمم) وبداية ديكتاتوريّة الأغنياء، فهي تخطّط وتنفّذ وتقوّم، وتتّخذ ما وسعها من المبادرات والقرارات الخطيرة على مرأى من جميع شعوب العالم ودون معارضة من أيّة جهة تذكر، تحت أيّة خانة يمكن إدراج قراراتها ومبادراتها؟! * إلى أيّ مدى هي عازمة على مساعدة الفقراء على تحقيق التّنميّة المندمجة لبلدانهم دون إرغامهم على المغامرة بخصوصيّتهم الثّقافيّة المميّزة والمقامرة بمصالحهم الحيويّة؟ * أجادّة هي في مساعدة المستضعفين على الإسهام الإيجابيّ في صناعة المستقبل وبناء الحضارة الإنسانيّة مع الحفاظ على تنوّعها وغناها ضمن إطار من الشّراكة المتكافئة؟! إلى أيّ حدّ يمكن دمقرطة (النّظام العالميّ) دون تقييم العلاقات والأنشطة والاتّجاهات التي تبلورت خلاله على المستوى الدّولي فكانت خلفيّة لكلّ ما عرفته الإنسانيّة من حروب أودت بالملايين، وفي غياب الشّروط الموضوعيّة التي تسمح بالجرأة السّياسيّة والعلميّة الكفيلة بإقرار مناخ ثقافيّ يسائل الوقائع ويراجع الأحداث مراجعة مسئولة تكشف الحقيقة وتزيح التّعتيم؟! * أيّ دولة غير إسرائيل تستخفّ علنا (بالقرارات الأمميّة وبالشّرعيّة الدّوليّة) فتستخدم أسلحة الجيل الثّالث ضدّ المدنيّين من الأطفال والشّيوخ والنّساء لقتلهم بدم بارد، وهدم البيوت وجرف الحقول، ومصادرة ما للشّعب الذي يرفض احتلالها من ممتلكات مادّية ومقدّرات معنويّة، وانتهاك ما للمقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة من حرمة بالاعتداء على المستشفيات والمساجد والكنائس والمقابر؟! * أيّ دولة غير إسرائيل يمكن أن تذبح شعبا أمام خنوع ذوي القربى وتنسّك بقيّة العالم في محراب الشّيطان الأكبر حيث ليس لمن يجرؤ على أن يقول للطّاغية إنّك أبخر وبمزاج سيّء، سوى المعاملة بوحشيّة تغيّب كلّ اعتبار إنسانيّ أو تعقّل حضاريّ! هل يريد المجتمع الإسرائيليّ السّلام حقّا أو يسعى إليه فعلا حينما يكرّم المجرمين أمواتا بإضفاء صفة البطولة والقداسة عليهم، أو بمكافئة الأحياء منهم على ما اقترفوا من جرائم ضدّ الإنسانيّة بانتخابهم لرئاسة الوزراء وتعيينهم في ((أجهزة الدّولة ومؤسّساتها))؟ * هل عرف الإسرائيليّ الذي رمى الطّفل الشّهيد محمّد الدّرّة في حضن أبيه حبّ الأمّ، وهل يتمتّع ((الجنود)) الذين اجتاحوا جينين وحاصروا غزّة بحسّ إنسانيّ وضمير أخلاقيّ وبما يمنع كلّ محارب شّجاع يدافع عن قضيّة عادلة من البطش المجّانيّ بالأبرياء والعزّل؟ 8 ثوابت لا مناصّ منها ومطالب لا مَحيد عنها: لقد قاوم الشّعب الفلسطينيّ الغزو في ظلّ الانتداب البريطانيّ الذي انتهك بعد نهاية الحرب الثّانية عن عمد وبسبق إصرار مقتضيات القانون الدّوليّ بتمكين العصابات الصّهيونيّة من احتلال الأرض وتهجير السّكّان تنفيذا للوعد الذي صدر باسم حكومة التّاج عن الوزير بلفور سنة 1917، وهو الآن يقاوم احتلالا استيطانيّا يسعى إلى اقتلاعه من الأرض لمدّة تزيد عن ستّين عاما مند أن نُقِلَت إدارة الاحتلال من أيدي البريطانيّين إلى الصّهاينة، فهل عليه أن يفاوض ستّين سنة أخرى كي يستفيق على حقيقة إدمانه على مفاوضات ملغومة لا فائدة منها سوى إتاحة الفرصة أمام العدوّ ليقتلعه من أرضه ويحيله إلى شعب مشرّد عليه إن أراد أن يستمرّ في والوجود أن يبحث عن وطن بديل وعن أرض غير التي عاش عليها؟ هل عليه أن يستمرّ في الثّقة ب (الهيئة الأمميّة) وبقراراتها المعطّلة التي لم تجد ولن تجد طريقها إلى التّطبيق إلاّ إذا كانت على حسابه وعلى حساب مصالح الأمّة خصوصا وأنّ ما قامت به الإدارة الأمريكيّة بعد اجتياح العراق وتوطين خمس وثلاثين قاعدة عسكريّة منها ثلاثين قاعدة في دول مجلس التّعاون الخليجيّ هو في حقيقته إجراء يستهدف حماية أمن وتفوّق إسرائيل بذرائع كاذبة تربط بينها فوضى الدّلالة وتنسّق بين فصولها \"نظريّة التّدمير الخلاّق\" مثل: (الحرّيّة، الدّيمقراطيّة، وبناء الشّرق الأوسط الجديد)؟ ما هي حصيلة مدريد وأوسلو وما تلاها من (مفاوضات) هي في جوهرها مناورة طويلة النّفس استهدفت عزل الفلسطينيّين شعبا وقيادة عن المحيط العربيّ والإسلاميّ لاستدراجهم إلى المزيد من التّنازل عن الأرض والعرض والكرامة عن الدّين والتّاريخ والحقيقة؟ ألم تكن هذه المفاوضات مجرّد اختبار لقياس صلابة المفاوض الفلسطينيّ ثمّ ما لبثت أن توقّفت لتنطلق وتتوقّف من جديد كلّما بدا للصّهاينة وحلفائهم أن ليس في نيّته التّفريط بالحقوق والتّخلّي عن الثّوابت الدّينيّة والوطنيّة؟ ألم تكن حصيلتها طبعا سوى توسيع قاعدة التّضبيع، والزّيادة في وثيرة مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات لخلق البنية الضّروريّة لاستيعاب الأفواج الجديدة من اليهود المهجّرين؟! حيث تمّت مند التّوقيع على اتّفاقيّة المبادئ وإلى الآن مصادرة مئات المساكن والأراضي وبناء المزيد من المستوطنات بالقدس المحتلّة وحولها، وبناء الجدار العازل والمزيد من الطّرق الالتفافيّة عبر أراضي الضّفّة والقطاع لاستكمال تفتيت التّجمّعات السّكنيّة الفلسطينيّة وتسهيل عمليّة العزل والتّطويق والإغلاق، ولفرض واقع سكّانيّ يخدم أهداف الاقتلاع والتّوسّع والاستيطان! ألم تكن الحصيلة هي ابتزاز الشّعب الفلسطينيّ واستفزاز الأمّة الإسلاميّة بالسّعي إلى بناء واقع سكّانيّ وجيوسياسيّ يجعل القدس المحتلّة عام 1967 عاصمة أبديّة لدولة الاحتلال، ولتصفيّة كافّة (القرارات الأمميّة) المتعلّقة بالأراضي المحتلّة سنة 67 بما فيها القدس انطلاقا من (مفاوضات ثنائيّة) وتحت (الرّعاية الأمريكيّة)، تلك المفاوضات التي لم يكن ليكتب لها النّجاح بطبيعة السّياق التّفاوضيّ إلاّ بالمزيد من التّنازل من قبل الطّرف الفلسطينيّ على قاعدة: (أعطني ما أريد لتمكّنني من أن أبرهن لك بذلك أنّني أقوى منك) حيث تؤكّد كلّ المؤشّرات أنّ ليس هناك سوى \"عمليّة سلام\" مستدامة لأنّ إسرائيل ترفض الحلّ العادل والتّسوية الشّاملة! لذلك لا بدّ من العودة إلى التّأكيد على كلّ الحقوق المشروعة للفلسطينيّين وفي طليعتها: أوّلا: الحقّ في المشاركة في إقامة دولة واحدة موحّدة على أساس الحلّ الدّيمقراطيّ الشّامل، دولة قابلة للحياة والاندماج في المحيط الإقليميّ تكون مدينة القدس الشّريف عاصمتها الأبديّة نظرا لما لهذه المدينة من قيمة روحيّة في نفوس كلّ المسلمين في العالم من حيث هي أرض مقدّسة بمعايير الأرض والسّماء وليست مجرّد بقعة قابلة للتّفاوض والمزايدة في سوق السّمسرة السّياسيّة. ثانيا: عودة كلّ اللاّجئين إلى وطنهم وأراضيهم وممتلكاتهم حيثما كانت بما فيها أراضي 48 تطبيقا للقرار 194 المتعلّق بحقّ العودة كحقّ فرديّ وجماعيّ لا يقبل التّصرّف ولا يسقط بالتّقادم، والذي يُعْتبر مرتكزا تأسيسيّا من مرتكزات الحلّ العادل والشّامل للقضيّة. ثالثا: حقّ جميع الفلسطينيّين في التّعويض عن عذاب التّشريد وعمّا اغتصب منهم من أموال وما لحق بمساكنهم وبساتينهم من تخريب، وعمّا أصاب أهلهم وذويهم من قتل وتشويه واعتقال تحكّميّ أذيقوا فيه من العذاب والإهانة ألوانا. 9 انكشفت خدعة مصارع الثّيران: بعد تخطّي مرحلة صناعة فكرة (الهيمنة) ومرحلة بلورتها بإنجاز عدد من الدّراسات الاستراتيجيّة في مجالات مختلفة، وبعد الفوز بتجاوز مرحلة (نقلها) و (الإقناع بها) بإثارة لغونة إعلاميّة وجدل دعائيّ سهّل التّعاطي بها في العدوان على المستضعفين برع أقطاب الدّعاية للحرب في إثارة جوّ من القلق النّفسيّ الذي يضّخم الهاجس الأمني ويستثمر ما أنشأه فراغ السّاحة الدّوليّة من أيّ منافس من حاجة إلى عدوّ بديل تصرف إليه الأنظار لتعطيل ما يعتمل في صلب \"أقوى\" مجتمعات الغرب من صراع اجتماعيّ شرس أو لإبطائه والتّخفيف من حدّته، ومن سوء حظّ الحضارة الإسلاميّة أنّها كانت في نظر هؤلاء (الدّعاة) المرشّح الوحيد الذي يمكن تنصيبه كعدوّ يمكن الاصطفاف في مواجهته والقضاء عليه. فانتهز المتّطرّفون الذين برعوا في صناعة الكراهيّة فرصة الوصول لإدارة السّلطة والسّيطرة على مواقع صنع القرار، ليبادروا دونما تحفّظ إلى إعلان العداوة للإسلام باعتباره معاملا ثقافيّا يقوّي ممانعة المسلمين، ويحرّض مقاومتهم (لقيم الحضارة اليهوديّة/المسيحيّة) التي يراد لها أن تكون مع بدية القرن الأمريكيّ قيما كونيّة، ومن ثمّة افتتحوا فصلا فريدا للسّير بالعالم نحو هاوية سحيقة بمتابعة ما بدأه أسلافهم خلال نصف قرن من التّاريخ السّرّيّ الذي لم ولن يشار إليه بطبيعة الحال فيما بات يعرف ب: (الحرب على الإرهاب)، لأنّ معظم مشكلات الإدارة الأمريكيّة كانت وما تزال مع الأنظمة التي تعطي الأولويّة لمصلحة الشّعب وليس لمصلحة المستثمرين الأجانب. ولا بدّ من الإشارة في هذا السّياق إلى النّعت المحرّض الذي يصف الإسلام ب: (الخطر الأخضر) في محاضرة ألقيت سنة 92 بجامعة واشنطن وهو نفس الوصف الذي استعمله وفد (AIPAC) عند الاحتجاج على ما أسماه برواسب (العداء للسّامية) في التّصريح الذي أدلى به المفوّض الأوروبّيّ لوسائل الإعلام العالميّة حينما أعلن صراحة عن الاعتراض على سياسة إسرائيل بالشّرق الأوسط، وقد اغتنم زعيم الوفد الصّهيونيّ هذه المواجهة ليبثّ رسالة إلى الزّعماء الأوروبيّين يقترح عليهم من خلالها عرضا يوحّد بين المسيحيّين واليهود ضدّ (الخطر الأخضر) الذي بدأ يتهدّد بزعمه المجتمعات الغربيّة مستثمرا التّحريض الذي أطلقه حينها مستشار (المحافظين الجدد) عبر مقالات يزعم فيها أنّ عقيدة الإسلام مكمن رئيس لما أسماه (الإرهاب)، وأنّ اعتياد العرب والمسلمين على الاحتلال يجعلهم لا يستطيعون الاستغناء عنه ولا يملكون أن يحسنوا التّصرّف إلاّ في ظلّه، وأن لا غنى للغرب في الوقت الرّاهن عن وجود دولة إسرائيل كقوّة ردع في منطقة الشّرق الأوسط لقيادة شعوبها إلى الحضارة، وكضمانة فعّالة يمكن الاعتماد عليها في مواجهة التّطرّف العنيف، ما شجّع على استخدام ظاهرة الخواف من الإسلام استخداما سياسيّا أسند وبقوّة إعلان اللاءات الثّلاثة في مؤتمر (AIPAC) بنيويورك: [لا لتطبيق القرارات (الأمميّة) المتعلّقة بالأراضي المحتلّة عام 1967، لا لإدراج القدس في أيّة مفاوضات لإعادتها أو إعادة جزء منها إلى السّيادة الفلسطينيّة، لا لعودة المهجّرين الفلسطينيّين سنة 1948]، ودعّم الحذر من معاهدات \"السّلام\" التي أبرمت تحت الرّعاية الأمريكيّة بين مؤسّسة ذات طابع احتلاليّ وعمق اقتلاعيّ ووجه استيطانيّ وبين بعض الكيانات المجاورة والتي لم تعد تساوي من وجهة نظره الورق الذي كتبت عليه، وها نحن نرى اليوم حكومة إسرائيليّة يمينيّة تحرص على استثمار ذلك كلّه في التّأكيد على يهوديّة الدّولة، لكن وفي المقابل، وعلى نحو ما يقوم به مصارع الثّيران من نصب هدف وهميّ لتضليل الخصم واستنزاف قوّته عادت نفس الجهات إلى تسويق فكرة مسمومة (ينتحلون بتقديمها صفة النّاصحين) مفادها أنّ العدوّ الحقيقيّ الذي يتهدّد \"العرب\" هو إيران وليس العدوّ الصّهيونيّ، ومن سوء حظّهم هذه المرّة أنّ الشّعوب المسلمة ذكيّة بما يكفي لفضح مؤامرتهم وزيف خطابهم! 10 لم يعد ممكنا القبول بالطّغيان وإجمالا فإنّ شعوب العالم اليوم مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى في ضوء ما تفجّر من أزمات اقتصاديّة وسياسيّة وبيئيّة خطيرة بالسّعي الجدّيّ والحثيث إلى التّغيير عبر مناهضة أذاتية القانون والشّرعيّة وغلبة منطق القوّة على منطق الحقّ، ومقاومة عولمة جائرة تلغي البيئة من حسابها وترسّخ (مصالح الأقوياء) لتجعل الفقراء والمستضعفين حطبا لمحرقة سوق استغلاليّة تفقدهم الإرادة وتحيلهم إلى مجرّد عبيد بلهاء، إذ يتعيّن على العلماء في مختلف الفروع والتّخصّصات وعلى رجال الفكر من المثقّفين والإعلاميّين الفضلاء من حيث كونهم نخب حيّة في جميع الدّول، أن ينافحوا بالكلمة الحرّة والمسئولة وبالوسائل السّلميّة عبر المؤسّسات المتاحة من أجل قيادة شعوبهم لبناء جبهة دوليّة موحّدة وتوجيه نضالها المدنيّ نحو تحقيق نظام عالميّ جديد يكون أكثر عدلا اتّزانا وتوازنا تتعايش في ظلّه كلّ الشّعوب وجميع الثّقافات والحضارات وتحقيق نظام اقتصاديّ ينهي حالة النّهب واستنزاف الثّروات والقهر، كما أنّ الشّعوب الإسلاميّة مطالبة هي الأخرى بالنّفير لحماية القدس والمسجد الأقصى بما تستطيع من مقاطعة اقتصاديّة لمنتجات المعتدين والعمل على تحقيق التّنميّة والنّهوض الاقتصاديّ وإنهاء حالة التّبعيّة عبد ربّه تعالى : محمّد بن محمّد بن عليّ بن الحسن محب