يعتبر الحوار الحضاري هدفا استراتيجيا طبيعيا في مستقبل العلاقات الدولية والاستراتيجيات المستقبلية للدول وذلك للاعتبارات الإنسانية وسد الفراغات السياسية والاستراتيجية والثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وكذا التواصل بين الدول والشعوب في إطار الأخوة والأمن والسلام والتعارف بعيدا عن مظاهر التوتر والانغلاق وسد الآفاق وعدم الاستقرار في العالم وقد أنفقت البشرية بمختلف أنواعها الشيء الكثير من أجل خلق مظاهر التقدم والتطور عبر مدار كل العصور. فالحوار الحضاري إذن باعتباره شكلا من أرقى أشكال ومظاهر التعبير عن الهوية البشرية والانتماء، يعتبر بعدا متميزا متحكما في الديناميكية الجديدة للعلاقات الدولية والاستراتيجية المستقبلية وسيكون أحد العوامل الفاعلة في تحديد طبيعة النزاعات القادمة، ومن هذا المنطلق فالحضارات حاليا والتي سنراها لاحقا هي بمثابة صياغة جديدة وحديثة للعلاقات الدولية تطرح العامل الثقافي كمبدأ محرك طبيعي للجيوسياسية العالمية وموازين القوى الجديدة. إن الحوار الحضاري الجاد هو محور السياسة الدولية العالمية الهادفة لسد بؤر التوتر في العالم وإيجاد الحلول الملائمة لها باعتبار الحضارة والثقافة العامل الجديد الذي سيتحكم في صيرورة العلاقات الدولية وبالتالي فالانقسامات الكبرى في العالم ستكون انقسامات حضارية تتصادم في إطارها مجموعة من الكتل الحضارية الغير المنسجمة والمتنافسة في ما بينها. أولا: مفهوم الحوار الحضاري في العلاقات الدولية. يختلف العلماء في إعطاء مفهوم واحد ووحيد للحوار الحضاري، فعلماء الإناسة والأنام قالوا إنه بداية استقرار الإنسان في مجتمعات وتميل علوم الأناسة إلى اعتبار الحضارة والمدنية والثقافة شيئا واحداً مع أنه يحدث أحيانا لبس عند نقل المعاني إلى اللغة العربية حيث نجد من يترجم كلمة civilis بمعنى الثقافة وكلمة civilisation بمعنى حضارة. وآخرون يترجمون هذه الأخيرة بمعنى المدنية نسبة إلى المدن حيث أن الأصل اللاتيني يأتي بمعنى ساكن المدينة والمدينة جزء من الحضارة، فتوماس مان يعتبر: الثقافة هي الروح الحقيقية أما الحضارة فهي الآلية mécanique وكذلك أدوم الذي يوسع من مفهوم الثقافة ليشمل مظاهر السلوك الاجتماعي المكتسب. فنجد مثلا إدوارد تايلور = tylor 1832 = 1917 في كتابه الحضارة البدائية primative culture الحضارة أو الثقافة، يعطي نفس المعنى، قائلا: الثقافة والحضارة بمعناها الأنثوغرافي الواسع، هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع. أما جوستاف كليم Klemm1943: فيعرفها بأنها العادات والمعلومات والمهارات والحياة الاقتصادية والعامة خلال السلم والحرب والديانة والعلوم والفنون... وهي تظهر من خلال نقل تجارب الماضي إلى الجيل الجديد. أما فرانس بواس f. boas فعرفها بأنها: الكم المتكامل للأفعال والنشاطات العقلية والطبيعية التي تميز السلوك الجماعي والفردي للأفراد الذين يكونون مجموعة اجتماعية بالارتباط بأعضاء مجموعتهم وبالارتباط بين كل فرد ونفسه، كما تحوي أيضا منتجات هذه النشاطات ودورها في حياة المجموعة. أما هيغل (حياته: 1770 / 1831). فالحضارة بالنسبة له هي نتاج تفاعل الإنسان ببيئته الاجتماعية والجغرافية فهي مجموعة أشكال الحياة الموضوعية المنسقة لجماعة ما. كما أنها نتاج الترابط بين الإنسان ينتج عنه شكل معين في إقليم معين يتحدد بواسطة أفكار ومبادئ وقيم معينة تعمل على ترابط وبناء معين. كما يتفق بعض الانتروبولوجيين على التأريخ لفكرة الحضارة بالبدء بكتاب لويس مورجان: «المجتمع القديم» والذي يعتبر فيه أن اختراع الكتابة والاحتفاظ بالسجلات المدونة يعد مؤشرا رئيسيا على وجود حضارة حيث إنَّ مورجان يولي أهمية كبيرة للجانب الثقافي والاجتماعي للحضارة على حساب الجانب المادي، فالمجتمع المتحضر هو المجتمع الذي يتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على أنساق القرابة الى المجتمع السياسي الذي تحكمه علاقة الوظيفية والإقامة والسكن. ويعرف هنتنغتون الحضارة بأنها كيان ثقافي واسع يمثل أوسع مستويات الهوية فهي أعلى تجمع ثقافي للناس وأوسع مستوى من الهوية الثقافية للشعب، فلذلك يستعملها كثيرا ضد التقليد الفكري والفلسفي الألماني بضرورة الفصل بين الثقافة والحضارة. ثانيا: تحديد مفهوم الحوار الحضاري في المستقبل: إن تحديد مفهوم الحوار بين الحضارات تعتريه عدة صعوبات، تجعل المهتمين بالهم الحضاري والثقافي وكذا العلماء والمختصين في الحضارة البشرية في حيرة من أمرهم خصوصا عندما تتداخل مفاهيم الحضارة مع مفاهيم المدنية أو حينما يتداخل مفهومها العام مع الخاص أو مع مطلقها ومقيدها أو مع الدين والمؤمنين به أو التقاليد والأصول والفروع والتابعين لها فضلا عن الاتفاقات والعادات والقوانين والمبادئ الكونية للديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد عرفت البشرية عدة تقاطعات عبر مراحل التاريخ، فنجم عن ذلك كثير من الخلافات وثقلت موازين كثير من التفسيرات والتأويلات المتشابهة فتشابهت عند الكثير من أصحاب الديانات الثلاث المسلمين والمسيحيين واليهود فنشبت في حياتهم الكثير من الخلافات حول قضايا ما كانت لتكون لو تعقل الحكماء وأتيحت الفرصة للفقهاء والعلماء والحكماء والعقلاء للكشف عن المؤامرات البئيسة ونفض الغبار عن الحضارات المجيدة، فضلا عن الموقف من توقف الحوار الثقافي بين الحضارات وتأثيره في العلاقات الدولية والذي امتد لأكثر من 14 قرنا بدون جدوى أو إحداث تقارب متوخى بشكل دائم ومستمر تبث مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الغربيةوالأمريكية فكرة أن القرن الحالي هو قرن صراع الديانات بامتياز (مع كامل التحفظ) فضلا عن نمو قوى سياسية أمريكية نشطة تستخدم البروتستانتية المتشددة والمتعصبة ذريعة وستاراً للعمل على انتقاد سياسات معادية للعرب والمسلمين ونظرة غربية للعالم تختزل كل شيء في التهديد الذي تشكله منطقة تمتد من المغرب إلى ماليزيا، وأن أمريكا أمام مخطط استراتيجي وفي مقدمة جيش يواجه عدوا حضاريا يملأ عليه الأفق بحيث لا يرى شيئا آخر غيره. ومن تم صار الفكر الاستراتيجي الغربي منقلبا عن العرب والمسلمين إلى الحديث عن الصراعات الحضارية معتمدا آراء المنظرين للواقع والسياسة الدولية خصوصا بعدما تأكد واقع انتصار الغرب الرأسمالي على الشرق الشيوعي ومجيء الخطاب الانتصاري مع انهيار حائط برلين وبعدما كان القلق قد بدأ بفعل فراغ التهديد والاضطرابات الجديدة التي عاشها العالم. ثم تصدير الإسلام إلى الواجهة بعد الاعمال الارهابية التي عرفتها الولاياتالمتحدةالأمريكية مذكرة إيانا بالنقاشات الكلاسيكية التي أثيرت بمناسبة الثورة الإيرانية والتي وضعت الإسلام في موقع المواجهة مع الغرب فتصاعدت هنا وهناك دعاوي الجهاد والحرب الصليبية ثم انقلاب الغرب على أفغانستان واحتلال العراق واتخاذ قرارات منحازة غير مفهومة في الأممالمتحدة واستخدامها من طرف مجلس الأمن ضد مصالح المسلمين ومنهم العرب. إن المفاهيم التي هيمنت على الساحة الفكرية الدولية واكتست صبغة شعارية كالصراع والوعي الطبقي والقومية والإمبريالية العالمية وحق الشعوب في تقرير المصير أفرغت الساحة في العقدين الأخيرين لمفاهيم تؤسس لنظام فكري مختلف تماما من قبل النظام العالمي الجديد واصطدام الحضارات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن يعني مجرد نظام في الحكم بعينه، ولا مجرد انحلال تكتل بين دول، ولكن يعني أيضا وربما في الدرجة الأولى سقوط نظام اجتماعي اقتصادي وفكري كان يطرح نفسه كمشروع حضاري جديد وبديل، كما أن انتصار المعسكر الغربي في مراهنة لم توجد أصلا ورغم ذلك بقي في حالة تأهب قصوى لكن بدون عدو عندما خلت له الأرض وخلا بها فصار يطلب الطعن والنزال ولكن مع من؟ هل فعلا أمريكا تبحث عن عدو؟ إن أهم مشكلة تواجه وواجهتها الولاياتالمتحدة مع منتصف الثمانينيات مشكلة دولة بل معسكر من الدول بنى اقتصاده وسياسته واستراتيجيته وثقافته ورؤاه المستقبلية على أنه يواجه عدواً متربصاً به، فإذا بالعدو الشرقي ينسحب بل يصير حليفا له. وهنا تكمن المشكلة أي مشكلة الأنا الذي لا يعرف نفسه إلا بمواجهة غيره وبما أنه لا يوجد إلا المركز والأطراف فإن مصدر التهديد لابد أن يكون في أحدها. ولهذا يعتبر روبرت كوكس أن سيناريوهات صامويل هنتغتون حول صدام الحضارات وفرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ هي تجسيد للفلسفة الأمريكية التي تتشابك داخلها الآمال والمخاوف من المستقبل. لقد تنبأ أحد منظري أيديولوجية الولاياتالمتحدةالأمريكية صامويل هنغتون من انبعاث الإسلام La résurgence de l islam برسم مخطط للصراعات الاتنوسياسية، واصفا المسلمين بتأكيد ذاتهم بالالتزام بالدين كموجة للحياة وعدم قدرتهم على الاندماج مع شعوب الحضارات الأخرى وتزايدهم الديمغرافي الكبير، وبعد فساد المؤسسات السائدة والعودة الى دين أكثر نقاء وصفاء وصرامة وإلى تكريس قيم الانضباط والنظام وهو مرتبط بالتزايد الديمغرافي الكبير في العالم الإسلامي والذي يمس بالخصوص الفئة الشابة النشيطة والقابلة للانخراط في حركات التمرد والهجرة نحو الغرب. معززا قوله بجملة من الاحصاءات حول الصراعات الاتنوسياسية التي توصل إليها، حيث يقول: إن من بين 50 صراعا هناك 26 صراعا أثنو سياسيا يمس المسلمين، كما أن المسلمين أكبر قدر من الصراعات الداخلية مقارنة بالحضارات الأخرى، وذلك ، بـ 11 صراعا اثنو سياسيا داخليا، كما أن لهم أكبر حصة من الصراعات مع الحضارات الأخرى، ب : 15 صراعا من مجموع 20 صراعا. أما موقع الإسلام من الصراعات الإثنية فإنه من بين حوالي 59 صراعا عرفها العالم هناك 28 صراعا يمس المسلمين. وأنه من بين 31 صراعا إثنيا ما بين كيانات حضارية مختلفة شارك المسلمون في: 21 منها. ثالثا: أبعاد الحوار الحضاري في العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين للحوار الحضاري في العلاقات الدولية عدة أبعاد منها ما هو ديني ومنها ماهو قانوني ومنها ما هو ثقافي، وإليكم مختلف هذه الأبعاد التي تشتمل على مايلي: أولا ـ البعد الديني: يعد الحوار الحضاري في العلاقات الدولية من الناحية الدينية وسيلة من وسائل التعارف والتعايش والتضامن بين الشعوب في الفكر الإسلامي والذي يستمد قوته من مصدره القرآني والسنة النبوية الصحيحة وهي نصوص تعتبر في نظر الشارع الحكيم نصوصا ثابتة ومستمرة ولا يجوز مخالفتها. فضلا عن الوفاء بالعهود والاتفاقات والمعاهدات التي أبرمتها الدول الإسلامية مع غيرها إلا إذا خالفت الشريعة الإسلامية، وهكذا نجد أن الإسلام دعا الى الحوار بين الحضارات منذ 14 قرنا رغم الخلاف المتواتر منذ ذلك التاريخ بين الديانات المشهورة قال الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). أما اليهود فيقولون: نحن هم أهل الجنة وغيرنا ليسوا منها». أما المسيحيون فيقولون: «إن المسيح ابن الله». أمام هذا الاختلاف الواضح بين هذه الديانات، دعا الإسلام جميع أهل الكتب المقدسة الى كلمة سواء لعبادة الله تعالى وحده. والحوار بهذا المفهوم في لغتنا يعبر عن روح الدين لقول الحق سبحانه: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا). وقال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).وقال الله تعالى: (.. ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). وفي الحديث النبوي الشريف والذي أخرجه مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله.