في بداية هذا المقال نود أن نضع القارئ أمام حقيقة تاريخية لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد من باب جهله أو عناده، أو متآمر من باب طمعه وأنانيته، وتتجسد هذه الحقيقة في كون الأطماع الخارجية كانت دائما عنوانا بارزا لسياسات الدول العظمى، حيث اتخذت أشكالا مختلفة، تأرجحت بين الاستعمار بالقوة المسلحة واستنزاف الخيرات الوطنية للأقطار المستعمرة بشكل مباشر، والاستنفاع غير المباشر من خلال تفعيل محكم لاستراتيجيات سياسية سلمية بمنطق يضمن استمرار مصالح هذه الدول في مناطق نفوذها عبر العالم ( التبعية السياسية والاقتصادية). ومع سقوط جدار برلين، وما تمخض عن ذلك من تطورات، كان أبرزها إعلان النظام العالمي الجديد بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، تطورت عبر العالم ظواهر جديدة لم تكن في الحسبان. فالآليات المؤسساتية ( المنظمات الدولية)، والتأثيرات الثقافية المدعمة بالتكنولوجيات المتطورة، لم تستطيعا تحقيق الأهداف المرسومة سلفا من طرف المنظومة النيوليبرالية. فإلى جانب تطور أساليب المقاومة الثقافية والعقائدية والتي اتخذت أشكالا جديدة لم تكن معروفة فيما قبل، والتي حالت دون تحقيق الملاءمة الثقافية الهادفة إلى خلق مقومات جديدة للإنسان العالمي تطمس الموروث التاريخي للشعوب، عرف الاقتصاد الكوني أزمات خانقة كان أول المتضررين منها أمريكا، واشتداد المقاومات العنيفة من طرف غير المؤهلين لحل رموز المنطق الجديد والاستفادة منه، وتعبيرات سياسية متنوعة مناهضة للعولمة والانفتاح. ويعتبر في هذا الشأن الرفض الشعبي الفرنسي للتصويت بالإيجاب على الدستور الأوروبي نموذجا حيا يعبر عن عدم وضوح الرؤية الشعبية للتوجه الحضاري الغربي. لقد تأكد اليوم أن إيديولوجية سلطة السوق كقوة طبيعية لخلق التوازن الاقتصادي في العالم لم تنجح في إزاحة الدور المحوري للدولة كمجموعة سلط شرعية منبثقة من اختيارات الشعوب والأمم في ضبط التوازنات الضرورية. وبعبارة أخرى، لقد أصبح العالم واعيا أن الشرعية السياسية لاختيارات الشعوب لا يمكن أن تزيحها نزعات إيديولوجية تطمح إلى تحويل الطابع الإنساني للفعل السياسي والاقتصادي إلى منطق سلعي يخضع للعرض والطلب في كل شيء والمنافسة بين القوي والضعيف بدون فرض عتبة موضوعية تحفظ سمو المقومات الطبيعة الإنسانية وتتيح تلاحم المجتمعات كونيا. إن العالم، بمختلف توجهاته السياسية، يعبر اليوم بجلاء أن عدم القدرة على المنافسة بالنسبة لعدد كبير من الأشخاص الذاتيين والمعنويين لا يجب أن تكون دافعا حتميا يجيز تحويل التهميش والفقر والضياع إلى ظواهر طبيعية في حياة الإنسانية، بل أصبح رهان تحقيق التقدم مرتبطا بالاعتراف بعتبة من الحقوق المادية والسياسية تحفظ كرامة الإنسان وتمكنه من الاستمرار في الحياة بشرف ومن إمكانية استدراك قوته وإعادة إنتاجها باستمرار، ومن ثم الإسهام في الحفاظ على القيم النبيلة للعمل السياسي. ونظرا لاستفحال الأزمات نتيجة المبالغة في إيديولوجية السوق ومنطق «التسليع»، ابتدع العالم اليوم نقاشات حول الهوية لتغطية تفاقم عدد الجرائم الاقتصادية والسياسية من خلال تحويل اهتمامات الشعوب إلى قضايا ماضوية تعبر عن منطق رجعي لرواد الليبرالية المتوحشة. فبعدما كان المقصود الإيديولوجي هو ترسيخ الثقافة النيوليبرالية الاستهلاكية الخاضعة لدوران السلع في السوق في مختلف المجالات الترابية العالمية، وتحويلها إلى خاصية ثقافية جديدة للإنسان العالمي، حولت الآلة الرأسمالية النقاش من ما هو اقتصادي تنموي إلى نقاش هوياتي حيث اندلع في فرنسا نقاش الهوية ( من هو الفرنسي؟)، ونقاش الحجاب ثم البرقع، واشتداد النقاش حول جنسية المواطنين من أصل أجنبي وشروط نزعها،.... كما اشتدت هذه النقاشات بحدة أكبر في أمريكا بمناسبة ذكرى 11 شتنبر الأليمة وكذا في إسرائيل حيث لم تستسغ التيارات اليمينية المتطرفة مرارة النكسات الاقتصادية والسياسية وحولتها إلى حرب على الإسلام ( التهديد بحرق نسخ من القرآن، مواجهة قرار بناء مسجد قرب الأمكنة التي تعرضت للإرهاب، ورفع إسرائيل لعتبة التفاوض مع الفلسطينيين إلى درجة فرض الاعتراف بيهودية الدولة العبرية كشرط أولي، ودعم التيارات العرقية في الدول المغاربية والعربية،...إلخ). وفي هذا السياق، وبعيدا عن افتراض كون الحرب الآنية المزعومة على الإسلام ما هي إلا تجارب لجس نبض ردود فعل الشعوب المسلمة ومن ثم تقدير مستوى فعالية آليات الغزو الثقافي النيوليبرالي الغربي وما تفرزه من مبررات واهية للهجوم على المسلمين لتحقيق المزيد من التطبيع الثقافي، نقول إن هذه الحرب ذات الذرائع المبتدعة «قذرة» لكونها تستند إلى ظواهر لا علاقة لها بروح الإسلام السمحة المنفتحة على الآخر، «قذرة» كذلك لأنها تستند إلى تأرجح المواقف تجاه الإسلام على أساس المصالح الغربية. فلا يجب أن ننسى الاستغلال الغربي الإيديولوجي للإسلام في محاربة المد الشيوعي السوفياتي في أفغانستان، واشتداد الحرب بين إيران والعراق تحت ذريعة الحد من المد الشيعي،.... فما تقوم به التيارات اليمينية المتطرفة بدعم من الكنائس ذات التوجهات الدينية المختلفة، والتي تسعى لاسترجاع سلطها المفقودة، لا يمكن أن نفهم منه سوى محاولات لتغطية حساباتهم الإيديولوجية الخاطئة. إن الترتيبات الإيديولوجية التي تنهجها الليبرالية المتطرفة أصبحت مفضوحة، وأن استخدام الهجوم على الدين الإسلامي كمطية لربح الوقت ولتحقيق مصالح ظرفية لم تتمخض عنه إلا الويلات وسوء الفهم والتهديد بالفتن. على رواد هذا التيار الاعتراف بأن التطرف الديني من صنعهم وانقلابه على صانعه أمر لم يكن في الحسبان، وأن التواطؤ مع التنظيمات المتأسلمة المصلحية لا أمان له. على اليمين في أمريكا وأوربا الاعتراف بكون الدين الإسلامي أوسع وأرحب من أن يستغل أو يستعمل أو يحتكر من طرف طيف من البشر، وأن التآمر من أجل ذلك لن يقود حتما إلا للعنف والإرهاب الخارجين عن دائرة قيمه الإنسانية السمحة. مصلحة العالم تتجلى في ولادة إرادة سياسية غربية عادلة جديدة تحقق الاستقرار والسلم في المشرق العربي وفي العالم المغاربي بجعل المغرب من طنجة إلى لكويرة فضاء منفتحا على جنوبه الإفريقي وشماله الأوروبي وشرقه المغاربي والمشرقي. إن أنسنة العالم تستدعي الابتعاد بشكل نهائي عن خلق الذرائع والمسببات الواهية لزعزعة الاستقرار من خلال دعم النزعات العرقية والعقائدية في الدول العربية والمغاربية. نقول هذا لأننا نؤمن أن القوة الحضارية للشعوب العربية والمغاربية بثقافاتها وتراثها المتنوع وعقيدتها الإسلامية جد متجذرة تاريخيا. لقد أكد التاريخ قابليتها للتغيير والتطور والتحديث، وفي نفس الوقت مقاومتها للإيديولوجيات الهدامة. إن الكونية، كمفهوم يعبر عن إرادة سياسية للتنمية البشرية في المعمور تساعد على خلق مقومات جديدة لمجتمع كوني، لن تتجسد على أرض الواقع إلا بسلام دائم في الشرق الأوسط وبمنطقة مغاربية موحدة وقوية. وهنا، أعتقد أن ما يقوم به المغرب داخليا وخارجيا، كنموذج للتعددية السياسية والثقافية، يحتاج إلى المزيد من الدعم الدولي لأنه يعبر عن جوهر الانشغالات الجهوية والدولية. فتطوير قيم الديمقراطية ودولة الحق والقانون وتحويل المكتسبات السياسية إلى أرضية صلبة لتحقيق التنمية الاقتصادية، يحتاج إلى وحدة اقتصادية مغاربية تخدم مصالح بلدان المنطقة بشكل تنهي الصراع المفتعل حول الحدود الترابية بين المغرب والجزائر. وفي هذا الباب بالذات، يعتبر مشروع الجهوية الموسعة إشارة سياسية قوية للشعوب المغاربية تعبر عن عزم الدولة والمجتمع المغربيين على جعل الديمقراطية في خدمة التنمية الاقتصادية في مجمل التراب الوطني. إنها إشارة كذلك لدفع عجلة المفاوضات بشأن مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية إلى الأمام. واقتباسا لما قاله جواد شفيق في حواره مع جريدة الإتحاد الاشتراكي يوم 17 شتنبر 2010، نقول إن ما يعرفه المغرب يعد مرحلة إعدادية لتوسيع آفاق التفاوض والبرهنة عن جرأة الدولة المغربية ومغامراتها لتوطيد الوحدة عبر الديمقراطية والحداثة في مجمل التراب الوطني. إنها كذلك رهان تحفيز الشعوب المغاربية على الدفاع عن انتمائهم الثقافي المشترك وتحويله إلى دعامة للتقدم في المنطقة، وبالاعتزاز كذلك بتاريخها المشترك بما في ذلك نصرة الحقيقة التاريخية التي تجعل من الحديث عن الصحراء المغربية مجرد تثبيت تاريخي لا يرتفع، وتجعل من توصيف «الصحراء الغربية» مجرد توصيف دولي جغرافي ظرفي لصحراء مغربية مائة في المائة. إن التحول الذي يعرفه المنطق السياسي المغاربي والعربي المتجسد في ميله لنصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة، وتشبثه الدائم بمشروعية القضية الفلسطينية، واحتكامه للتفاوض كأساس لحل النزاعات المختلفة، وتوفره على رصيد فكري ثمين بأبعاد كونية وحضارية، وقوة طموح فاعليه السياسيين في بلورة رؤية عقلانية جديدة للدين الإسلامي مع استبعاد منطق استغلاله لشرعنة مختلف السلط التقليدية،.. يحتاج إلى منطق جديد في السياسة الغربية يتجاوز النظرة العدائية للإسلام التي اتخذت أشكالا مختلفة منذ العصور الوسطى، وتتجاوز كذلك المنطق الاقتصادي الرأسمالي «الوحشي». لقد حان الوقت لتجاوز منطق التسابق على التراب المشرقي والمغاربي من باب اعتباره مجالا للفرص من أجل الربح. إن تفاقم حدة التهديدات الآتية من دول جنوب الصحراء (الهجرة والفقر والإرهاب) يفرض حالة استعجال تستدعي بلورة نظرة جديدة تجعل من تفاعلات الحاضر ورهانات المستقبل المختلفة دافعا قويا لإنضاج مشروع كوني جديد أساسه الاندماج والتشارك، مشروع لا يترك مجالا لتفاقم الظواهر المهددة للاستقرار والأمن عبر العالم. فلا سبيل لربح رهانات المستقبل بالنسبة للعالم الغربي سوى أنسنة ودمقرطة سياساته وتقوية آثاره الإيجابية على مختلف مناطق المعمور، وخاصة دعم التوجهات الديمقراطية الانفتاحية في العالمين العربي والمغاربي من خلال تسريع وتيرة بناء مجموعة البحر الأبيض المتوسط، وتحويله إلى مجموعة جهوية تراعى فيها مصالح الدول المشرقية ودول شمال إفريقيا بشكل يمكن من مد جسور التنمية إلى الدول الإفريقية. وفي الختام نقول إن ردود الفعل الشعبية السياسية المناوئة لقيم النيوليبرالية الجديدة التي يعرفها الغرب، والتي جسدتها بالملموس التعبيرات السياسية لصناديق الاقتراع في مجموعة من الدول، تحتاج إلى دعم حقيقي بآليات قوية تجعلها في منأى عن استراتيجيات العرقلة التي تنهجها التيارات اليمينية المتطرفة، والتي لا تتوقف عن ابتداع الذرائع الواهية لإخفاء القائمة الطويلة لجرائمها. إن ما تثيره من نقاشات مبتدعة بشأن مجموعة من القضايا المرتبطة بالإسلام كقضية حرية المرأة، وتطبيق الحدود الشرعية في مجموعة من القضايا، ومفهوم الجهاد وربطه بالعنف ورفض الآخر،...إلخ، كلها نقاشات جانبية ومموهة يراد بها تحويل أنظار الشعوب الغربية إلى أوهام الصراعات الحضارية البالية لتفادي المحاسبة على فشل سياساتها. يقومون بذلك وهم يعلمون أن كبار المفكرين العرب المعاصرين قد أفنوا حياتهم في البحث وبرهنوا بالحجج العلمية والشرعية عكس ما يدعون. إن كتابات كل من الجابري وأركون يرحمهما الله، وبرهان غليون، وفؤاد زكرياء، ونصر حامد أبو زيد، والطيب التيزيني، وحسن حنفي، وحسين مروة، وآخرين قد ترجمت إلى عدد من اللغات، وما على أنصار النزعات الرجعية الغربية الطامحة لخلق مواجهات عقائدية أو عرقية جديدة إلا الاحتكام إلى الموضوعية بتحويل النقاش إلى دعامة لما يميز العالمين العربي والمغاربي الإسلاميين من تطورات فكرية وسياسية قابلة للتحول إلى مشروع نهضوي جديد أساسه العقلانية المثبتة للتسامح والحوار الحضاري السلمي. ما يحتاجه عالم اليوم ليس المغالاة في الديماغوجية المصلحية والتحريض وخلق النزعات والنزاعات غير المبررة، بل يحتاج إلى المعرفة لضبط العلاقات الحضارية والتاريخية وتحويلها إلى طاقة محركة للشعوب والأمم في اتجاه توطيد عدالة اجتماعية دولية تحترم فيها الخصوصيات الحضارية والهوياتية. يحتاج العالم إلى تلاحم الفكر والسياسة على أساس اعتماد العلوم المختلفة كاللسانيات، والابستمولوجيا، والسيميولوجيا، والأنتروبولوجيا، وعلم الأديان المقارن، وغيرها من الأدوات الفكرية والمنهجية العلمية الحديثة.