إن كان أمر المهدي قد فاض حوله من صحيح الأخبار حدّا فاق فيه ما ورد في كثير من أصول الاعتقاد الأخرى أو ضارعها، فإن مفهوم الغيبة يطرح جملة من التساؤلات تتطلب إجابات وافية. مثلا، كيف ولم وأين غاب المهدي ، على فرض تسليمنا بولادته ؟ ثم ما معنى أن يغيب وما الدافع للغيبة وأي منفعة من الغيبة وهل أصلا بالإمكان أن تطول الحياة بإنسان كل هذا العمر وما هي المقاصد وراء ذلك؟ ثم بات واضحا أن الجواب عن هذه التساؤلات لم يكن معلقا، بل قد تم الجواب عليه قبل قرون عدة. وهذه المقالة دليل على ذلك ، إذ هي قراءة تركيبية في مبحث الغيبة وقضاياها، يركزّ على الدليل العقلي لإثبات إمكان ذلك ، بعد أن قال النصّ كلمته . يصلح ذلك جوابا على كثير من التساؤلات التي تبدو مشروعة ما لم تتحول إلى لجاج. فإن كان من حق السائل أن يسأل ، فواجبه أن ينصت للجواب. أما أن يسأل ثم يجيب نفسه بنفسه جواب الفضولي من دون توكيل، فهذا ليس من معقول المناظرة ولا أخلاقها. إذ لا مجال للمزايدة بالعقل والعقلانية في موضوع لا مهرب فيه من الدليل. فهل حاد المعتقدون بالمهدي وغيبته حقّا عن حدود العقلاني والمعقول كما يصفهم خصومهم ؟ ربما لو سايرنا هذا الضرب الهجين من مزاعم العقلانية الإنشائية كعنوان عريض في معرض اللّجاج وليس الحجاج ، لما أبقينا على أصل من الأصول. تنهض العقلانية على قواعد مقررة وشاملة وليست عنوانا فارغا للتلويح . غيبة الإمام عند الشيخ ميثم البحراني أحببنا تخصيص هذه المقالة لبحث مسألة الغيبة من خلال كتاب النجاة للشيخ كمال الدين ميثم البحراني ، على ما فيها من إيجاز، لكنه، إيجاز زاخر بالمعاني، مكثف يستدعي حمولة نظرية عالية وشامل لكافة الاستشكالات المفترضة.. وكان ذلك تحديا فرضه اختيارنا لمبحث يحتل مساحة صغيرة من الكتاب لا يتعدى الأربع صفحات، بل كان من المفترض أن تكون ثلاث صفحات لولا إطنابه عبر شواهد شعرية في المقام الثالث من مبحثه المذكور. التحدي الذي يفرض نشر ما طواه الكاتب معاوضا إياه بمختصر نافع يستقوي بدربة التفهيم ومكنة التقسيم . والغاية من ذلك بيان وجه الحجاج السائغ من داخل ما قل ودل ، فإذا به شاهد بالأولوية على ما كان قد انسدر به يراع الشيخ في مقامات أخرى. ومع أن الحديث عن الغيبة قد وسعه القوم بحثا حتى بلغ الموسوعية في التصنيف ، فإن الأربع صفحات من كتاب النجاة لشيخنا ميثم تؤكد على أنها مستوعبة لكل هذه الحقائق وإلا لما أمكن حصر الاستشكالات بالطريقة التي سنرى.غير أننا سنلوذ من داخل كتاب النجاة بمبحث آخر له علقة مباشرة بمبحث الغيبة ، يتعلق الأمر تحديدا بالبحث الثالث حول فساد ما قالته الطوائف من الشيعة المنكرين لواحد واحد من الأئمة الإثني عشر. وقيمة هذا البحث تصب صبا في مبحث الغيبة للجنبة المتعلقة باستمرار الإمامة في ولد الحسين ع إلى حدود الثاني عشر عج . وهو ما يعضد المقام الرابع من مبحث الغيبة الذي يتعلق بأن المدعى إمامته وغيبته هو هذا الإمام. وهذا لا يستقيم إلا برد فساد من حصرها أو انزلق بها في اتجاه من لم تثبت لهم إمامة بنص صريح ولا ثبتت لهم ختمية الولاية الخاصة ببرهان سديد. وقد امتد القول في هذا المقام ليشمل عشر طوائف واتجاهات مع إبطال نكيرها لواحد واحد من الأئمة الإثني عشر، حيث أي انزلاق في أي طبقة أو مرتبة لا يسمح بوصول النوبة إلى الحجة الثاني عشر عج . فيكون الوقوف على ذلك من ضرورات مبحث الغيبة وإن كان الشيخ ميثم البحراني قد قدمه وأفرده عن المبحث المذكور. وعليه ، يصبح الحديث في المقام الرابع من مبحث الغيبة من كتاب النجاة بضميمة البحث الثالث المذكور أعلاه ، وإن بدا أصغر من باقي المقامات ما عدا الثاني ، هو أطول المقامات بلحاظ الضميمة نفسها. ثم إذا كان بحث الغيبة يأتي طوعا بعد أن ينتهي الباحث من مسألة الإمامة وما يتفرع عنها من مسائل تخص شروطها وأحوالها ، فإن الإمامية الإثني عشرية يجدون أنفسهم معنيين ببحث الغيبة نظرا لحتمية العدد ونظرا لضرورة عدم خلو الأرض من حجة. وفي الوقت ذاته يدرك الشيخ ميثم أن الحديث عن الغيبة متأخر رتبة عن بحث الإمامة. فمن جهة يدرك أن بحث الغيبة لا زم لعلقته الشديدة بوقوع الإمامة واستمراريتها. ومن ناحية أخرى يدرك أن لا حديث عن الغيبة إلا بناء على القول بالإمامة تأكيدا على اللزوم، لأنها بمثابة لزوم المقدمة لذي المقدمة. وهذا يكفي نباهة حينما ندرك أن أي حديث عن الغيبة مقدما عن بحث الإمامة لا يفي بالغرض بل هو بخلاف مختار العقلاء ، لأن الأمر يتعلق ببناء نسقي، لو أننا أتبعنا طريق الاجتزاء من السياق وخرمنا منطق التراتبية والتقديم والتأخير الضروري للنسق ، فإننا لن نظفر عند الصاحب والخصم برأي مستقيم..بل هو ضرب من العماء ضار بالمباني العلمية، لو أننا سلمنا به وطبقناه على حقائق القرآن طرا لألفينا أنفسنا أمام آراء يتعذر التسليم بها. تصور لو أننا بحثنا رأسا مسألة المعراج قبل بحث التوحيد والنبوة ، إذن ، لعز علينا التصديق..فحقائق القرآن تنهض على صدقية التوحيد والنبوة..وصدق الرسالة متوقف على التسليم بحقيقة المرسل والرسول..ومع أن مبحث الإمامة يعنينا كمقدمة في بحث الغيبة إلا أننا سنحصر الحديث عن الغيبة ، ونفترض في القارئ إلماما بمقدمات بحث الإمامة، فالفصل هنا ليس من باب الاستغناء عن بحث الإمامة ، بل هو فصل يقتضيه حصر الموضوع واختصاصه في باب من أبواب كتاب النجاة ، وفاءا إجرائيا بعنوان الورقة، حيث المقصد بيان كيف تعاطى الشيخ ميثم مع موضوعه للوقوف عند ما وصفناه بالحجاج السائغ في خطابه الجامع. * * * لقد قسم الشيخ ميثم بحثه في مسألة غيبة الإمام إلى مقامات أربعة، أوجز في كل منها ما يبدو جامعا مانعا من ضروب الاحتجاج . وهي كذلك لمن وقف عند مجمل الإشكالات الواردة في البين. لذا اعتبرنا أن الشيخ ميثم البحراني كان يتوقع قارئا خاصا وليس عاما . والإجمال هنا لا يعتوره فوت في مطالب رئيسة ، بل هو طي متقن علقت مفاتيحه على مشجب المفاهيم المكثفة ، حيث يمكن إعادة نشر المطلب مع مزيد استطراد. وهو ما يؤكد على أن كتاب النجاة من الكتب التي تقتضي حواشي وشروحا كسائر المصنفات من هذا القبيل ..ولم يفته في البين أن يستقوي بحس منطقي كبير وهو يعالج قضية كلامية من هذا النوع ليؤكد بذلك على أنه بصدد البحث فيما قد يثبت نقلا أو عقلا عند الاقتضاء. الطريقة التي سرت في أمثلت أخرى من جيل الشيخ ميثم والذي تلاه ، وهي في أجلى مثال واضح لها مع صدر المتألهين الشيرازي الذي ارتقى بهذه الطريقة إلى حد إعلان المصالحة بين البحث والإشراق ، حيث ما أمكن إثباته برهانا أمكن إثباته إشراقا وأيضا كما ينسى البعض في العادة أن يحصر الجمع الصدرائي بين البحث والإشراق دون أن يضيف النقل المستبصر النقل المؤول للنص ، على خلفية الإنزال المجدد على قلوب التالين له . وهي الطريقة التي زرعت بذورها مع جيل الشيخ ميثم ، أقصد أمثال الخواجة نصير الدين الطوسي وحيدر آملي ونظراءهما..وحظ شيخنا ميثم من هذه الخطة وافر، بل هو من المؤسسين الذين عبدوا الطريق إلى هذا النهج التوفيقي ، حيث أحال عليه حيدر آملي في غير ما موضع ، كما فعل الأمر ذاته صدر المتألهين الشيرازي لا سيما في مبحث الجواهر والأعراض حيث برع في بحثهما ملا صدرا براعة ناذرة فأثبت الحركة في الجوهر كما في سائر الأعراض دون استثناء ، كان بإحالته المتكررة على الشيخ ميثم البحراني في بحثه ذاك في الحاشية على التجريد يعرب عن شيء من المديونية إلى الشيخ ميثم. إن استدعاء شيخنا البحراني للآلية المنطقية في مبحث الغيبة وقبله في تحديد الإمامة[1] ، له دلالة خاصة، سعى من خلالها ليؤكد أن موضوعا كهذا يدخل في باب الغيب المستور لقمين بأن يبحث برهانيا بعيدا عن سلطة المنقول والكشف . كان الشيخ ميثم على يقظة أثناء تعريفه للإمامة في مفتتح كتاب النجاة ، مستدعيا كمنطقي قدير أن مجرد الاستناد إلى التعريف الكلامي لا يحرز تمييزا تاما للمعرف، حيث اكتفاء المتكلمين في العادة بالحد الأدنى من التمييز لا يرضي المنطقي ، وأحسب أن شيخنا ميثم كان منطقيا برهانيا في المقام أكثر من كونه بيانيا متكلما. فانظر تجد أنه بعد أن عرف الإمامة بالرئاسة العامة لشخص من الناس في الدين و الدنيا ، اعتبر أن الاحتراز بكل هذه القيود أو الخاصة لا يحقق التمييز الحقيقي إلا بانضمام القيود إلى بعضها في صورة ما يسميه المناطقة بالخاصة المركبة، وأما مع تفكيكها والاستناد إليها كلا على حدة فلا يحترز بها عن المشترك، هكذا فإن كونها رئاسة عامة لا يميزها عن السلطنة الجائرة لأنها من جنس الرئاسة العامة ، وكونها في أمور الدين والدنيا لا يميزها عن الرئاسة الخاصة ، حيث ليس كل رئاسة في أمور الدين والدنيا هي عامة ؛ فغاية القول أن القيود المذكورة لا تحرز التمييز إلا بانضمامها إلى بعضها البعض ؛ وهو مفاد الخاصة المركبة..فتكون الرئاسة جنسا قريبا للإمامة، وباقي القيود منضمة إلى بعضها خاصة مركبة. وهذا اختيار حجاجي هادف، يؤكد على أن ذلك النمط من الاستدلال العمدة في التمنع عن الاستنتاج الإيجابي في القضايا الغيبية هو الذي سيصبح مع الشيخ ميثم العمدة في إثبات الغيبة بل الوصول بها برهانيا البرهان المنطقي بالمصطلح الخاص إلى حدود الضرورة. فيفهم من ذلك أن المسائل الغيبية ليست آبية عن التناول بالبرهان المنطقي عند الاقتضاء على دعوى حصريته، إذا ما أدرك المحقق الباحث كيف يستعمل الآلة في بلوغ المطلوب بخطوات ومقدمات تراعي الترتيب في الحدود والدقة في القسمة المنطقية وتجتنب ضروب المغالطة .. وقد سبق وأكدنا على الطبيعة الوظيفية للبرهان عند الحجاجي ، حيث قد تتنزل منزلة الضروري والمطلوب من باب كل بحسبه ، وقد علمت المتلقي المفترض من شيخنا ميثم ، وهو جمهور الحجاجيين والخواص ممن هم خارج حضر العقليات ممن شملوا من الأغمار واستهدفوا بقانون لجم العوام عن علم الكلام..ثم لو شئنا قلنا إن الحس الحجاجي الذي يبدأ مع شيخنا من جملة افتراضاته للاشكالات الممكنة في مراتب التقدم بالبرهان نحو النتيجة إلى اعتماد الآلة المنطقية لإثبات ما هو مؤكد بمنطق المنقول من باب اعتماد المحصور الصعب في إثبات الأوسع البعيد عن منال التحديد ، لمحفوفيته بأسرار الغيب الداعي إلى التسليم بالمنقول ابتداء ، وليزاحم من يفترض أن يدفعوا الاعتقاد بالغيبة بناء على الآلة نفسها حيث قصاراهم إن لم يرضوا بنتائج الصناعة أن ينقلوا الإشكال إلى صميم حجيتها، فإذا بالموضوع يغدو ضربا من المفارقة، فتحيد الآلة رأسا ويعود النقاش إلى ما دونها أو ما فوقها في سلم الحجاج. وهذا الاستناد على البرهان المنطقي ليس بالضرورة انحصار الدليل في الغيبة فيه ، بل هو استناد من باب الحجاج؛ أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فقاعدة الإلزام هي قاعدة حجاجية وليست برهانية بالمعنى الأرسطي، وهي الطريقة المتبعة في المحاورة الطبيعية التي اعتمدها القرآن الكريم ، وعبر عنها خير تعبير، لما قال: "وشهد شاهد من أهلها"..أو "فبهت الذي كفر" ..وأيضا الاستناد إلى الآلة في الاحتجاج على صحة الغيبة فيه نكتة بعيدة المدى، حيث إن كانت الآلة القاصرة الحصرية أمكنها أن تثبت صحة هذا الاعتقاد ، فمن باب أولى أن تتأكد حجيتها مع آلة قادرة مفتوحة ، نظير النقلية والكشفية كما تقدم..وهذا يتأكد استنادا إلى الأولوية القطعية. قلنا أن الشيخ ميثم كان قد قسم بحثه المذكور إلى أربعة مقامات ابتدأها في المقام الأول بمعالجة مسألة أسباب الغيبة وثنّى بمقام بحث إمكان بقاء المزاج الإنساني للمدة المدعاة للإمام الغائب وثلث بمقام ثبوت بقاء الأمزجة في أمثلة كثيرة مشهورة وربع بمقام بحث أن المدعى إمامته هو الإمام المعين. ويبدو للمطلع أن الشيخ ميثم البحراني كان قد استوفى وجوه القسمة الأخيرة حتى كادت تكون بلحاظ مجمل الإشكالات الكلامية التي أثيرت حولها ، أشبه في حصرها بالحصر العقلي ، مع أننا نأبى إثبات الحصر العقلي في مقام الحجاج للنكتة التي ذكرناه آنفا ، أي بقاء الهامش مفتوحا أمام الممارسة الحجاجية ومقتضاها انفتاح الحصر لو صح التعبير، أي أن لا يكون حصرا عقليا ولا حتى منطقيا ، بل لنقل حصرا حجاجيا مفتوحا على الاحتمال، حصرا مقاميا ليس إلا . ولا نخال أنه فاته من وجوه الاستشكال أمر ورد في زمانه أو حتى في زماننا ، إذ كل الاستشكالات لم تبرح أن تكون واحدة من تلك المقامات أو جزئية قابلة للانضمام إلى كلي هذه المقامات..ويشهد الجدل الجاري حول موضوع الغيبة والمنكرين على الإمامية الإثني عشرية ، على أن النقاش لم يبرح الخطوط العريضة لهذه المقامات التي حددها الشيخ ميثم في أربعة مقامات ، ولا من أنكر أتى بما يصلح أن يكون قيمة مضافة في هذا المجال.. فيتبين أن المعالجة الميثمية هي معالجة حية ومعاصرة ، بل لعل الكثير من معطيات العلم الحديث تؤكد أهميتها وتجعلها قابلة لأن تقرأ أفضل في عصرنا ، لا سيما ما يتعلق بمسألة إمكان بقاء الأمزجة التي تجد في العلم الحديث بخصوص العضوية الحية ما يثبت به المراد. وقد استند الشيخ ميثم على هذه الطريقة كما قلنا في معرض الاحتجاج على الخصم ، ولذا نصب غاية في هذا الاختيار المناهجي لعرض بحث الغيبة لما قال:" وعند بيان هذه الأمور نبين لك إنكار ما يقول الاثني عشرية في أمر الغيبة جهل محض من منكريه، وعصبية باطلة في مقابلة الحق " (ص191...). ولا غرو أن يقظة الشيخ ميثم المنطقية تجعله لا يلقي الكلام على عواهنه في المقام. فوصفه للجهل هنا بقيد المحضية احتراز عن المركب، كما لو كانت المحضية في المقام مرادفة للبساطة ، للجنبة المعروفة في هذا التمييز ، حيث لو وصفهم بالجهل المركب لكان قد ألقى عن كاهلهم مسؤولية النظر ، واعتبر جهلهم المركب مما يستوجب فراغا يقينيا لمقام القطع الذي قد يشتمل على الجهل المركب، الذي هو من أقسام العلم عند شرذمة من القوم. فاعتبر الأمر مضارعا للجهل البسيط الذي لا يفرغ ذمة عند التهاون في البحث والتراخي في طلب الحق.. وهذا ما تفسره قرينة السياق حينما اعتبر الإنكار على الإمامية في المقام من باب العصبية الباطلة مقابل الحق، حيث التعصب للحق أولى..فيبدو للناظر أن حامل الجهل المركب يقع في جهلين: أحدهما جهله بالحكم الواقعي..والثاني جهله في تطبيق الحكم الواقعي ؛ وهذا تحصيل حاصل ، فمادام جهل الحكم الواقعي فحكمه به سيكون تطبيقا للجهل الأول..فالثاني من جهة مناسبته للأول هو علم ، لأن الجاهل في هذه الحالة طبق ما حسبه علما وقطع به ، حيث لو لم يقطع لما حكم ، فهو بمنزلة العلم عنده، وه في تطبيقه له كالعالم عند تطبيق معلومه. لكنه من جهة الواقع هو جهل في جهل. كمن قطع باستحقاق شخص للقتل وكان في الواقع نبيا ، وحصل التجري كما هو مبحوث في باب القطع من الأصول؛ فعلى رأي سلطان الأصوليين ، لا عقاب على هذا التجري. هذا بالإضافة إلى أن من جهل جهلا بسيطا توقف عن إصدار الحكم وكان في مقام اللاأدرية ، فوقف جهله بالمطلوب الواقعي واستوى الحكم في الوسط حيث لا من مرجح علمي لطرف القبول على النكير والعكس يصح.. فحسب هذا التوجيه قد يفهم أن المحضية قد تكون إشارة إلى منتهى الجهل ، وهو الجهل المركب من كل الجهات ، فلا يعقل حينئذ أن يكون صاحب الجهل المحض في المقام هو صاحب جهل بسيط بلحاظ النكتة المذكورة ..إلا أننا نرد ذلك بأنه لا ينكر الجاهل جهلا بسيطا أمرا حتى يكون أحد نوعين : منكر جاد قاطع أو منكر عابث مستهتر. فالأول وهو المعتد بحكمه إن كان قاطعا بمقطوعه رائيا فيه الحق كله ، ويلحق به المشتبه حيث القاطع على جهل مركب لا يقطع إلا عن شبهة . والثاني منكر معاند مستهتر لا يلتفت إلى قطعه عند العقلاء ، بل هو معيب متى أدرك أن ذلك مخالف للحق. وعليه فلا يحكم الجاهل جهلا بسيطا إلا إذا قطع لشبهة ما ، فيلحق حينئذ جهله بالجهل المركب وخرج تخصصا عن مقامنا..أو يكون مستهترا عابثا فهو ملوم في تراخيه محاسب على عناده..وأما صاحب الجهل البسيط فهو لا يحكم إلا أن يخرج من جهله البسيط إلى الجهل المركب . وأحسب أن ذلك مراد الشيخ ميثم وليس الجهل المركب ، بقرينة قوله: وعصبية باطلة مقابل الحق..فلو كان الجاهل قاطعا برأيه رائيا فيه الحق لما كان معنى لمعاتبته بالعصبية الباطلة. والحق أن ما يظهر من سير المناظرة في هذا الأمر يؤكد أن مدار الاحتجاج حول جهل الخصم بالمدعى وعدم استئناسه بالمظان، ولشدة البعاد ورفض الوصال. فإن كان مدارها بين جهل مركب وجهل بسيط ، فإن العمدة في جهالات الخصم من نوع البسيط ، فيكون شيخنا قد أشغل ذمة الخصم بتصعيد الجهد في معرفة الآخر قبل أن يروم هجاءه؛ فمادام أمام الجهد مندوحة فلا مسامحة مع التراخي إن كان من آثار التراخي حصول ضرر كبير لا يحتمل. وهذه أحسبها مقدمة ضرورية في مسألة التقارب بين المختلفين من هذه الأمة. فإلزام كل طرف بأن يجتهد وسعه في معرفة الآخر هو مقتضى التعارف المطلوب ؛ معرفة متبادلة تزيل عن العقل الجهل النظري ومعروف متبادل يزيل عن القلب الجهل العملي..وتلك غاية الإسلام أن يمحو من عرصاتنا الجهلين معا..النظري والعملي..وبتعبير آخر؛ الجهل والجاهلية. كيف عالج شيخنا تلك المقامات إذن ، وكيف ظهر له كفايتها في إلزام من أنكر على الإمامية الاثني عشرية في مسألة الغيبة؟ في ذكر أسباب الغيبة والعلّة وراء ذلك؟ لم تأب الإمامية الحديث عن التعليل في مقام الأحكام الشرعية والسنن التكوينية ، رغم اشتهارهم بحضر التعليل والقياس في الأحكام الشرعية، حيث ما منعهم من ذلك إلا اجتناب الظنون غير المعتبرة في التعدي بالأحكام إلى الموضوعات الجديدة التي لم يجدوا لها حكما، فلم يتسامحوا في اعتبار المناط وجريان القياس إذ وجدوا في الأصول والقواعد ما يغني عن ظنون القياس الأصولي وما لا يبعد المكلف المعني بالخطاب الشرعي كثيرا عن أمارة لسانها كاشفي أو أصل اختصاصه إنشاء الوظيفة العملية ، وكذا في المسائل التكوينية الداخلة في حاق الغيب المستور إلا ما كان منصوص العلة أكان من سنخ التشريعيات أوالتكوينيات ، وقصاراه ما جاء في رائعة الشيخ ابن بابويه القمي في علل الشرائع التي تضمنت الكثير من ذكر العلل في مجال التكوين كالعلل من خلق أمور شتى، حيث كان أجدر أن يسمى علل الشرائع والأكوان ، لكان أعم وأبلغ ، وهو كما علمت تأكيد على ما جاء منصوصا من ذكر العلل. ولقد تطرق الشيخ الصدوق (ق.س) في كتاب العلل إلى ذكر العلة وراء غيبة الإمام إستنادا إلى نصوص تكاد تشترك جميعها في علة الخوف من القتل. وهو مقتضى النقل الذي بنى عليه شيخنا البحراني كما سنرى. ولا شك أن الخوف من القتل في المقام ليس من جنس الخوف المتعارف عليه عند عموم الخلق، بدافع الحرص أو الضعف الشخصي وما شابه. فمثل هذه الأحاسيس التي يشترك فيها بنو آدم يتعين مقاربتها تنسيبا بحسب مقامات الأشخاص ومكانتهم الاعتبارية؛ فليس خوف زيد كخوف عمرو في التقدير العادي للخوف كإحساس له أكثر من سبب وله أكثر من مرتبة في الشدة والضعف باعتبار حاله في التشكيك. لأن عدم التحقيق في أي نوع من أنواع الخوف يتعلق خوف الإمام بعد أن سلمنا بأنه معصوم في مبحث الإمامة ضرورة، هو تهافت مرفوض.. فلا يجوز في حقه ضروب الخوف التي لها دوافع ناشئة من ضعف الشخص ونقص في أحاسيسه بينما هو الإنسان الكامل، إلا أن يقال أنه خوف من جنس خوف موسى (ع)؛ حينما أخبر القرآن عنه: "فخرج منها خائفا يترقب قال ربي نجني من القوم الظالمين"(21/القصص) ..فمقتضى التناسب الوقوف عند من يخاف ممن؟! وكذا منشأ الخوف وغاياته؛ فكل بحسبه . ولذا وبناء على ما سلف، يكون خوف الإمام ليس خوفا شخصيا بل هو من جنس الخوف النوعي ؛ الخوف من القتل الذي يؤدي إلى خلو الأرض من الإمام ، حيث لو حدث ذلك لا سمح الله لساخت الأرض كما في الروايات، فيكون خوف الإمام شاهدا على عصمته ومقامه ، حيث هو خوف على الرسالة وعلى الأمة؛ وإلا فهو مدرك أنه مشمول في من عصمهم الله، ومصداق:" إن الله يعصمك من الناس"، حيث ليس في المقام ما يؤكد على الموت الاخترامي، الذي تتعطل فيه أدوار الرسالة والإمامة..ومن ثمة ندرك مغزى أنه لا بد له من غيبة. في هذا الضوء نستطيع فهم الأسباب التي جعلت شيخنا ميثم البحراني يقيم دليله على أسباب غيبة الإمام على الخوف في المرتبة الأولى ، لوجود أخبار كثيرة تشترك في ذكر تلك العلة دون أن تجعل الحكمة وراء الغيبة كلها في جانب هذا الخوف كما سنرى لا حقا. من تلك الأخبار على سبيل المثال لا الحصر ، ما رواه صاحب علل الشرائع في باب علة الغيبة، عن أبي عبد الله البرقي عن محمد بن عمير عن أبان وغيره عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله ص : لا بد للغلام من غيبة ، فقيل له ولم يا رسول الله ، قال: يخاف القتل".. وعن عبد الله قال: إن للقائم منا غيبة يطول أمدها ، فقلت ولم ذلك يا ابن رسول الله ، قال: إن الله عز وجل أبى إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم وأنه لا بد له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم..."[2]. في ذلك إشارة إلى ما زعمناه في حق الطريقة الميثمية : أي تقيدها بالمنقول ، وبناءها عليه في عملية الحجاج. يدرك شيخنا البحراني أن استدلاله على الغيبة متصل على نحو نسقي مع بحث الإمامة ، لذا ففي حديثه عن سبب الغيبة يرجع القارئ إلى ما سبق من بحثه حول الإمامة ووجوب عصمة الإمام ، حيث هناك ذكر سبب انبساط يد الإمام المركب من ثلاثة أجزاء: الأول: ما يجب من الله وهو إيجاده وإكماله في ذاته الثاني: ما يجب على الإمام نفسه وهو القيام بأعباء الإمامة الثالث: ما يجب على الخلق وهو الانقياد للإمام ومساعدته في تنفيذ أوامر الله تعالى والقيام بها. وقد جاء ذلك في سياق حجاجي حول وجوب عصمة الإمام من باب اللطف. وكان قد استعرض استشكال الخصم حول نكتة اللطف المذكورة ، حيث لو ثبت اللطف المزعوم على الله لفعله، "ولو فعله لكان ظاهرا". حيث يعلم ضرورة أن المقصود لو حصل كان ظاهرا " متمكنا من الترغيب والترهيب". فلا تقوم المنفعة مع خفائه عن الخلق. في هذا السياق إذن جاء ذكر الشيخ في المقام الأول للأسباب المركبة لانبساط يد الإمام..وعلى أساس الماهية المركبة رد الشيخ ميثم على استشكال الخصم ، حيث قوام الماهية المركبة بأجزائها . فمتى لم يتحقق جزء منها وهو ما وجب في حق الخلق على التقسيم المذكور، وإن تحقق ما في حقه تعالى في إيجاده وإكماله وما في حق الإمام نفسه من قيامه بعبء الإمامة ، لن يكون أي معنى للظهور ضروري نظرا ولا فعل نافع مفيد عملا. هذا دون أن ننسى أن له عج أدوارا بحسب الممكن المتاح وعلى قاعدة الميسور العامة، في شؤون خاصة كما نهض بنظائرها العبد الصالح الخضر والمهدي هو خضر الأمة ، فهي نافعة نفعا شخصيا ، وعلى ذلك النحو حال الحجة عج في انتظار النفع الأكبر والنوعي، ولولا ذلك لما قال تعالى تأكيد لما ينطوي عليه الانتظار من شؤون عظمى :"وبقية الله خير لكم". وجاء في قول ميثم أيضا: " فقد ظهر من ذلك أن سبب غيبة الإمام هو قوة الظالمين والخوف منهم". ومع ذلك يفترض الشيخ ميثم عدم كون الخوف علة لغيبته ، فلا يمنع ذلك من القول بوجود مصلحة خافية من غيبته لا يطلع عليها. وهذا لعمري ما أثبته في قواعد المرام ، حيث أثبت عدم وجوب ذكر السبب "ولم يجب علينا ذكر السبب "[3] بعد أن سلمنا بأنه المعصوم ، ما يعني أن غيبته كانت عن طاعة لا معصية..كما أكد هناك على أن ذلك السبب قطعا ليس من الله لمناقضته لغرض التكليف ولا من الإمام لكونه معصوما فلا يصدر عنه ذلك لمعصية ، انحصر السبب في الأمة والخوف وعدم التمكين، فلا إثم في ذلك وإن ترتب عليه تعطيل الحدود والأحكام عليهم . فما على الله وما على الإمام هو جزء من السبب المركب لانبساط يد الإمام ، ومع اختلال شرط واحد ، لا يتحقق انبساط اليد. فليست الغيبة واجبة إلا مع غياب هذا الجزء من العلة المركبة ، ومع تحققه وارتفاع ما يمنع التمكين أصبح الأصل في الوجوب هو الظهور لا الغيبة، " والظهور واجب عند عدم سبب الغيبة"[4]. فالإطناب في ذكر الأسباب وحصرها في الأمة وبيان سيران اللطف مع غيبته هو دفع لشبهة ما فتئ يتذرع بها خصوم الإمامية في حجاجاتهم. وعجبا أن يرد بعد الشيخ ميثم البحراني من عاد إليها دونما بناء على ما تم دفعه من اعتراض ، نذكر مثالا على ذلك ما أورده التفتازاني في شرح المقاصد: " زعمت الإمامية من الشيعة أن محمد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفا من الأعداء ، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر . وأنكر ذلك سائر الفرق ، لأنه ادعاء أمر مستبعد جدا ، ولأن اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلا الإسم بعيد جدا ، ولأن بعثه مع هذا الاختفاء عبث ، ولو سلم فكان ينبغي أن يكون ظاهرا ، فما قيل أو فما يقال : "إن عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له ، فلا ينبغي أن يعول عليه "[5]. وهو اعتراض متأخر رتبة عن ردود ودفوع الشيخ ميثم وإن كان ورود الشيخ مسعود التفتازاني في القرن الثامن. ومثله فعل ابن تيمية في منهاج السنة حيث جاء رده على ما تضمنه منهاج الكرامة للشيخ ابن مطهر الحلي ، وقد كان هذا الأخير من تلامذة شيخنا ميثم ، فيقول :" وأي من فرض إماما في بعض مصالح الدين والدنيا ، كان خيرا ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامية "[6]. وكما يظهر أن هذه الاستشكالات متخلفة عن اعتراضات الشيخ ميثم البحراني رغم أن هذه الأخيرة هي متقدمة في الزمان..وهي استشكالات لا تأخذ بعين الاعتبار نكتة السبب المركب وسريان اللطف حتى أثناء الغيبة. ومع أن مثل هذه الاعتراضات لا تصمد أمام نماذج أخرى كالدور الذي قام به الخضر ، أدوار لا يستهان بها وقد خلدها الذكر الحكيم كما فصلت في سورة الكهف ، وكما قلنا على وفق قاعدة الميسور العامة ، فاللطف لا ينقطع وهو كذلك لأنه لا ينقطع حتى مع اختلال السبب المركب ، فما هو من الله باقي في حدود ما جرت به أسبابه وما هو من الإمام يفعله بحسب قاعدة الميسور، وما هو من الأمة متى ما ارتفع خرج الأمر من قيد الميسور إلى بسط اليد والأخذ بالحكم الواقعي والدعوة للأمر الخفي ، وظهر أمر الله ، فكان الظهور واجبا. ولذا يستعرض الشيخ البحراني شبهة المعترضين الذين تساءلوا: لماذا لا يظهر لأعدائه وإن انتهى به الظهور إلى القتل كما هو الأمر بالنسبة لأنبياء كثير. ولما لا يكون معدوما حتى يحين إمكان بسط اليد فيوجد . وقد رد الشيخ ميثم هذه الشبهة انطلاقا مما أسس عليه القول أول مرة في مسألة ذكر السبب من الغيبة، وهو أننا بما أننا انتهينا وسلمنا بعصمة الإمام ، أدركنا بالضرورة أن ظهوره لأعدائه ليس تكليفا. بل الظهور على خلاف التكليف. وعدم ظهوره العام لا ينفي ظهوره الخاص ، أو كما يعبر الشيخ ميثم بجواز ظهوره لأوليائه، إذ يحصل بذلك اللطف لهم في غيبته. فيبدو أن شبهة الخصم أنهم جعلوا اللطف قصرا على الظهور وساوقوا بين الغيبة والعدم. وليست الغيبة في حقيقة الأمر سوى خفاء أمره مع استمرار فعاليته ولطفه بحسب المتاح المقدور. على أن أمر المهدي الذي خفي أمره عن الأنظار ليس أمرا كما يتوهمون ، بل هو أمر جلل ، وعظيم ، فهو بقية الله. لكن الشيخ ميثم يذكر شيئا غير هذا ، فيقدم من مصاديق اللطف في الغيبة وسريانه" إذ لا يأمن أحدهم إذا هم بفعل المعصية أن يظهر الإمام عليه فيوقع به الحد ، وهذا القدر كاف في باب اللطف "[7]. فهو تأكيد على أن اللطف أمر يزيد ويضعف بحسب الاقتضاء. لكن لو تحقق منه هذا اليسير لوجب في حقه تعالى ، لأن به يتيسر الطريق إلى الطاعة كما لا يخفى. ولم يأت الشيخ ميثم هنا بما هو متعذرا على الاستيعاب ، بل إن ما بدا من أمر الخضر كما حدثنا القرآن ، أنه أقام الحد وتصرف بأكثر مما يتم أحيانا في الظاهر ، كخرقه للسفينة واستخراجه للكنز وقتله النفس. فالشيخ ميثم يميز في المقام بين الغيبة والعدم، فيرى أن اللطف ثابت في الغيبة لكنه ليس كذلك في العدم. وهو بذلك يكون قد أرسى قاعدة أساسية ، وهو أن المدار في المسألة هو اللطف وليس الغيبة، فالغيبة عارض متى ارتفع السبب وجب الظهور ، لكن مع وجود اللطف وبقائه مع الغيبة تكون الغيبة مقدمة على العدم وأنفع من باب اللطف. فما أوجب الظهور هو اللطف ، وما أوجب الغيبة هو اللّطف أيضا. في ذكر إمكان بقاء المزاج الإنساني في المقام الثاني من بحث الشيخ ميثم لمسألة الغيبة من كتاب النجاة ، يطرق قضية أساسية تتعلق بإمكان بقاء المزاج الإنساني لمدة أطول من المعتاد..وقد استند إلى قاعدة الإمكان ، وإلى أن الوقوع نفسه خير دليل على الإمكان..وكان لا بد من أن نتأمل قيمة هذا الاستدلال خارج حدود المنطق الصوري نفسه ، حيث أمكن تعزيزه بما يثبته العلم في العضوية الحية اليوم، من أن السؤال حول لماذا يبقى الإنسان فترة طويلة على قيد الحياة لا يستدعي الغرابة بمقاييس العلم الحديث من السؤال: لماذا يموت الإنسان؟! فالإنسان مزود بكل وسائل الاستمرارية والمناعة ، وأن الشيخوخة والمرض والموت بمدلولها البيولوجي هي عوارض على كمال العضوية الحية، فليس مستحيلا في نظر البيولوجيا أن تمتد حياة الإنسان إلى آماد طويلة.. لكن بالنسبة لشيخنا ميثم الذي عاش قبل قرون لم تصل البشرية إلى تحقيق ثورتها في مجال علم الأحياء وما يعضدها من علوم أخرى ، لا يجد غرابة في التأكيد على علمية هذا الضرب من الغيبة تخفيفا من ساحريته وغرابته ، ليجعله أمرا ممكنا في عالم الإمكان..قيمة هذا الاستعراض لأمثلة حية يعزز هذا الإمكان و الذي وجدنا له نظائر فيما صنفه أعلام الإمامية كما فعل الشيخ الطوسي مثلا في كتاب الغيبة ، إنما هو ضرب من الحجاج الذي يريد البلوغ بمسألة الغيبة إلى درجة من التفهيم الإيجابي الممكن الذي يخرج الموضوع من حاق الغيبيات البعيدة عن الحس إلى حاق عالم الواقعيات الممكنة بناء على قاعدة الوقوع خير دليل على الإمكان..هكذا يرقى البحث في إمكان بقاء المزاج عند شيخنا ميثم إلى مصاف الضروري في الاعتقاد ، أو كما قال:" ويدل على ثبوت الإمكان تواتر الوقوع".. في ذكر ثبوت البقاء في أمزجة مشهورة يستند الشيخ ميثم البحراني على أدلة ملموسة في إثبات إمكان بقاء المزاج الإنساني. وذلك في سياق النزول بمفهوم الغيبة إلى حدود المدارك الواقعية الملموسة القريبة من الحس والخيال. فإذا أمكن ثبوت بقاء بعض الأمزجة ممن عاصرهم أو عاصرهم من يوثق في روايته أو ما يعاصر الناس من تلك النظائر في كل جيل ، فإن ثبوته في الكمل هو من باب الأولوية القطعية. هذا ما يفهم من إيراد الشيخ لشواهد حية لأسماء ثبت تعميرها لأزيد من ثلاثمائة ، وهي أمثلة كثير يمكن الوقوف عليها فيما ذكره الطوسي في كتاب الغيبة نظير الربيع الفزاري الذي عمر 380 سنة وعاصر بعض خلفاء بني أمية أو المستوغر عمر بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد الذي عمر 320 وقال في ذلك شعرا: ولقد سئمت من الحياة وطولها * * * وعمرت من بعد السنين مئينا مائة أتت من بعدها مائتان لي * * * وازددت من بعد المئين سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * * * يوم يكر وليلة تفنينا هذا بالإضافة إلى عدد من الأسماء التي ذكرها الشيخ ميثم وقد أوردها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة وأزيد منها ، حيث يؤكد الشيخ ميثم على تواتر حصول بقاء وامتداد الأمزجة لمدد كهذه . بالإضافة إلى ما جاء في قصص الأنبياء ، الذين عمر بعضهم ألف سنة إلا خمسين عاما كسيدنا نوح ع وهو كافي كشاهد في المقام. وبذلك استدل أيضا في قواعد المرام. فإن قيل إن ذكر أمثلة كهذه حاجج بها الكثير من أعلام الإمامية خصومهم في إثبات إمكان طول المزاج لمدد طويلة على ما يمكنها من جلب القطع واليقين، إلا أن المقام يتعلق بدليل الأولوية القطعية كما تفيد قرينة الحال، حيث ثبوت بقاء الأمزجة عند عامة الخلق تؤكد على إمكانها قطعا في الكمل. غير أن الأمر مدفوع هاهنا ، باعتبار أن القرآن وهو في المقام قطعي الثبوت وما جاء فيه من إخبار وقصص عن خصوص قصص الغابرين داخل في الظاهر و قطعي الدلالة ، كان أيضا تعرض لأنواع من الغيبات بعضها تعلق بأولياء لم تثبت لهم النبوات، بل حصلت الغيبات وحصل معها بقاء الأمزجة لفترات في كائنات موصوفة بقصر التعمير، ككلب أهل الكهف الباسط ذراعيه بالوسيط لسنين عددا ضارعت عمر أهل الكهف أنفسهم. فهي شواهد تفيد الأولوية القطعية..وحتى لو اقتصرنا على مثال بقاء الأمزجة عند بعض الأنبياء المعمرين ، فذلك يحوي إشارة لطيفة، حيث لا مدخلية للنبوة في إمكان بقاء المزاج، ما دام لم يتحقق التعمير في حقهم جميعا، بل إن وقوعه مخالف للعوائد إلا أن يكون ذلك من باب الإعجاز. والإعجاز على نذرته دليل إضافي على الإمكان ، بل الإعجاز في كل ما عدا ذلك لا يختص بالنبوة وغيرها في مقامنا حيث ثبت التعمير لأهل الكهف وكلبهم، فتأمل! وقد استدل شيخنا ميثم في النجاة وكذا في قواعد المرام بدليل المعمرين من عامة الخلق وهو في حكم المعتاد ، وأيضا بما ورد عن خبر نوح ع :" فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما" (العنكبوت/14)، أيضا بدليل ما اتفقت عليه العامة والخاصة من طول حياة الخضر وإلياس. هناك عمد الشيخ ميثم إلى رد ما استبعده الخصم من طول مدة الغيبة إلى نكتة ، تجعل السؤال ممكنا بعد ذلك ، حول ما الفرق بين أن يطول عمر الأنبياء كالخضر وإلياس وعمر الأشقياء كالسامري والدجال ، فهلا أمكن مثله في الواسطة ، أي في الأولياء؟! إن لسان الأدلة التي ساقها الشيخ ميثم ، ترمي إلى جعل الاعتقاد بمدة بقاء الأمزجة سائغا كما لو كان من قبيل المعتاد. فالقصد منها نزع الدهشة من الأذهان ، من خلال توالي الأدلة على وقوع المدد الطولى في حياة المعمرين من العوام أو الخواص.. وهذا يظهر من كلامه :" إن من نظر في أخبار المعمرين وسيرهم علم أن مقدار عمره وأزيد معتاد"[8].ولعله من الطريف أن نذكر كلمة للسيد ابن طاووس تكاد تكون شارحة لهذا الوجه من جعل الاعتقاد في طول الأعمار أمرا مستساغا، حيث يقول(ق.س):" لو حضر رجل وقال أنا أمشي على الماء ببغداد فإنه يجتمع لمشاهدته لعل من يقدر على ذلك منهم ، فإذا مشى على الماء وتعجب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرقوا وقال أيضا أنا أمشي على الماء وتعجب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرقوا وقال: أيضا أنا أمشي على الماء فإن التعجب منه يكون أقل من ذلك ..فمشى على الماء فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل تعجبهم . فإذا جاء ثالث وقال : أنا أمشي على الماء فربما لا يقف للنظر إليه إلا قليل . فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك . فإن جاء رابع وذكر أنه يمشي أيضا على الماء فربما لا يبقى أحد ينظر إليه. ولا تعجب منه . وهذه حالة المهدي عج لأنكم رويتم أن إدريس حي موجود في السماء منذ زمانه إلى الآن ، ورويتم أن الخضر حي موجود منذ زمان موسى ع أو قبله إلى الآن ..ورويتم أن عيسى حي موجود في السماء وأنه يرجع إلى الأرض مع المهدي عج فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم فهلا كان لمحمد ابن عبد الله ص أسوة بواحد منهم أن يكون من عترته آية لله جل جلاله في أمته بطول عمر واحد من ذريته.." [9]. من خلال هذا المقطع من مناظرة السيد ابن طاووس ندرك أن إيراد شواهد من عامة الخلق أو من خواصهم كما جاء في الذكر الحكيم ، إنما كان كافيا للتخفيف من الدهشة ونزع التعجب وإلا انتقل التعجب إلى الشواهد نفسها ، ما دام أن الشبهة في المقام تتعلق باستبعاد طول الغيبة. فإن أمكن هنا لما لا يمكن هناك. فليس في يدي الخصم سوى نكرانا لا يمنع الإمكان ، بل لا يساوق ما وقع. في ذكر أن المدعى إمامته هو هذا المعين وفي هذا المقام وهو الرابع ، يستند الشيخ ميثم على دليل التعيين. فقد ثبت النص على هذا الإمام فيما تنقله الإمامية الإثني عشرية خلفا عن سلف، وكان من أمر الإمام الحسن العسكري أن أظهره ونص عليه، وقد غادر الإمام الحسن الدنيا بعد أن " أكمل الله عقله وعلمه الحكمة وفصل الخطاب"..لقد اكتفى الشيخ البحراني بأدلة الإمامية في المقام ، ولم يقف عند الأدلة الواردة عند العامة وبعض الآثار التي تصلح قرائن على صحة المولد وصدق الغيبة..وهذا مصداق لما سبق من وصفنا للطريقة الحجاجية المتبعة من قبل الشيخ ميثم ، حيث ختم بالقول:" ولو سلمنا أنه لم يوجد بقاء المزاج الإنساني إلى الحد المذكور إلا أن ذلك من الأمور الممكنة ، والله تعالى قادر على جميع الممكان ، ومن مذهب الكل أن خرق العادة في حق الأولياء والصالحين أمر جائز وحينئذ يكون الاستنكار والاستبعاد قبيحا ". فقد عاد إلى مفهوم الإعجاز ليؤكد أن الدليل البرهاني إن لم يف بالغرض، فنحن أهل عقيدة وإيمان، فأمكن أن نتقبل ذلك تقبل المعجزات التي هي عنوان القدرة الإلهية ، ما دام حصل الدليل النقلي على ذلك..وما يعزز رأينا في عدم استشهاده في المقام بما في مظان العامة قوله في قواعد المرم :" وهي أي أخبار ما يعرف به الأئمة من كرامات ومعجزات مسطورة في كتب الآثار عن الأئمة الأطهار من رامها طالعها في مظانها"[10]. أما ما كان من الطريقين الذين سلكهما في الاستدلال على التعيين ، أي ما تواتر من أخبار الإمامية وأيضا لما روي عن الرسول ص من أن أبنه الحسين "إمام ابن الإمام أخو الإمام ابو الأئمة ، تاسعهم قائمهم.." كافي لكنه في الحجاج مطلوب الإكثار لا لعدم كفايته في المقام ، بل لمقتضى الحجاج لا سيما التأكيد على ذكر سنده الثابت عند العامة وتحديدا ابن حنبل..غير أن الحديث عن المعين يقتضي دفع كل ما من شأنه أن لا يجعل الإمامة تصل إلى الثاني عشر ، ومنه دفع آراء بعض الشيعة الذين أنكروا بعض الأئمة ، وهو ما يستدعي إثباتا لواحد واحد من الأئمة. لذا نعتقد أن هذا البحث كان شديد العلقة ببحث الغيبة ومسائلها. وقد حاول الشيخ ميثم أن يؤسس قاعدة للنقاش تستدعي ثلاث نقاط أساسية: إحداهما بما أن لا أحد ممن ادعت الطوائف الأخرى غير معصوم بالاتفاق ، فإن ما ليس بمعصوم لا يكون إماما ، حيث يمكننا القول أن الوجه الذي يجب به الإمام من باب اللطف هو عصمته لا مجرد الأعلمية. وثانيهما أن لا وجود لنص على إمامة أحد ممن زعمت الطوائف المذكورة، وثالثها وبموجب قاعدة الحسن والقبح العقليين المتفق عليها من قبل الشيعة قاطبة ، تثبت أن الحق لو كان مع هذه الطوائف لما انقرضت . "حيث لازمه خروج الحق عن الأمة ". لقد حاج الشيخ ميثم البحراني كل هذه الفرق ودحض مزاعمها بطرق حجاجية سائغة مستوعبا كافة إشكالاتهم مفندا إياها واحدة واحدة ، إذ وقع عند عشرة ادعاءات بدء بالكيسانية ومرورا بالزيدية والناووسية والاسماعيلية والشمطية والفطحية والممطورة والطائفة التي ادعت إمامة أحمد بن موسى والأخرى التي ادعت إمامة محمد بن علي والتي ادعت أن الحسن بن علي لم يمت..كان الحجاج نقليا وعقليا ، حيث اكتفى الشيخ ميثم بذكر الأمثلة العشرة دون أن يتطرق إلى ما عداها مبررا ذلك بقوله:" فهذا هو الكلام على الطوائف المشهورة منهم ، وأما الباقون فكلامهم ظاهر الفساد "[11]. والحق أن هذا حجاج شيعي شيعي بامتياز ، وهو ما ميز الإمامية الإثني عشرية ، حيث بات واضحا أن أي ادعاء وزعم لا يستند إلى دليل وبرهان لن تقوم له قائمة..فتكون بذلك الإثني عشرية وحدها القادرة على الدفاع عن عقائدها بدليل العقل والنقل ، وتنازل جميع خصومها المناظرين بالحجاج والبرهان. لا يوجد ما يفسد في الود قضية حينما يكون النقاش علميا ليس فيه تجريح لحامل هذا الرأي أو ذاك.. وحبذا لو أمكن المسلمين أن يرقوا إلى أن يعالجوا خلافاتهم العقائدية بالحجاج السائغ مع حفظ مبدأ الأخوة ، إذن لأمكن أن يتقدموا بآرائهم ويطوروها..لقد بدأت الاعتزال والأشعرية وباقي المذاهب الكلامية الأخرى متواضعة جدا، لكنها سرعان ما نضجت واتسعت عبر طبقاتها واشتد رأيها وقويت حجتها ، وكل ذلك مرده إلى الممارسة الحجاجية..فالحجاج وحده يستطيع أن يمكن المدارس الاسلامية المختلفة على التطور بصناعتها الكلامية ..ذلك كما سبق وذكرنا بأن طريق الحجاج مفتوح ، وهو يمكن الحجاجي من إعادة الكرة تلو الكرة في مسيرة الحجاج المفتوحة واللانهائية..فهذا التفنيد الصادر من أمثال الشيخ ميثم هو حجاجي يقصد تفنيد الرأي لا استئصال الرائي ، فشتان بين منطق الحجاج وبين إرادة التجريح...لقد رد مقالة الكيسانية التي زعمت الإمامة لمحمد ابن الحنفية ونفتها عمن دونه..ذلك لأنهم بعد أن رأوا في محمد بن الحنفية الإمام وأيضا القائم المهدي ، قضوا بأنه لا إمام غيره وبأنه لا يموت إلا بعض الظهور حتى لا تخلو الأرض من حجة..وقد استدلوا على إمامته بقول على قول علي بن أبي طالب لابن الحنفية : " أنت ابني حقا". واستدلوا بكونه صاحب راية علي بن أبي طالب ع كما كان هذا الأخير صاحب راية الرسول ص . وعلى كونه المنتظر بقوله ص :" لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي واسم أبيه اسم أبي " على أن من أسماء علي عبد الله لقوله:" أنا عبد الله وأخو رسول الله .. الخبر". وقد استدل الشيخ ميثم على فساد هذه الدعوى التي رآها غير موجهة ، بأمور، منها أننا لو سلمنا بأن خبر " أنت ابني حقا" صحيح وهو كذلك لا يشك فيه أحد ، إلا أنه لا يفيد خصوص الإمامة..وهذا واضح حيث التخصيص يحتاج إلى قرينة مطمئنة ، لذا حمله الشيخ ميثم على معنى الشجاعة وطيب المولد تشجيعا من علي بن أبي طالب ع لابنه محمد ابن الحنفية ض على ما كان منه من بلاء حسن..فأما كونه صاحب راية أبيه ، فلا يكفي دليلا ، ولو كان كذلك وجب أن كل من حمل راية الرسول ص أو راية الإمام علي ع نص على إمامته ؟!وأما كونه المهدي فليس في لسان الخبر ما يثبت سوى أن الله يبعث رجلا بتلك الأوصاف ولا يفيد أن المعين هو هذا الشخص ، هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن عبد الله إسما لعلي بن أبي طالب ، فالمقصود من الخبر المذكور أنه نسب لنفسه العبودية لله ليس إلا. هذا دون أن ننسى أن محمد بن الحنفية لم يدع الإمامة وقد أنكر ذلك أمام أنصار المختار الذي سار في طلب الثأر للإمام الحسين ع . وقد سميت الكيسانية نسبة كيسان وهو اسم للمختار. ورد الشيخ ميثم على مدعى الزيدية التي ترى أن الإمامة في علي والحسن والحسين ثم علي بن الحسين ثم كل فاطمي خرج بالسيف هو مستحق للإمامة . وقد رأوا في زيد بن علي إماما نظرا لعلمه وزهده وأمره وجهاده..لكن الشيخ ميثم يذكر بأن شرائط الإمامة هي غير ما ذهبت إليه الزيدية ، بقدرما هي العصمة والنص ، وهما لا يثبتان في حق زيد ض ، وليس لأحد أن يدعي ذلك إلا أن يأتي ببيان..والحق أن ثمة ما يستحق حجاجا أطول من ذلك، فلئن زعمت الزيدية أن شرط الإمام خروجه بالسيف ، فثمة من الأئمة الأوائل الذين اعترفت بهم الزيدية من حمل السيف ولم يحمله بحسب الظروف. فالحسن ع وافق على الصلح ، ولم يرفع السيف بعدها كما لم يرفع الحسين السيف فترة الصلح..وأيضا لم يرفع علي بن الحسين ع السيف أيضا، وكانت حياته زهدا وعلما ودعاءا وبكاء حتى سمي بالسجاد لكثرة سجوده وبذي الثفنات للنتوء الذي سببه كثرة السجود وطوله وبزين العابدين وما شابه. ورد شيخنا ميثم على الناووسية أتباع عبد الله بن ناووس البصري الذين حصروا الإمامة في جعفر بن محمد واعتقدوا أنه الإمام المنتظر الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وحجتهم خبر رواه عنبسة بن مصعب عن الإمام جعفر:" إن من جاء يخبركم عني بأنه غسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه". وقد رأى الشيخ ميثم أن هذا الخبر لا يكفي ، بل إن العلم الضروري بموت الإمام لا يدفعه خبر الواحد. والخبر قد يحتمل الصحة وقد لا يحتملها. فإن لم يصح بطل كل المدعى وإن صح أمكن تسليط التأويل مادام يعارض العقل حيث يجب ترجيح العقل على النقل في المقام. ورد الشيخ ميثم على دعوى الإسماعيلية التي حصرت الإمامة في إسماعيل الولد الأكبر للإمام جعفر بدعوى عدم جواز النص على غير الأكبر أولا وثانيا لأنهم زعموا أن من خالفهم أجمع على أن الإمام نص على ابنه إسماعيل ، ولكنهم رجعوا وقالوا بأنه بدا لله فيه ، فلم يلزموا أنفسهم بقبول مقالة المخالف. ويرد الشيخ ميثم على هذا الزعم بأن النص على الأكبر يكون مع شرط بقائه بعد الوالد ويمتنع مع عدمه، حيث وقوعه حينئذ يكون كذبا ما دام المتوقع من المنصوص عليه أن يكون خليفة الماضي . وأما زعمهم أن الإجماع وقع من المخالف حول وقوع النص قبل البداء ، مردود وغير مسلم به لأن لا وجود لمن أجمع من الأصحاب على ذلك . وأما حديث البداء فلا علاقة له بالإمامة، بل يتعلق بالقتل الذي صرف عن إسماعيل ، كما جاء في الرواية:" إن الله كتب القتل على ابني إسماعيل مرتين فسأله فيه ، فما بدا له في شيء كما بدا له في إسماعيل". وعلى الشمطية القائلين بإمامة محمد بن جعفر وهم أتباع يحيى بن أبي الشمط حيث رووا حبرا عن أبي عبد الله ع :" سمعت أبي يقول : إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي فهذا الولد يشبهني ويشبه الرسول ص ويكون على سنته". لم يسلم الشيخ البحراني بصحة الخبر ، ومع فرض التسليم لا يجوز العمل به في المقام لأنه من الآحاد ، ومع فرض التسليم لا يؤدي إلى المراد بالدلالات الثلاث: مطابقية وتضمنية والتزامية. لم يتوقف الشيخ ميثم عند مقتضى الدلالات الثلاث ، لكننا نقول : لعله أراد بالمطابقية أن الخبر المذكور لم يكن كافيا للدلالة على تمام معناه الموضوع له ، فالشبه وحده لا يتعدى في الدلالة إلى الإمامة بشرطيها العصمة والنص وصفاتها الأخرى. ومقتضى الدلالة المطابقية أن يدل اللفظ على تمام معناه. ولم يحصل هذا في المقام. وحيث لم يثبت ذلك بالمطابقية فلن يثبت بالباقي ، حيث كلاهما فرع للأولى. فلا نتصور الجزء في التضمني ولا ما هو خارج عن المعنى إلا بتصور الكل وما هو دال على نفس المعنى. والحال أن هذا لم يقع. فعل ذلك ما أراد الشيخ ميثم الإشارة إليه فتأمل! لكن لو سلمنا بهذا حسب الشيخ ميثم البحراني ، فسيعارض ذلك بكون محمدا خرج بعد أبيه مدعيا الإمامة ومتسميا بأمير المؤمنين وهو حسب المتعارف عليه عند جمهور الإمامية أمارة على عدم استحقاق الإمامة وهو أمر منكر. وردا على الفطحية القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر ، قال بفساد هذه الدعوى لأن لا وجود لنص من الإمام على ابنه ، وإنما بنوا على الأكبرية . وقد رد الشيخ ميثم القول بأكبرية عبد الله بن جعفر ، مؤكدا على أن الأكبرية لإسماعيل. ورده ثانيا من حيث أن حديث الإمامة في الأكبر ورد مشروطا " ما لم تكن به عاهة". وكل من ذهب إلى إمامة موسى ابن جعفر قالوا على نحو التواتر بوجود عاهة في عبد الله في دينه لأنه ذهب مذهب المرجئة " الواقعون في علي وعثمان" وقول أبا عبد الله فيه:" هذا مرج كبير" وقوله " أما علمتم أنه من المرجئة". هذا فضلا عن أنه لم يتميز عن العوام ولا كان صاحب رواية في الحلال والحرام ولا أهلا للإفتاء ولا كان يجيب في المسائل الصغيرة التي تعرض عليه لما امتحن بها عند خروجه وادعائه الإمامة. فتلك وجوه كافية تشهد على عدم استحقاقه لها. وأما دعوى الممطورة الواقفين على إمامة موسى ع فشبهتهم في ذلك دليلان: الأول قول أبي عبد الله :" ياحميدة بخ بخ ، حل الملك في بيتك" وقوله :" اسمه اسم حديدة الحلاق". فرد الشيخ ميثم أولا بأن المراد بالملك هنا هو الإمامة على الخلق، وثانيا ، عدم التسليم بصحة الخبر ومع فرض التسليم لا يفيد المعنى المذكور بل قد يفيد معنى القائم بالإمامة بعده . وأما القائلون بإمامة أحمد بن موسى ، بناء على كون الإمام موسى وصى بالإمامة إليه وبناء على كون أبا جعفر كان صغيرا، فإنه مردود عليهم حسب الشيخ البحراني ، بعدم التسليم بصحة النص على أحمد بن موسى أولا ، فلم يره أحد من النقلة المعتبرين من الإمامية . وأما عن كونه صغير السن ففيه التباس ، حيث كمال العقل عند حجج الله لا يعارض بصغر السن وقد رأيت مثالا في القرآن لذلك :" كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا" و " وآتيناه الحكم صبيا". وأما القائلون بإمامة محمد بن علي ، بعد أبي الحسن علي بن محمد ، بنص هذا الأخير عليه فهو مردود من قبل الشيخ البحراني ، بسببين: أنه لا وجود للفظ يؤكد ذلك فوجب أن يأتوا به هذا أولا. وثانيا أنهم انقرضوا ولم يبق منهم من يعتد بنقله ولا من يعتبر رأيه حجة في تعيين الإمام. أما الذين زعموا أن الحسن بن علي لم يمت ، فشبهتهم في ذلك لو أنه مات وليس له ولد لخلا الزمان من إمام معصوم . ورد ذلك حسب الشيخ ميثم أن موت الإمام معلوم بالضرورة .كذلك لا نسلم بعدم وجود الولد بعد أن أثبت له جمهور من الإمامية الولد وسموه وشخصوه وظهر لهم ورووا فائضا من الأخبار حول المولود . نقول : إن مجمل هذا الحجاج الشيعي الشيعي حول الإمام المعين يعزز أمورا منها: أن وراء كل هذا الخلاف اتفاق على أمور منها وجوب الإمام مع تفصيل في المقام ، وأيضا كلهم يؤكد على ثبوت المنتظر وإن أخطأ بعضهم المعين..ليكون الخلاف شخصي لا نوعي. وهذا الاختلاف ليس فيه ما يخدش في صدق المهدوية والغيبة بل هو اختلاف تفصيلي نابع عن شبهات ، يؤكد على صدق القضية ، حيث النزاع حول قضية ثابتة لا خلاف حولها من جهة التعيين بل من جهة المعين. أن المدار هو الدليل ، حتى أولئك الذي تشبثوا بأدلة واهية لم تكن آراؤهم عارية عن دليل نقلي وعقلي ، فحق عليهم إن راموا الدليل أن يأتوا به موجها والخضوع لمنطق الحجاج والبرهان. أن يتصدى الشيخ ميثم لكل هذه الإدعاءات لا يعني أن هذه الطوائف كلها متفقة ضد الإثني عشرية ، بل مؤدى كل دعوى من هذه الدعاوى أن تجعل كل طائفة في مواجهة كل الادعاءات العشر المذكورة . ولو أننا تأملنا مجمل أدلة الطوائف الأخرى سنجد أن الدليل الأقوى هو دليل الإمامية الإثني عشرية ، نظرا لأنه آخذ بالعقل المطمئن وآخذ بالنقل المستفيض. ففدلكاته العقلية لا تتوقف عند قرينة غير مطمئنة ونقوله المستفيضة لا تكتفي بالآحاد ولا الشاذ الناذر..فأمكن كل طائفة من هذه الطوائف أن تحتج على الأخرى بما أورده الإمامية في حقها لكنها لن تصمد أمام كثافة الحضور العقلي والنقلي الإمامي ، مما يستدعي أن تزيد من الشواهد والأدلة ما يمكنها من الدفاع عن آرائها..فالحجاج في المقام مشروع والشرط :"قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين". هذا الحجاج الشيعي الشيعي كان ضروريا للمقام الرابع من مبحث الغيبة عند الشيخ ميثم ، لأنه يتعلق بالتعيين. والتعيين لا يتحقق إلا بعد رد دعوى من زعم أن الإمامة ثبتت في حق هذا دون ذاك.وكونه جاء قبل مبحث الغيبة لا يضر مع وجود الإحالة. وحيث خصصنا الحديث في الغيبة دون باقي الفصول الأخرى من النجاة، كان لا بد من استحضار هذا البحث هنا لتكامله مع مبحثنا وللعلقة الشديدة بينهما وكونه بمنزلة لزوم المقدمة لذي المقدمة. في الختام هذا غيض من فيض ما جادت به قريحة العالم المحقق والفيلسوف المدقق شيخنا كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم من المعلى البحراني ، الموصوف بزبدة الفقهاء والمحدثين، تكفي إشارة لمعرفة بلائه المعرفي الحسن وذكائه الوقاد؛ وحجاجه في مسألة الغيبة إن هو إلا نموذج يؤكد على عبقرية من سلك سبيل الحجاج المختصر في أمر كهذا يتطلب مزيد استطراد. وفيه إشارة على ما له من سعة أفق ، اقتدر بها على بلوغ آرائه عبر طرائق يتصالح فيها النقل والعقل والذوق، وإن كنا لا نستسيغ هذا التقسيم التعسفي ، حيث كل مسالك الدليل، هي عقلية في نهاية المطاف ، والنقل إنما استمد حجيته بناء على العقل ، فليس كل نص هو حجة إلا نصا مخصوصا أمكن العقل التسليم بحجته، وهي مشمولة في قول البارئ تعالى:" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين": صدق الله العلي العظيم! [email protected] ******** [1] انظر كتاب النجاة ص 39. [2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع ص 343، الناشر مكتبة الداوري / قم. [3] قواعد المرام في علم الكلام ، ص190، تحقيق السيد أحمد الحسيني مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ط 2 [4] المصدر نفسه ص 191. [5] التفتازاني ، شرح المقاصد ج5 ص 313 ط 1 ، 1989 منشورات الشريف الرضي [6] ابن تيمية ، منهاج السنة نقلا عن الميلاني ، دراسات في منهاج السنة ص 384 ط 1 ، 1419ه/ ياران [7] قواعد المرام ، ص 191. [8] قواعد المرام ، ص 191. [9] كشف المحجة نقلا عن الإمام المهدي : حقيقة لا خيال، الشيخ كاظم جعفر المصباح ، ص 240 ط1 ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت 1998 [10] المصدر نفسه ، ص 190. [11] النجاة ، ص 207.