الغالب على المقالات التي كُتبت عن حراك الريف هو الكتابة الصحافية التي تساير تطوّرات القضية وتهتم بتفاصيلها الجزئية. بينما تقلّ الكتابات الفكرية والتأملات العامة. وهذا المقال محاولة في سدّ هذه الثغرة. عن الدولة ومنطقها نبدأ بالدولة المغربية، فهي لا تختلف في العمق عن دول العالم الثالث، وعموم الدول العربية.. من حيث إن طبقة معينة تحكمها، ولها مصالح واسعة، فتحرص عليها وعلى استمرار هيمنتها. وقد ظهر في السنين الأخيرة أن سلوك "الدولة العربية" حين تتعرض طبقتها الحاكمة لضغط شعبي كبير فتحسّ بالخطر على وضعها هو: إما مواجهته بحزم، وإما تتنازل جزئيا، أي عن بعض المصالح فقط. والسيناريو الأول يؤدي إما إلى حرب أهلية أو إلى استبداد شامل يقتل الحياة، بمعنى أن الناس تقاوم الدولة، وقد تنهزم، لكنه انهزام مؤقت؛ لأن الشعوب في الحقيقة لا تنهزم بشكل نهائي. أما السيناريو الثاني فيؤدي إلى تأجيل المشكلة وربح الوقت، بمعنى أنه لا يحلّ المشكلة الأساسية. في الحالة المغربية بيّنتْ هذه السنة الأخيرة بشكل واضح أن الدولة العميقة انحنتْ للعاصفة، وأنها لم تكن صادقة في الإصلاح والتغيير وتحقيق تطلعات الشعب؛ لأنها تدرك ببساطة أن هذا سيذهب بهيمنتها ومصالحها. لذلك، رأينا كيف ناورتْ هذه الطبقة طيلة شهور، وكيف أخرجتْ سيناريو تجميد تشكيل الحكومة.. فحين لم تُرد حكومة منتخبة عرقلتْها ستة شهور، وحين تحقّقتْ لها حكومة شكلية أخرجتها في أسبوعين. والناس ببلادنا لم يكونوا راضين تمام الرضا عن الحكومة السابقة، إذ بعض خياراتها الاقتصادية والاجتماعية لم تكن في الحقيقة لصالح الطبقات الشعبية.. لكنهم تحمّلوها أملاً منهم في تحقيق الإنجاز الديمقراطي والذي يستبطن قيمتي العدل والمساواة. لذلك، فالخطيئة الكبرى للدولة هو أنها لا تريد -في العمق- التحوّل الديمقراطي، بكل ما يعنيه ذلك من إشراك للشعب في القرار السياسي والاقتصادي، ومن عدالة اجتماعية وتوزيع منصف للثروة، ورقابة ومحاسبة. هذه التجربة أفقدت الناس قيمة سياسية مهمة، وهي: المصداقية، إذ لم يعد الناس يثقون في الحياة السياسية المغربية. وفي أوّل انتخابات قادمة سيرى الجميع هذا رأي العين. إذن، من المنظور العام: ما يجري وسيجري هو أن الطبقات الحاكمة تحصد ما زرعته، لذا نلاحظ ارتباكا عاما في معالجة حراك الريف وأمثاله. هذا كله ليس سرا، بل أكثرية المحللين والمفكرين حذّروا منه مرارا.. فما تفسير أنه لا أحد يستمع لهذا التحذير؟ التفسير أن هذه الطبقة المهيمنة تظن أن بإمكانها السيطرة على الأمور، وأنها ببعض الإصلاحات المحدودة، ومع الزمن.. ستستعيد هذه الهوامش الضيقة التي "تفضّلت" بالتنازل عنها لصالح الشعب. وهذا كله قِصر نظر وغباء، كما هو درس التاريخ، البعيد والقريب. لكنها طبيعة الإنسان الذي وصفه القرآن الكريم بأنه جهول ظلوم، يطغى إذا استغنى ويجزع إذا فقد شيئا، ولا يقنع. البتة. الخلاصة هي أنه ليس أمام الدولة من حلّ إلاّ إنجاز التحول الديمقراطي الحقيقي.. بصدق وبسرعة. الريف.. الهوامش في مقابلة المغرب النافع هذا من جهة، ثم من جهة أخرى حراكُ الريف هو مظهر لغضب الهوامش، فهو مثل الأحداث السابقة بصفرو وسيدي إفني.. ونحوها من انتفاضات المغرب غير النافع. كان ليوطي -مهندس الاستعمار الفرنسي- هو الذي قسّم المغرب إلى نوعين: النافع وغير النافع. وحين جاء الاستقلال كانت مجمل سياساته الاقتصادية والاجتماعية تكريسٌ لهذا الواقع الذي فرضه الاستعمار، وإن حاول تغييرها أحيانا. لذلك، على أهل المغرب النافع أن يتفهّموا هذا الموضوع، وأن ينظروا إلى الأمور بمنظور موضوعي، وأن يعرفوا أن العدل أساس المُلك، وأنه يجب على الدولة أن تنمي مناطق الهامش كما تنمي طنجة والرباط والبيضاء وأكادير ومراكش.. فالريف نموذج لهذا الحيف الذي طال مناطق مثل فكيك وبوعرفة وتازة والريصاني وسيدي إفني وسوق أربعاء الغرب ووزان والقلعة والراشيدية.. وعموم الأطلس المتوسط، وعموم البادية المغربية، وسكان الجبال.. إلخ. مثلا حصة الساكن بإقليمالحسيمة من الإنفاق الحكومي على المواطن وتنميته هي أقلّ من المعدّل الوطني بكثير.. أي أن ما تصرفه الدولة على المواطن بهذا الإقليم المهمش أقلّ بمراحل ممّا تصرفه على المواطن بالمغرب النافع. بينما كان المفروض أن تزيد حصة الهوامش من الإنفاق لا أن تنقص، لتدارك التفاوت في أسرع وقت. هكذا، بعد الاستقلال وطيلة عقود كان معظم إنفاق الدولة يتجه إلى بعض المدن الكبرى، وأُهمل الباقي، بل وقع حتى إهمال مُدن مهمة واستثنائية كفاس. فبدا كأن المغرب النافع ضاق أكثر، وانحسر إلى الشريط الساحلي ما بين القنيطرة والجديدة. صحيح أن الدولة حاولتْ تدارك الأمر منذ حوالي 15 سنة، لكن -وهنا مظهر آخر للمشكلة- يوجد بطء في الأداء الحكومي، وبالمقابل توجد انتظارات وآمال كبيرة للناس، إذ الجيل الجديد لا يصبر صبر الآباء ولا يقنع كقناعتهم. فهذا الحراك، وما يماثله في مناطق أخرى، مظهر للخلل الكبير بين جهات المغرب، حتى كأنّنا أمام مغربين. ويبدو أن بعض الناس في المغرب النافع استَحلوا هذا، كأنهم يرون أن من حقّهم أن يحوزوا معظم ثروات البلد وسلطاته.. ولا يتركون لغيرهم إلاّ الفتات. والأوطان لا تستقر بالغبن والظلم أبدا. الريف.. أرض الوجود العابر؟ لكن للريف خصوصية، عقّدتْ من وضعه حتى جعلته كأنه أرضٌ للوجود العابر، وكأنّ من به سكان عابرون، حتى وهم مقيمون متشبثون بأرضهم؛ ذلك أن الريف من الناحية الجغرافية منطقة جبلية وَعرة ومحصورة، ولا توجد به أراض زراعية واسعة.. بمعنى أنه لا يمكنه استقبال عدد كبير من السكان. وهو أيضا أرض وصْل وعبور من إفريقيا إلى أوروبا، أو من المغرب إلى إسبانيا.. وعبْر الريف دخل الغزاة من كلّ صنف، ومرّت قوافل المسافرين من كل نوع. لذلك، فالتركيبة السكانية للريف خليط بشري جدّ متنوع: من أمازيغ (بأصولهم الثلاثة: صنهاجة ومصمودة وزناتة)، وعرب (يمنيون وحجازيون)، وأندلسيين (بمن فيهم ذوو أصول قوطية).. حتى أقليات رومانية وفارسية وصقالبة. مثلا توجد بقبيلة بني ورياغل -كبرى قبائل الريف- نسبة مهمة من ذوي الأصول العربية.. كما تنتشر في الريف كله تقريبا أسرٌ من الأشراف آل البيت النبوي استقرّت فيه منذ قرون. حتى على مستوى المفهوم الجغرافي-البشري للريف لا يوجد اتفاق بين المؤرخين القدامى، فقد يتّسع فيكون ما بين وادي ملوية وطنجة، وقد يضيق إلى ما بين وادِييْ النكور وكرط؛ فالريف وجود بشري وتاريخي هُلامي نسبيا.. دائم التغيّر والتحوّل. يهاجر أناس ويهجُر إليه آخرون.. وتتسع حدوده وتضيق، ويكبُر ويصغُر.. وهكذا في دينامية لا تتوقف. لذا فحبّ الريفي للهجرة حبّ تاريخي عميق. وعلى المستوى الفني، لعلّ أفضل من عبّر عن هذا كله: وليد ميمون وخالد إزري. لكن إذا كان الريف أرض عبور حضاري من قديم، لاعتبارات جغرافية بالدرجة الأولى، فإن عبقرية الريف تتجلى أساسا في: الإنسان.. إذ أنجبتْ المنطقة على مدى التاريخ آلافا مؤلفة من القادة والمفكرين والعلماء والمغامرين والأولياء والأمراء.. لذلك، الحلّ لتنمية الريف يكون مِن هنا: من الإنسان. الريف بين الحدث والتاريخ يمكن أن نقول: إن الريف عموما لا يصنع التاريخ، لأنه كما سيأتي، محدود من حيث الجغرافيا والسكان والاقتصاد.. لكنه يصنع الحدَث. هذه قاعدة أغلبية. مثلا كان لبني مرين وجود بمناطق جنوب شرق الريف، واستفادوا منها في حركتهم ضد الموحدين وفي تأسيسهم للدولة المرينية.. لكنهم سرعان ما "أهملوا" المنطقة، ونزلوا نحو فاس فاتخذوها عاصمة لملكهم وحكمهم. وفي التاريخ المعاصر، أوقف الريفيون الثائر بوحمارة، وهزموه، فصنعوا الحدث؛ لكن الأمر توقّف هنا فلم يصنعوا تاريخا بذلك.. إنما استفاد السلطان أنه استراح من شخص طموح وفوضوي. حتى مقاومة الأمير الخطابي تثبتُ هذه القاعدة، خلاف ما يُظن.. لقد كانت تجربة رائعة وعظيمة، لكن لم يكن ممكنا لها أبداً أن تتجاوز حدودا معينة. فحصار الجغرافيا يعمل عمله (من البرّ والبحر)، وقلة الإمكانات ووسائل الإنتاج عامل آخر، والثروة السكانية المحدودة والتي تهاجر باستمرار عامل ثالث، وصعوبة انقياد السكان لسلطة مركزية عاملٌ رابع.. وهكذا. لذلك فتجربة الخطابي لا تنفي هذه القاعدة، بل تؤكدها. وهي تجربة "معجزة" لأنها من التجارب النادرة جدا في تاريخ الريف التي كادتْ المنطقة تصنع فيها تاريخا، أعني تاريخا مستقرا وحضارة قائمة.. لا مجرد أحداث –مهما كانت عظيمة- تظل عابرة. لكن كما نعرف لم تعش التجربة غير سنوات معدودات. يمكن لتقريب الموضوع أن أضرب مثلا بالحجاز، فهذه منطقة فقيرة ومعزولة.. لا يمكن أن تصنع تاريخا حقيقيا. لكن وقع أن ظهر الإسلام فيها، فصنعتْ تاريخا. وهذا استثناء نادر جدا، لأنه في ماضي الحجاز لا يوجد تاريخ كبير ومؤثر (عدا ظهور الإسلام). ومع ذلك فمن القرارات الأولى لأمير المؤمنين سيدنا عليّ أنه نقل عاصمة الدولة الوليدة من مكة والمدينة إلى البصرة والكوفة بالعراق.. علامةً على أن التاريخ العربي أو الإسلامي -مِن ذلك الزمن- فصاعدا سيُصنع بالمشرق، لا بالحجاز. حدود الريف نعود إلى موضوع الحراك الراهن. والحق -كما يقولون- على الدولة، فهي الطرف الأقوى، وبيدها المبادرة، إذ الناس بالريف أو غيره من مناطق البلاد يطالبون بحقوقهم. ومن الذي سيمنعُهم من ذلك؟ فالتعليم والثورة الإعلامية وتقارب المسافات والسياحة والتمدّن.. ظواهرُ ترفع من الوعي السياسي لدى العامّة، لذا لا يمكن إقناعهم بسهولة بأيّ كلام، وإن أمكن فلفترة محدودة. هكذا، فإن مطالب الحراك مشروعة، وهي عموما معقولة.. فهم لا يطالبون برفاهية السويد، بل بشروط الحدّ الأدنى للعيش الكريم. وكان على الدولة أن تفاوض أهل الحراك. أما تجاهلهم ومحاورة "ممثلي السكان المنتخبين" فقد قدّمنا أن الدولة بإجهاضها للتجربة الديمقراطية الجنينية.. تكون أجهضت أيضا كل حياة سياسية صحية وفعالة من داخل المؤسسات، وفتحتْ الباب للمجهول. لكن على الريف، أيضا، أن يكون عقلانيا وأن يفكر بمصلحته.. والأهم هو أن يعرف حدوده. ما حدود الريف، والريف الأوسط، والحسيمة خاصة؟ الحسيمةإقليم صغير في المغرب، فهو من الناحية السكانية يُقدّر ب400 ألف، أي كل الإقليم. وهذا يساوي حيّا واحدا من أحياء الدارالبيضاء ذات السبعة ملايين نسمة. وعلى المستوى الاقتصادي ليس للإقليم ثقل لا كبير ولا متوسط. لهذا، على أهل الريف أن يعرفوا كيف يفاوضون على حقوقهم، وأن يكونوا براغماتيين، لا ثوريين مثاليين؛ لأن إنجاز التحول الديمقراطي وتحقيق العدالة شأن المغاربة جميعا ومسؤوليتهم كلهم، فلا يُعقل أن يتحمّل إقليم صغير هذا العبء كله، بل لا يستطيع. عليهم أن يأخذوا العبرة من الربيع التونسي الذي بدأ من الجنوب التونسي المهمش.. وقامت ثورة وتغيّر رأس النظام.. لكن الطبقات الحاكمة، وهم نخبة من أهل الساحل، سرعان ما استعادوا هيمنتهم على الدولة ومقدراتها؛ لأنه -مرة أخرى- الثقل الاقتصادي والسكاني يوجد بالشمال التونسي، وبمدن الساحل بالضبط، وليس بالجنوب. يعني أنه يمكن لأهل الريف أن يضحّوا بالغالي والنفيس.. وفعلا، قد يتحقق تغييرٌ ما؛ لكنهم سيستيقظون بعد قليل على أن المدن الكبرى وبورجوازيتها هي التي قطفتْ ثمار تضحياتهم، وأن "ريما" عادت إلى عادتها القديمة. أيضا يجب أن يضع أصحابنا في اعتبارهم أنه يمكن لعموم الشعب المغربي ألاّ يتجاوب معهم ولا يُدعمهم (لأسباب متعددة ليس هنا مجال ذكرها).. بل يمكن للدولة أن تتأقلم وتعتاد على هذا الحراك، ومع الزمن ينتهي شيئا فشيئا، كما انتهتْ مظاهرات مصر بالتدريج. وانظر إلى دول الجزائر وكولومبيا ونحوها كيف تعوّدتْ من ثلاثين سنة على ما هو أكبر من الحراك السلمي الجهوي: الحرب الأهلية وحروب العصابات. فتجد بعض المناطق في عذاب، بينما مناطق أخرى أهلها نائمون يأكلون ويشربون ويرقصون. وهنا لا بد من كلمة عن يوتوبيا "الجمهورية الريفية". نعلم أن قلة محدودة جدا من سكان الريف تراودهم هذه الفكرة، قلة من الشباب أو الإيديولوجيين لا يتعدّون بضع عشرات في ظني، بينما الأغلبية الساحقة لا يخطر لها هذا الأمر لو بالمنام؛ لكن لا بأس أن نوضح لهؤلاء أن هذا لا يمكن، إذ كل دولة تحتاج لمقومات سكانية واقتصادية.. والريف فقير من حيث موارده الأرضية وقليل السكان. ويقول الاقتصاديون: إن كل تجمّع لا يقل عدد سكانه عن 100 مليون (وبعضهم يقول: 150 مليونا) لن يُكتب له النجاح. ومشروع الخطابي رحمه الله كان هو "المغرب الكبير"، أما الجمهورية فكانت وضعا مؤقتا لظروف الاستعمار ومواجهته. والأمر الآخر هو أن مناطق الأمازيغ بالمغرب مفصولة بعضها عن بعض، أعني الذين لا يزالون ينطقون بها. وهذه فكرة الأكاديمي الجزائري البارز سالم شاكر، أنه ما دام لا يوجد تواصل جغرافي بين أماكن وجود الأمازيغ، فإن كل كلام عن كيان أمازيغي ما لا معنى له. هذا مع أن الأمازيغ هم أكثرية سكان المغرب والجزائر، وإن تعرّب بعضهم. لذلك يجب التفكير في حلّ ما في إطار الوطن الجامع. في سبيل تجنّب بعض الأخطاء بحراك الريف لذلك لا بأس باستمرار الحراك إذا أصرّ الناس على ذلك؛ لكن يجب استحضار جملة أمور: أولا- حفظ الاحترام الواجب لجلالة الملك، فالانتقاد والغضب ينصبّا على الحكومة وأدواتها، وعلى الدولة العميقة وأخطبوطها؛ لأن الملك -كما هو واضح- شخصية طيبة في عمقها ويريد الخير لشعبه جميعا. وقد رأينا أن الطبقة السياسية عموما لا تهتم بالريف، فلم يبق إلاّ الملك. فلا يجب قطع شعرة معاوية -كما يقولون- مع القصر، وهو الأمل في قيادة عملية تأسيس ملكية دستورية ديمقراطية. ثانيا- التمرد والإصرار على الحقوق جيّد؛ لكن ينبغي أن يكون قادة الحراك "تجّارا" وليس فقط "ثوارا".. يحتاج الريف إلى عقلية التاجر الشاطر الذي يعرف كيف يربح أقصى شيء في حدود الممكن، وليس إلى المقامر الذي يربح كل شيء أو يخسر كل شيء. ألم يقل علي بن أبي طالب: إذا أردتَ أن تُطاع فامُر بما يُستطاع. يجب على أهل الريف ألاّ يكونوا إيديولوجيين، فليس الريف مناسبة لإنجاز ثورة عمالية تروتسكية لم توجد أبدا إلاّ في بعض الكتب، ولا لتحقيق حلم الأمازيغية العالمية والذي لا أحد إلى الآن يدري ما هو بالضبط وكيف.. يجب ألاّ يتصدّر هؤلاء الإيديولوجيون العقائديون مطالبَ الحراك، لأنهم سيُفشلونه حتما بمثالياتهم. يحتاج الريف إلى أذكياء ودهاة، وليس لمندفعين في كل اتجاه. وبالتأمل في تجربة الأمير الخطابي، يظهر أن نجاحها في البداية كان بفضل ذكائه وذكاء مجموعة منهم: عمه عبد السلام وأخوه المهندس والداهية محمد أزرقان. ثالثا- أيضا يجب أن ينتبه أهل الحراك إلى أمر مهم: لا يجب أن يفهموا خطأ هذا الاهتمام العالمي بحركتهم.. بعضهم يظن حين يرى المراسلين والصحافيين وبعض القنوات والمنظمات الدولية تتحدّث عنهم.. يظنون أنهم أقوياء جدا بإمكانهم فرض إرادتهم كما يشاؤون. لا، ليس كذلك الأمر في الواقع. وتفسير هذا الاهتمام أن نسبة كبيرة من الخبراء من العرب والأوروبيين والأمريكيين والإسرائيليين يتوقعون ظهور موجة جديدة من "الربيع العربي". ويوجد شبه اتفاق بينهم على هذا؛ لكن السؤال: كيف ومِن أين ستندلع الشرارة الأولى؟ وحراك الريف له بعض صفات "الربيع الثوري"؛ لكن ليس مؤكدا أنه هو الشرارة.. وإذا ضعف هذا الحراك لسبب من الأسباب، أو اندلعت شرارة في منطقة أخرى من عالمنا العربي-الإسلامي، سيجمع هؤلاء كاميراتهم ويولّوننا الأدبار، ولن تجدهم يتحدثون عن الحسيمة بتاتا. إذن، لا يجب أن يغترّوا بالإعلام والصحافة؛ فالأمر لا يتعلق ب"عظمة الريفيين"، بقدر ما يتعلق بوضع دولي وإقليمي غير مستقر. رابعا- وهنا لا بد أن نذكر أن عدم رفع العلم الوطني في المظاهرات كان خطأ. لابأس برفع العلم الأمازيغي لخصوصيتك الأمازيغية، ولا بأس برفع علم الخطابي رحمه الله باعتبار أنه جزء من تاريخك؛ لكنك أيضا مغربي، فلماذا لا ترفع علم المغاربة، وهو العلم الموحِّد؟ خاصة أن بعض الناس في الوطن يفهم الأمر على غير حقيقته فيخسر الحراك تعاطف هؤلاء ودعمهم. عن الطبقة السياسية ومسؤوليتها كشف هذا الحراك وغيره أنه لا وجود لطبقة سياسية حقيقية يمكن الاعتماد عليها: لا في أوقات السلم والراحة، ولا في أوقات الشدة والأزمة. لن نتحدث هنا إلاّ عن تيارين هما الأقرب لنبض الشارع بشكل أو بآخر: الأول هو اليسار. وهنا حديث ذو شجون، خاصة أن لهذا التيار تاريخا طويلا بالمنطقة. ومن حقنا أن نسأل: ماذا قدّم اليسار للريف؟ ماذا أعطى؟ هل أفادهم أم استفاد منهم؟ هل من المعقول أن ينظر للمنطقة باعتبارها خزانا بشريا ينفع في المظاهرات فقط؟ الثاني هو التيار الإسلامي. لكي تعرف مثلا إهمال هذا التيار للريف انظر: كم مرة زارت القيادات الإسلامية منطقة الريف؟ (طبعا لن نحسب الزيارات إلى الناظور التي الغرض منها التسوّق من بضائع مليلية). شخصيا، أحترم السيد بنكيران؛ لكن: كم مرة زار الريف في حياته كلها، بما في ذلك أثناء رئاسته للحكومة؟ ماذا قدّم هو وحزبه للريف؟ وهنا نصل إلى جوهر المشكلة: الحكم والسلطة يكونان غالبا لمناطق الثقل السكاني والاقتصادي والجغرافي.. حتى بإيطاليا (الشمال هو الذي يحكم وليس الجنوب)، وبفرنسا (جهة باريس هي المحور). والإسلاميون لا يخرجون عن هذه القاعدة: أكثريتهم وأكثر قياداتهم من المدن الكبرى، لذا لا يعيرون اهتماما حقيقيا لمناطق الهامش: للريف وللشرق وللجنوب.. هذا مفهوم من منظور علم الاجتماع السياسي، لكن كان على الإسلاميين أن يقدموا نموذجا مختلفا، وأن يدرسوا مشكلات الهوامش، ويبلوروا رؤية لهذه المناطق. هل عندهم ورقة خاصة بالريف؟ وأخرى للأطلس أو للجنوب الصحراوي مثلا..؟ لا أظن. على الإسلاميين أن يهتموا بقضايا العدالة وتوزيع الثروة والتوازن بين الجهات والمناطق وتحقيق المشاركة السياسية للجميع.. بينما بعضهم في واقع الأمر يعيد إنتاج هذه المركزية للحكم وهذه الأنانية للطبقات الحاكمة.. كأن الدولة العميقة وظّفتهُم لإبقاء ما كان على ما كان ولاستمرار ريعها ومصالحها. وبعض الإسلاميين على وعي بهذا، لكنهم يشاركون فيه ضدا على مبادئهم ومثالاتهم. مسؤولية النخبة الريفية هنا نأتي لمسؤولية أهل الريف أنفسهم. لماذا لا يسألون أنفسهم: هل نحن مسؤولون، ولو جزئيا، عن هذا الوضع؟ الحقيقة أن النخبة الريفية مقصّرة جدا في خدمة منطقتها. يحبون أن يعيشوا في المدن الكبرى، ويذوبون فيها ويندمجون تماما، وإذا زاروا الريف فبسبب البحر والعطل. حتى ببيوتهم لا يتحدثون بالريفية، بل بالدارجة، ويحرص الأبوان الريفيان على ألاّ يعرف أبناؤهم الأمازيغية، بدعوى تسهيل الاندماج في المحيط، مع أنه لا مانع من تعلّم اللهجتين معا. وبالرغم من وجود آلاف الأطر، في كل تخصص واتجاه، ماذا قدّم هؤلاء لخدمة المنطقة: أيّ مبادرات، وأيّ مساعدات، وأيّ أفكار..؟ مثلا لم يفكر هؤلاء في تشكيل جمعيات تقدم منحا دراسية للمحتاجين، ولا جمعيات دعم طبي أو اجتماعي أو ثقافي.. بالنسبة إليهم، فالريف مجرد ذكرى جميلة. أما اليساريون الريفيون فقد استنزفوا طاقاتهم في نضال أممي لا أفق له، ولم يفكروا في إبداع شيء لصالح الريف، ولم يعطوا رؤية للخروج به من الطريق المسدود. أما النخبة الاقتصادية فهي في أكثرها بورجوازية أنانية جاهلة، لا يهمها إلاّ جمع المال. لم يقدّموا -على كثرتهم وكثرة أموالهم- أيّ مشروع كبير لإخوانهم. إذا افتتحوا مشروعا فهو مقهى، أو مضاربة عقارية، أو فندق.. وبعض الجيّدين فيهم هربوا باستثماراتهم إلى طنجة ومكناس والبيضاء.. وأوروبا. بينما النخبة الريفية الموجودة في السلطة، أو قريبا منها.. ماذا قدّمت؟ بعضهم وصل إلى مراكز متقدمة في الاقتراب من صانعي القرار، وعوض أن يستفيدوا من ذلك في تنمية الريف، دخلوا في المهاترات والمغامرات السياسية التي لا تنتهي واستنزفتهم السياسة المغربية المعقدة على جغرافيا واسعة تمتد من وجدة إلى لكويرة. قارن ذلك مثلا بالنخبة الوجدية، بينما مدينة وجدة -التي نحبها ونحب أهلها لأننا درسنا بها- مدينة جميلة ونظيفة بمرافق كاملة (جامعة كبيرة، ومستشفيات، وملاعب، ومؤسسات.. إلخ)، تجد مدينة الناظور مدينة بلا روح ولا نظام ولا مؤسسات، بل لم تعالج إلى الآن مشكلة الفوضى والأزبال.. فترى الفرق واضحا بين النخبتين. إن الاعتراف بالحق فضيلة.. وجميع أهل الريف، خاصة النخب، مسؤولة أيضا. الريف أو الشموخ الحزين كذلك يوجد عنصر مهم جدا يتحكّم إلى حدّ كبير في مواقف الشعوب، هو العنصر النفسي. وهذا حاضر بقوة في حالة الريف، إلى درجة أن زميلنا د.سعيد صديقي في حواره مع "المساء" يتحدث عن "الجروح العميقة في الوعي الجمعي لأبناء المنطقة." ويذكر منها أحداث 1958-1959، وبشكل أقلّ حدة ما وقع سنة 1984؛ لكن هذه الجروح هي أقدم في الحقيقة، ففي نهايات القرن التاسع عشر بطش بوشتى البغدادي بقبيلة بني بقيوة بطشا شديدا لا تستحقّه. ثم في بدايات القرن العشرين عانى الريف الشرقي –خاصة قبائل بني توزين وبني سعيد، وتفرسيت..- من اعتداءات بوحمارة وجماعته حين اجتاح جيشه هذه المناطق. أما حين دخل الاستعمار، فقد تعاون الإسبان والفرنسيون –وهما قوى استعمارية كبرى- على قمع الريفيين الذين لم يكن يتجاوز عددهم نصف مليون في كامل الريف، وضربوهم بكل سلاح، حتى بالكيماوي.. كان قمعا رهيبا وحربا قبيحة فوق ما يطيقه الناس، فمات الآلاف، ما اضطر الخطابي للاستسلام. لذا، يجب دراسة تجارب الدول في الإصلاح وجبر الضرر عند بعض الشعوب، كما بإفريقيا الجنوبية وأمريكا اللاتينية.. بالرغم من اختلاف الحالة المغربية عنهما. ولا ينبغي الاستهانة بهذا، وانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث عن عبادة "جبر الخواطر". لكن يوجد سبب مهم في "حزن الريف"، وهو "الجبل".. فالمنطقة جبلية وعرة، وكأن هذا انعكس على نفسية السكان فاكتسبوا أخلاق الجبال: من شموخ، وثبات (عناد؟)، وحزن.. حتى إنك تجد فرقا بين الشخصية الحسيمية والشخصية الناظورية، فالثانية أكثر هدوءا وانشراحا من الأولى، إذ الناظور أرض منبسطة. لا يعني هذا أن هذه الشخصية أفضل من تلك.. لكن هذه ملاحظات اجتماعية ونفسية عادية.. هي بعضٌ من حِكم الله سبحانه في الكون. كانت الفنانة سعيدة فكري –بموهبتها الفنية الفطرية، وهي ليست ريفية- من القلائل الذين أحسّوا بحزن الريف، وفهموا هذا الحزن.. ترى ذلك واضحا في أغنيتها "يا جبال الريف". هذه بعض أفكار وانطباعات قابلة للإثراء والنقاش. وبحول الله سأكتب قريبا مقالا أقترح فيه مشروعا للريف وللوطن كله.. حتى لا يكون كلامنا نظريا فقط.. مشروع أتمنى أن يكون في أجهزة الدولة ومؤسساتها من يقرأه ويستفيد منه. والله تعالى أعلم. * أستاذ بجامعة فاس