في هذا الحوار يوضح عياد أبلال ، الباحث الأنثربولوجي، مجموعة من الأسئلة المتعلقة بتدبير السلطة لحراك الريف، وكيف أنه على الرغم من تضمين في مبادئ حقوق الإنسان وحرية الاحتجاج والتجمهر، في دستور 2011، إلا أن السلطة لم تقم باعتماد الأسلوب الحقوقي واتجهت للجانب الأمني والدعائي بتخوين أي حركة احتجاجية ؟ وكيف أثرت الخصوصية الثقافية للريف والذاكرة المشتركة "الاحتجاجية" على جعل هذا الحراك يحمل خصوصية "ريفية" وفي نفس الوقت يعمم في باقي المدن ؟ حاوره: محمد لعرج * في نظرك كيف تعاطت السلطة مع حراك الريف ؟ أنا شخصياً أفضل السلطة بصيغة الجمع، وبالتالي الحديث عن سلطات نظراً لتشتت مفهوم السلطة بالمغرب في ظل غياب مفهوم الدولة الحديثة، ومن هنا فالحكومة لها سلطات، والمخزن له سلطات، ويكفي أن نستدل على انفلات وزارة الداخلية في العديد من المواقف والأحداث السياسية من وصاية رئاسة الحكومة في حكومة بن كيران، وفي حكومة العثماني، بالرغم من الفرق الكبير بين الرجلين عل مستوى الكاريزما، وفي الحكومات السابقة لما بعد عبد الله إبراهيم الذي لم يعمر طويلا في الحكومة. من هنا يمكن الحديث أنثربولوجيا على مفهومين مركزيين في الحقل السياسي المغرب، مفهوم المخزن ويقابله على مستوى الثقافة التقليد والتقليدانية/ العرف، ومفهوم الحكومة ويقابله المؤسسات/القانون، وهنا نتحدث بشكل ما عن حوارات الحداثة كمفهوم تحصيلي للممارسة السياسية التي تميز الحكومة في تقيدها بالدستور والقوانين وعمل المؤسسات. إذن أنثربولوجيا نتكلم عن بنية الدولة، ما دامت الحكومة سلطة تنفيدية، والبرلمان سلطة تشريعية، ونتكلم عن بنية المخزن الناظمة للمشهد العام، باعتبارها الناظم المركزي للنسق السياسي (le régulateur du système politique )، ومن هنا يقع تعارض في السلطات، بين الحكومة ودولة المؤسسات من جهة، والمخزن من جهة أخرى، لكن المعقد بامتياز، هو أن المخزن ذاته يصرف سلطاته الواسعة والنافذة عبر آليات المؤسسات نفسها، وذلك بتعطيل سلطات الحكومة ومؤسسات الدولة، وهذه فرادة النسق السياسي والدولة بالمغرب. ولتحليل حراك الريف وتعاطي السلطات معه، لنعد لمنطق الثنائيات السابقة، سنجد أن المخزن عمل منذ سنوات طويلة على تعطيل مؤسسات الوساطة، من نقابات وأحزاب، وقلص من هامش الحريات الفردية، وفكك القوة الاقتراحية للمجتمع المدني، بأن جعله رهين الدعم المباشر، وفق خطاطة الزبونية والمصلحة، وأصبح امتداد للمخزن، باستثناء بعض الجمعيات الممانعة، من قبيل الجمعية المغربية لحقوق الانسان، وبعض الأحزاب والهيئات المستقلة. ومن هنا، فإن تبعية الأحزاب التي تصل إلى الحكومات المتعاقبة، والحياد السلبي في الانتخابات، وتمييع الحياة السياسية جعل الدولة رهينة قرارات المخزن، وبالتالي حصل خلل وظيفي في أداء مؤسسات الدولة بتعبير بارسونز. وبما أن جوهر السياسة هو الاستقرار والأمن والأمان، فإنه المخزن يوجه وينسق أعمال كل الوزارات و المؤسسات عبر وزارة الداخلية، التي تعتبر دوما من وزارات السيادة، أو بعبارة أكثر تحديدا أم الوزرات التي بقيت كما كانت في عهد ادريس البصري، بتغيير بسيط هو الأشخاص والأسماء. ما حدث في الحسيمة هو أن المخزن كان ينظر إلى الحراك باعتباره حركة احتجاجية تتشكل من وقفات رمزية ومسيرات سرعان ما سوف تخبو جدوتها وتنطفئ نار غضبها ، وسينتهي المشكل بسلام دون أن يعير سكان الحسيمة أي اهتمام، وهذه المرحلة نسميها مرحلة التجاهل، خاصة وأن للمخزن ذاكرة ونفور وجداني من مناطق الممانعة والرفض، ولذلك تجد توجهاته التنموية في كل مناطق المغرب غير النافع واحدة، استمراراً لرؤية ليوطي الذي علم المخزن المغربي منطق البرغماتية، ولكن كما يبدو ظاهرياً في احترام لمبادئ الدستور من جهة، ودولة المؤسسات من جهة أخرى، خاصة في لحظة الفراغ الدستوري بغياب حكومة منتخبة. وصعوبة ترويض بنكيران وإدلاله بقرارات قمعية ولا دستورية. لكن بمجرد تشكيل حكومة العثماني واستبعاد بنكيران من الحكومة، واقصائه بشكل غير مباشر من موقع القرار والتأثير داخل حزبه العدالة والتنمية نفسه، بدأت المرحلة الجديدة للسلطات في التعامل مع حراك الريف، فبعد التجاهل للأسباب السالفة الذكر، بدأت مرحلة الانتباه والتنبيه، وهي المرحلة التي عرفت مضاعفة عدد قوات الأمن والتدخل السريع والدرك الملكي وما إلى ذلك من قوات الأمن، لتنتهي هذه المرحلة ببلاغ الحكومة بتخوين الحراك والعمالة لصالح الخارج على ضوء تقرير لوزارة الداخلية يؤكد لأعضاء الحكومة لا وطنية الحراك وخروجه عن السلمية، وهو ما جعل نشطاء الحراك وسكان الريف يشعرون بغدر الحكومة والأحزاب التي دبجت بيانات تناصر بلاغ الحكومة، وهنا يمكن الحديث عن الوصل والفصل، فذاكرة الريف تحفل بالعديد من الأحداث التاريخية المؤلمة، من قبيل أحداث 1958/1959، واحداث 1984، و 2011، وهذه الأحداث وإن كان ملك البلاد استطاع بنباهة وذكاء محو جزء منها ومن آثارها خاصة السيكولوجية بتعدد زياراته إلى الريف، والحسيمة تحديداً وبالعديد من المشاريع، ولو أنها مشاريع عمل المخزن على تعطيل بعضها أو تأخير وثيرتها خاصة بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة الحكومية، وليس الحكم، ودخول فاعل قوي تجلى في حزب الدولة، وهو حزب الأصالة والمعاصرة، ورهان المخزن عليه كي ينهي تهديد الإسلاميين للسلطة بالمغرب، خاصة أمام تنازع الشرعيات الدينية الضمنية بين الملكية التي تعتمد إمارة المؤمنين كسند مرجعي للسلطة، وحزب العدالة والتنمية الذي يستند على نفس المرجعية الدينية. لكن بلاغ الحكومة نقل الزمن السياسي بالمنطقة وعموم المغرب من منطق الوصل إلى منطق الفصل، وأصبح سكان الريف يعيشون لحظياً زمن استمرار القمع والتضييق والاستبعاد والاستعباد السياسي والثقافي ولهوياتي باعتبارهم خارج دائرة الوطن والوطنية، وهو ما ترافق على مستوى تجديد خطاب الأوباش، الخونة، الانفصال…. وهو الخطاب الذي ساهم فيه بشكل كبير البلطجية الذين تستعين بهم السلطات لتفريق وقمع المظاهرات المساندة لحراك الريف، وبالطبع ما دمنا في زمن سيبرآني بامتياز فقد تحول الفيسبوك إلى ساحة حرب وصراع بين توجهين متناقضين، توجه مع وتوجه ضد، وهو ما يشكل تهديداً لوحدة المغاربة التاريخية. خاصة وأن البلطجة أصبحت عنوانا للدفاع عن الوطن، من خلال إيهام الناس أنهم يرفعون شعار عاش الملك للدفاع عن الوطن، بشكل مغرض، في حين أن الملك بعيد عن هذا الصراع، ولذلك إقحام "البلطجية" في تدبير حراك الريف إساءة للملك والملكية. * هل على عكس الشعارات التي رفعت في دستور 2011 حول حقوق الإنسان وحرية الاحتجاج والتجمهر لم تستطع "السلطات" اعتماد الأسلوب الحقوقي واتهجت للجانب الأمني والدعائي بتخوين أي حركة احتجاجية ؟ في نفس سياق ما سبق، يمكن استحضار عدد من المحددات الموضوعية للجواب على السؤال، من منطلق المقارنة بين تاريخية، أو إن شئت بين تاريخانية، لحضور بنيات ثقافية، اجتماعية سياقية في التحليل. ففي 2011، لا يجب أن ننسى استحضار موجات الربيع العربي وانتقال الثورات، أو هجرة أنساق التفكير الاحتجاجي، ولذلك كان من الذكاء السياسي تلبية مطالب الشعب، وهو ما قام به ملك البلاد الذي فعلا أبان عن دهاء سياسي، متمثلا في خطاب التاسع من مارس الذي استبق المطالب الحقوقية والسياسية بالدعوة للمراجعة الدستورية، ولذلك فتعامل السلطات المخزنية بليونة مع المحتجين كانت تفرضه المرحلة، وتجلى ذلك في الخوف من الثورة، ومن مآل البلدان الأخرى، بمعنى أن المرحلة كانت انفعالية بالدرجة الأولى لا من جانب حركة 20 فبراير التي قدمت رغم عفويتها وانفعاليتها الشيء الكثير للنسق السياسي المغربي ولثقافة التحرر الشعبي، ولا من جانب المخزن والسلطات الموازية (الحكومة /ووزارة الداخلية). لكن بين 2011 و 2017 فمن المؤكد أن مياه كثيرة قد جرت من تحت الجسر، وربما مياه سدود كثيرة انبجست بعد أن انفجر الخزان، وخاصة خزان الوساطة المؤسساتية التي كانت تفصل الملك والملكية / والدولة من جهة عن الشعب والمجتمع من جهة أخرى، خاصة بعد الانتخابات الجماعية والتشريعية وما عرفته من تمييع للمشهد السياسي المغربي الذي حاولت الدولة بكل ما أتيت من قوة تغيير توجهه العام، خاصة أمام توجس الدوائر العليا من الإسلاميين، وهو توجس يكاد يكون عاما في صفوف النخب بالمغرب نظراً لعدم تمثل واستيعاب الإسلاميين للمبادي الديموقراطية التي اختزلوها في صناديق الاقتراع وعدم ايمانهم بالحقوق الفردية والحريات ، وما إلى ذلك مما لا يسمح المقام بتحليله هنا. هنا وجد سكان الريف ونشطاء الحراك بعد أن تأكد بالملموس عدم استقلالية الحكومة في قراراتها وخطاباتها، وعدم احترام الدستور والقوانين، أنفسهم في مدارات صراع سياسي على خلفية ملف مطلبي اجتماعي واقتصادي، سرعان ما تحول إلى ملف حقوقي أيضاً، في حين أن تحليل خطابات ناصر الزفزافي منذ أول كلمة ألقاها في حق الجموع، سنجد أن خطابه مطلبي اجتماعي واقتصادي، مطالب بتطبيق القانون لا أقل ولا أكثر في احترام تام للمؤسسات والقوانين، وبلباقة وتهديب في الكلام ككل الشباب المغربي وهو يخاطب السلطة ورجالها، لكن المخزن السياسي وهو يصفي الحساب مع العدالة والتنمية نسي أن هذا الملف البسيط قد يعقد الأمور أكثر، ويهدد استقرار المغرب بكامله، خاصة بعد توالي حلقات الاعتقال والترهيب والتخويف، والذي انتهى بالتعذيب بشتى أشكاله المادي والمعنوي كما صرح بذلك محامو المعتقلين نقلا عنهم. معتقداً أن عمر الحراك قصير، وأنه سرعان ما سوف يعيد قواعد اللعب إلى حالها وكأن شيئا لم يكن، متناسياً أن البنيات الأنثربولوجية للمتخيل عند سكان الريف المغربي مختلفة، كما هو حال سكان المناطق الجبلية المعزولة والمناطق النائية، تجعلهم في دفاع عن هويتهم الثقافية وحقوقهم المشروعة، وكأنهم يدافعون عن أنفسهم. إنهم يتوحدون أمام أي تهديد خارجي، وأي تهديد يمس العرض والشرف، وأعتقد أن تعاطي الحكومة غير المستقل والمتهافت والقمعي جعلهم يشعرون بتهديد وكأنهن خارجي. وهنا يمكن الحديث عن انتفاض رموز الهوية وانفجار اللاوعي الثقافي. وهو ما سقط فيه ناصر الزفزافي وبعض النشطاء في البداية من التركيز على الهوية الاثنية العرقية، وما حدث من انزلاقات وانحرافات في الخطاب مثل الاستعمار العروبي، وما إلى ذلك، مما تناولناه في حينه، من خلال الرسالة التي وجهناها لناصر، منبهين إياه أن جوهر الصراع طبقي وليس اثني، وأن الهويات المغلقة هي هويات قاتلة، وهي انزلاقات ناتجة عن حماسة الخطاب وجدوة الانفعالية، ولكن سرعان ما تدارك مجموعة من الأخطاء، التي تعاب على الحراك من قبل العديد من المغاربة، وهي عدم حمل الراية المغربية، والاقتصار على رموز الهوية المغلقة، والتي لها مبرراتها الثقافية والتاريخية، وإن كان هذا النقاش لا ينتقص من وطنيتهم وغيرتهم، طالما أن الوطن والانتماء ليس مجرد راية أو شعار، لكن هذا الانزلاق في عدم حمل الراية الوطنية أثر بشكل أو بآخر على شعبية الحراك وشرعيته الوطنية. وهو ما يجب الانتباه اليه من طرف باقي النشطاء في إطار السلمية. *هل الخصوصية الثقافية للريف والذاكرة المشتركة "الاحتجاجية" التي لديها جعل هذا الحراك يحمل خصوصية "ريفية" وفي نفس الوقت يُعمم في باقي المدن ؟ يتضح أن المنطقة لها خصوصية أنثربولوجية وتاريخية، تجعل كل ممكنات استمرار الحراك قائمة، وهنا لا بد أن نستحضر القاسم المشترك بين سكان الحسيمة التي يمكن اعتبارها مدينة اثنية وعرقية ريفية محضة، وهو ما يتجلى في توحيد اللسان، خاصة وأنها ظلت شبه معزولة ثقافيا وهنا الثقافة كمفهوم أنثربولوجي (يعني التقاليد والعادات ونظم القرابة والزواج و أنساق التفكير والتعبير ….الخ)، وهذه العزلة الثقافية هي عزلة جغرافية من الأكيد، ولكنها عزلة سياسية مقصودة، وهو ما شكل استمرار لسياسية المخزن في قمع واستبعاد المناطق التي يعتبرها ناقمة أو ناقدة، وهنا تبرز مفاهيم الطاعة، الولاء، السخرة، الرعاية ….الخ/ في مقابل الغضبة، الاستبعاد، اللعنة، السخط…. وطبعا حين يحصل ذلك ، فقد ألف المخزن عرائض ورسائل الاستعطاف والتوسل وما إلى ذلك. هذه المعطيات الأنثربولوجية، جعل الريف يرى في الخارجي، وهنا من منطق هوياتي ضيق، تهديداً، ولذلك، فهو يعتبر أن السلطة المركزية عربية اللسان، فأي عربي اللسان ينتمي إلى السلطة، والسلطة هنا إهدار للحق المشروع للريفي. المعطى الثاني، هو منطق الفصل والوصل الذي تكلمت عنه سابقاً، والذي جعل تعامل السلطات مع الحراك يخرج انجراح الهوية من الخفاء والكمون إلى صلب التجلي، خاصة بعد أن أصبحت أحداث الريف السابقة منذ سنوات الرصاص والقصف بالمروحية في 1958 إلى الآن عبارة عن قصة اضطهاد على لسان حتى الشباب الذين ولدوا في الثمانينيات، وهو ما يفسر الانتصار إلى الرموز المحلية والثقافية من قبيل راية الجمهورية الريفية، وصور البطل المقاوم الكبير عبد الكريم الخطابي، وراية تمازغا التي تجمع كل أمازيغ العالم في راية واحدة، وضمن سياق متخيل بناء الرموز، وهو متخيل السمو عند أهل الريف، فقد صنع الحراك من ناصر الزفزافي رمزاً لزعيم قيادي ، وهو ما لم يستوعبه المخزن مركزاً على الشخص لا على البنية، وعلى الصورة لا على المتخيل، لذلك سرعان ما صنع الحراك أيضا جلول، نوال بنعيسى، وسيليا… إلخ. إذن، نحن نتيجة تعاطي السلطات مع الحراك، ونتيجة عودة التاريخي أمام حراك سياسي يحاكم الدولة على خيارتها الخاطئة، ويحاكم بالأساس مغرب ما بعد الاستقلال، ورهاناته في السلطة والحكم، الذي فشل في تحقيق دولة الحق والقانون ، وبناء دولة المواطنة. معلناً وهو يعيد ملفه المطلبي الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي ومتشبثا بضرورة تدخل الملك الذي يحظى لوحده بثقة الريف، أن سياسة المخزن في تفكيك قوة مؤسسات الوساطة ودولة الحق والقانون يشكل خطراً كبير على مستقبل المغرب. وأن تآكل الثقة في هذه المؤسسات مؤشر مقلق على إفلاس الدولة. بالنسبة للمدن المغربية الأخرى، وبالرغم من أنها تعاني من حيف وظلم واستبعاد طبقي واضح، نتيجة فشل مسلسل التنمية التي ارتبطت تاريخيا بالنمو ولم ترتبط بالتنمية في بعدها البشري، ولم تركز على الثقافي والرمزي بقدر ما ارتكزت على البنيات المادية. فإن سكانها انخرطوا في سيرورة الاقتصاد الاستهلاكي وأعراف التسوق التي أفرغت هؤلاء من كل رؤية نقدية لنمط الاستهلاك، ناهيك عن غياب قواسم مشتركة على المستوى القيمي، اللساني، الاثني، التي تجعل من الصعب توحد الطبقة العاملة والشباب العاطل والأسر في حراك طويل مثلما يحدث في الريف ، عملياً عرفت المدن المغربية بأساليب احتجاجية مختلفة في الوثيرة وفي الوقع، وتأثير حركة احتجاجية في البيضاء مثلا لثلاث أيام ليس هو تأثير الحسيمة لشهر مثلا على مستوى حجم الخسائر في الاقتصاد والإدارة ..الخ. ولذلك الدولة تتوجس كثيرا من حراك المدن الأخرى. لكن يجب أن لا ننسى أن في معظم المدن، انتشرت قيم الوصولية والزبونية والاستغلال في صفوف الناس بسبب تفكيك منطق السوق لقيم التعاضد والتضامن والمقاومة، كما فككت النقابات والأحزاب ما تبقى من قيم الاستحقاق، وباتت الأسر مجردة من كل وصاية على التربية والقيم، بعدما تحولت إلى مجرد بنية اقتصادية، وكأنها شركة لتمويل متطلبات أعضائها العضوية والحيوية. وإذا كان الريف جزء من المغرب، فإن بقاؤه معزولا جغرافيا وثقافياً، وتوحده على مستوى مرتكزات هويته المغلقة (اللسان/الثقافة)، جعله يبقى بعيدا نسبياً عن هذه القيم، وهو ما يفسر اختلاف المواقف وطرف التفكير بين ريفي لم يغادر المنطقة، وآخر استقر في مدينة كبيرة، وإن كانت الشخصية القاعدية بتعبير لينتون تبقى مشتركة . وإذا كان من وظيفة مؤسسات الوساطة من نقابات وأحزاب تأطير الشارع والمساهمة في بناء المواطن السياسي ، فإن حراك الريف قد قلب المعادلة، وجعل الشارع يؤطر مؤسسات الوساطة. وإذا كان ذلك لا يفتقد للايجابي على المستوى القصير، فإنه يعتبر على المستوى المتوسط والبعيد مؤشراً خطيرا للغاية على الإفلاس المجتمعي.