*رئيس مركز الريف للدراسات والأبحاث يقدم الحراك الشعبي في الريف الذي انطلق غداة مقتل بائع السمك محسن فكري نموذجا مختلفا لظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية المألوفة في النسق الاجتماعي والسياسي المغربي، فاستمرار الاحتجاجات لأزيد من ستة اشهر وتوسع رقعتها الجغرافية لتشمل مناطق أخرى داخل الريف وخارجه، رغم المجهود الذي بذلته وتبذله الدولة في اطلاق كثير من مبادرات الحوار مع نشطاء الحراك الذي قاده والي الجهة السيد محمد اليعقوبي ونزوله الى الميدان في سابقة من نوعها لمباشرة الحوار مع نشطاء الحركات الاحتجاجية المطلبية وتوصله في كثير من المواقع التي زارها الى جداول زمنية لتلبية المطالب الاجتماعية للمحتجين، بالرغم من ذلك كله تتفاجأ السلطات باستمرار هذه الاحتجاجات بشكل أكثر حدة ، وبزخم اكبر في الزمان والمكان، هذا الوضع جعل من ظاهرة الحراك الشعبي بالريف تتحول الى ازمة مزمنة في المشهد الاجتماعي الريفي خاصة والمغربي عامة. فالى من يرجع استمرار هذه الأزمة بين الحراك والدولة؟ هل يتعلق الأمر بوجود مطالب سياسية انفصالية تتجاوز المطالب الاجتماعية والاقتصادية كما تروج كثير من الجهات؟ ام ان ثمة تلكؤ للسلطات في تلبية المطالب الاجتماعية للمحتجين مما يعطي للحراك والقائمين عليه انطباعا ان الدولة تحاول فقط احتوائهم كما حدث في تجارب سابقة ؟ وهل يتعلق الامر بأزمة الحوار والمحاور الاجتماعي في الحراك او بالأحرى ان الحراك لا يملك معبر اجتماعي وسياسي يفسر ربما اختراقا للحراك من قوى سياسية و ايديولوجية توظف الحراك لخدمة اجندة أخرى؟ وهل تحمل الاحتجاجات في الريف هوية اخرى تعبر بشكل او بآخر عن تراكمات الماضي وتعقيدات العلاقة المعقدة بين الريف والمركز التي لم تسطع المصالحات السابقة تجاوزها؟ انها أسئلة ذات اهمية كبيرة يعتبر مجرد طرحها في هذا السياق حاجة استراتيجية وحيوية للفاعل السياسي الرسمي والغير الرسمي وللدولة المغربية ومؤسساتها المختلفة، انها اسئلة تقربنا من الاسباب العميقة لاستمرار الحراك الشعبي بالريف وتصاعده رغم بسط الدولة يدها للحوار. في محاولة اجابتنا على هذه الاسئلة نود التذكير بالمادة التي نشرناها في فبراير الماضي حول " احتجاجات الريف تضع على طاولة الاختبار العهد الجديد للمصالحة" المنشورة في عدة مواقع الكترونية وكذا في جريدة الاحداث المغربية، وبالتالي فان هذه الورقة لن نضمنها بعض الابعاد التاريخية التي تخص الاحداث التي عرفها الريف في فترات مختلفة، بل سنحاول فهم وقراءة الاسباب الحقيقية التي تجعل من الاحتجاجات في الريف تستمر وتتوسع في النطاق الجغرافي وعلى المستويات الاجتماعية والفئوية المختلفة رغم ما ابانت عنه الدولة من استعداد للحوار وتحقيق مطالب الحركة الاحتجاجية. ولئن كانت هذه الورقة امتداد لهذه للورقة السابقة ومكملة لها خاصة فيما يتعلق ببعض المقاربات الخاطئة للدولة في تدبير الحقل الاجتماعي والسياسي والحزبي في المنطقة واستمرار بعض الروافد التاريخية والرمزية في تغذية الوعي الجمعي واللاوعي الجمعي الريفي . – في سؤال وجود مطالب سياسية انفصالية تتجاوز المطالب الاجتماعية والحقوقية يمكن القول بكثير من التجرد والموضوعية، ان الحراك الذي بدأ بعد حادثة مقتل بائع السمك محسن فكري طحنا في حاوية الازبال كانت كل الأسباب والشروط الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية تنبأ بحدوثه وهذا ما صرح به الأستاذ الياس العمري الامين لحزب الاصالة والمعاصرة ورئيس جهة طنجةتطوانالحسيمة في الاجتماع الاخير بمقر عمالة اقليمالحسيمة مع المنتخبين الذي انعقد بمناسبة الزيارة الاخيرة لوزير الداخلية السابق السيد محمد حصاد، وبالتالي فانه في اعتقادنا ان رمي الحراك بتهمة الانفصال اتهام ليس في محله ولا ينم عن تشخيص دقيق للمشكلة ، فمنطقة الريف تعيش أزمة اجتماعية حانقة فإذا نظرنا الى كل القطاعات الاقتصادية بالإقليم نجدها مفلسة بالكامل او على حافة الافلاس بدءا بقطاع الصيد البحري الشريان الحيوي الذي يغذي الساكنة ويمدها بأسباب الرزق اليومي، انهار بشكل شبه كلي خاصة بعد هجرة البحارة و مراكبهم الى الموانئ الأخرى، نفس الشيء ينسحب على قطاع التجارة حيث تشهد الحسيمة ركودا تجاريا أصاب اقتصاد المنطقة بركود قاتل، خاصة بعد نقل الجهة من الحسيمة الى طنجة، ويبقى القطاع السياحي ينتظر شهر غشت من كل سنة ليشهد بعض الانتعاش اما الصناعة فهي منعدمة بالمنطقة هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي افرز ويفرز جحافل من العاطلين والمعطلين وانسداد كل الافاق امام الفئات الشابة التي تتطلع الى مستقبل افضل. وهذا لا يعني ان الحراك لا يعرف وجود بعض الحالات الفردية المتطرفة التي تحمل الخلفية الانفصالية بجهل او تعصب او ضيق افق ولكنها تبقى حالات معزولة ولا تؤثر في هوية الحراك وحقيقته المطلبية كما ان هذا لا يعني كذلك عدم وجود من يريد ان يوظف الحراك او يقرصنه لخدمة اجندته الخاصة سواء في الداخل او الخارج. – اما فيما يتعلق بجدية الدولة في التعامل مع مطالب الحراك وتلبيتها، فانه ما يسجل لحد الان على مستوى التصريحات والوعود التي اعطيت للجان الحراك من خلال الحوار الذي باشره السيد محمد اليعقوبي، نلمس ان هناك نوع من التعامل الجدي مع مطالب المحتجين ويبقى تنفيذ تلك الوعود رهين بوجود ارادة سياسية حقيقية لدى الدولة، لتجاوز هذه الازمة التي تنذر بعواقب وخيمة على المنطقة والمغرب عامة لو استمرت بهذا التصعيد بدون أفق للحل، كما انه يجب على نشطاء الحراك كذلك ابداء نوع من الوعي بخصوص اعطاء الوقت الكافي لتحقيق مطالب المنطقة، لان تلك المطالب فيها ما هو اني ميسر التحقيق وفيها ماهو يحتاج لبعض الوقت وفيها ماهو إستراتيجي، ويبقى كما قلنا وجود ارادة سياسية حقيقية كعامل اساسي لتحقيق المطالب، كما انه مطلوب من لجان الحراك ابداء نوع من الواقعية في حوارهم مع الدولة، مع ان مشكلة الحوار تبقي من المشاكل الاساسية التي تعتري الحراك في علاقته بالسلطة، لأنه لا يعقل ان تسطر عريضة مطلبية وترفض الحوار او ان "تكفر" بالدولة ومؤسساتها عبر انتاج خطاب عدمي وان تتحدث في نفس الوقت عن المطالب والحوار فلمن ستقدم مطالبك وبأي معنى يكون ذلك الحوار الذي تنشده... اذا تهجمت على الدولة ورموزها وكل احزابها وسياسيها وإعلامها. ان الذي يحاور على الملف المطلبي يكون سقف خطابه محكوم بسقف تلك المطالب...؟ – ان الحراك الذي يعرفه الريف بدأ عفويا بعد مقتل بائع السمك محسن فكري ولئن كانت تلك الحادثة بمثابة النقطة التي افاضت الكأس فقط. ان العناصر التي تصدت لقيادة الحراك لعبت فيها الصدفة والتلقائية دورا كبيرا، فإذا نظرنا الى طبيعة الخطاب والسلوك الاحتجاجي الذي يميز الناشط ناصر الزفزافي،-مع كل احتراماتي له كشخص- نجد انه تطغى علية العشوائية وانعدام الرؤية والتصور، فالرجل ذو مستوى تعليمي محدود، كانت لخطاباته التي تتسم بالعدمية والهجوم على كل الاطارات السياسية والمدنية والنقابية واستباحته لكل الحرمات الدستورية والمؤسساتية الاثر الكبير على الحراك، مما جعله يأخذ أبعاد اخرى وينحرف في بعض فتراته عن مساره الاجتماعي والحقوقي، بفعل وجود قوى أخرى تتحين الفرص لقرصنة الحراك، مع تسجيلنا هنا ان كثير من نشطاء الحراك ابدو معارضتهم الشديدة لذا المنهج والسلوك الغير المسؤول الذي اضر كثير بالملف المطلبي المشروع للحراك. وتبقي المشكلة ان هذا الخطاب العدمي التصادمي يلقى صدى لدى بعض الفئات وتجد فيه مجالا لإفراغ احتقانها ونقمتها على الدولة/المخزن، وهنا تكمن المشكلة الكبرى فغياب الاحزاب الحقيقية والنقابات والإطارات المدنية ونخب المثقفين وإفلاس المنظومة التعليمية يخلق فراغا كبيرا على مستوى تأطير وتوجيه وتكوين المواطنين على ثقافة نضالية مسؤولة وبناءة وهادفة، فالدولة وفق مناهج العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة في حاجة الى احزاب ونقابات وانتلجنسيا حتى ولو كانت هذه الاطارات والمكونات ذات نفس معارض قوي، لان الاحتجاج عندما لا يكون مؤطرا سياسيا وحزبيا ونقابيا ومؤسساتيا يكون اكثر خطورة على السلم الاجتماعي للدولة والمجتمع من ان يكون مؤطرا و يملك معبر سياسي وحزبي ونقابي وفكري لأنه والحالة هذه سوف لن تجد الدولة من تحاوره حوار مسؤولا ، مما يؤدي الى استنزاف الدولة ومؤسساتها السياسية و الأمنية وهذا لا يعني اننا ننتقص من قيمة ومستوى نشطاء الحراك، ذلك ان في الحراك اطر ومثقفين يملكون مؤهلات وتكوين عال، إلا انه للأسف الشديد لم يتمكنوا من التأثير او بالأحرى تصحيح كثير من الاختلالات التي شابت الحراك بسبب ان خطابها لا يجد صدى لدى أوسع فئات الحراك وقواعده، مع ذلك فان بعض التطور الذي وقع مؤخرا في اداءه يرجع الى مجهودات تلك القوى الحية ، وفي جميع الاحوال نحن لا نحاكم هنا الحراك بقدر ما نريد ان ننبه الدولة ان اضعاف الاحزاب التقدمية والنقابات وتهميش المثقفين المستقلين يخلق فراغا تستغله القوى العدمية لتنفيذ اجندة هدامة، ناهيك عن خلق الفوضى نتيجة غياب المعبر الاجتماعي والسياسي للحركات الاجتماعية والاحتجاجية. – لقد سبق ان قلنا في مقالنا السابق حول الحراك الموسوم ب" احتجاجات الريف..تضع على طاولة الاختبار العهد الجديد للمصالحة ان" الدولة المغربية ظلت منطقة الريف بالنسبة اليها "مخيفة" ومصدر لهواجس بفعل رواسب الماضي وماضي "الجمهورية" التي أسسها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل هذا الهاجس متجذرا في وعي ولا وعي الدولة مع ما ترتب عنه من مقاربات أمنية متعسفة في الكثير من الأحيان تجلت بالأساس في الطريقة التي ووجهت بها أحداث 58 والتدخل في أحداث الثمانينيات من القرن الماضي والحملة ضد مزارعي الكيف بعد صدور التقرير الأوربي الشهير في التسعينيات.. وفي ذلك السياق وضحنا ايضا بعض الحقائق التاريخية فيما يتعلق بمفهوم وفكرة "الجمهورية" بالريف (وكنا قد اشرنا الى هذا الموضوع في مقالنا المنشور في موقع هسبرس وجريدة الاحداث المغربية تحت عنوان "تجربة الخطابي التحررية وسؤال المرجعية لمن يريد الافادة اكثر). – ان الحراك في الريف هو ظاهرة مجتمعية من افراز عوامل معقدة منها ما هو اجتماعي اقتصادي ومنها ما يتصل بالريف كهوية بالمعنى التاريخي في علاقته المتأزمة بالمركز، وأنا هنا اختم هذه الورقة بواقعة تشكل فارقة في تاريخ الريف المعاصر وهي الواقعة التي تؤرخ لزيارة الملك محمد السادس بعد اعتلائه العرش في سبتمبر 1999، ورغم ان تلك الزيارة كانت تقليدية في اطار الجولة التي يقوم بها ملوك الدولة العلوية الشريفة بعد اعتلائهم العرش، إلا ان الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس الى الريف كانت لها رمزية خاصة بالنظر الى العلاقة المتأزمة التي كانت تشوب الريف بالمركز حتى وفاة الملك الراحل الحسن الثاني. فحسب ما قرأنا في الاعلام وتناقلته بعض الروايات ان الملك محمد السادس عندما رأى الجموع الغفيرة التي استقبلته بحفاوة كبيرة منقطعة النظير سأل وزير الداخلية الاسبق الراحل ادريس البصري ،ان كان هؤلاء الريفيين خرجوا طواعية ام خرجوا بأمر من الداخلية فأجابه البصري انهم خرجوا طواعية فتأثر الملك محمد السادس أيما تأثر وغلبه الشعور الانساني "فاغرورقت عيناه بالدموع " حسب ما تحكي الرواية. وبغض النظر عن صحة هذه الرواية من عدمها فنحن كنا شاهدين على ذلك الاستقبال الاستثنائي للزيارة الملكية وتوقفه الرمزي بأجدير وكنا كلنا امل ان تتصالح الدولة مع المنطقة وترفع عنا تهمة "مساخيط الملك". لقد كانت تلك الفرصة تاريخية كان من الممكن الاستفادة منها لانجاز مصالحة حقيقية، ومن لا يعرف سيكولوجية الانسان الريفي نقول له ان "روافة" اناس متسامحين جدا وكرماء جدا ولكن يكون رد فعلهم عنيفا بل ومتهورا في بعض الاحيان عندما يحسون بالغدر..لا ننكر ان الملك محمد السادس بذل جهود مضنية لطوي صفحة الماضي مع المنطقة وأبان عن ارادة حقيقية في انجاز هذا المطلب التاريخي ولكن الدولة والمؤسسات تبقى دائما اكبر من ارادة شخص ولو كان حاكم بسلطات الملك في المغرب. نتمنى صادقين ان يتم قراءة الحراك الشعبي بالريف بكل هدوء واستيعابه بكل ايجابياته وأخطاءه فهؤلاء في اخر المطاف هم ابناء الوطن والريف جزء لا يتجزأ من هذا الوطن ونتمنى ان يحتكم (بضم الياء) الى العقل دولة وحراكا لكي يكون الرابح هو الوطن فقط ويقطع الطريق على القوى الهدامة اصحاب الولاءات والمرجعيات اللاوطنية و اللامغربية لأنها تتصيد في الماء العكر.