قراءة في الاحتجاجات المستمرة في منطقة الريف والمأزق الامني الذي يؤرق النظام. فما السبيل للخروج منه (المأزق الامني)؟ من اهم الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الاحداث العنيفة التي وقعت في ايث بوعياش في فبرايرهي على التالي: أولا:إن المنطق الامني ( securitization) مازال يحدد ويؤثر في سلوك متخذي القرارات في تعاملهم مع اي مطلب شعبي مشروع, وبعبارة أخرى ,إن صناع القرار يعتبرون أي إحتجاج سلمي او عمل سياسي تهديدا للمفهوم الغامض للنظام العام. على الرغم من أن هذا الحراك الشعبي لا يشكل أي تهديد مادي في حد ذاته. إن الاعتماد على المقاربة الامنية(securitization) يكشف مدى قصر النظر لدى صناع القرار ومدى فشلهم في طرح بدائل جديدة ومستدامة لمعالجة المشاكل التي تؤرق الشعب المغربي. إن المقاربة الامنية, كإطارمفاهيمي, تعني العملية التي يتم بواسطتها تصور شيئ, شخص, أو مجموعة معينة, على أنها تشكل تهديد لكائن مرجع معين(referent object). في هذه الحالة, يبقى التصور مجرد خطاب لغوي لا علاقة له بالواقع, بمعنى إن تصور شيئ على أنه تهديد لمرجع ما, لايعني بالضرورة خطرا حقيقيا على ذالك المرجع.عندما يكون اقناع متلقي معين(audience) على أن شيئا, شخصا,أو مجموعة معينة تشكل تهديدا على كائن مرجع معين, تتخذ تدابير الطوارئ(emergency measures) للقضاء على هذا الخطر المخيل خارج حدود الاسلوب السياسي العادي(political procedure). إن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين في ايث بوعياش مثال على تنفيذ تدابير استثنائية خارج الاسلوب السياسي العادي(الحوار- المشاركة-الاستماع). ثانيا: إن الاحداث الاخيرة في الريف كشفت بشكل صارخ على مدى فشل الحكومة على الوفاء بتعهداتها لتشخيص ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية عبر الحوار, المشاركة, الاستماع,وعبر المقاربة اللامنية(desecuritization) ثالثا: إن الاحداث الى حد كبير افقدت مصداقية التعديلات الدستورية الاخيرة ونزعت عنها صفة الاستدامة(sustainability). وأخيرا: إن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين في ايث بوعياش وأماكن أخرى في منطقة الريف ادلة واضحة على عدم قدرة الحكومة على صياغة سياسات طويلة الامد التي قد تساعد على تجاوز التحديات المتراكمة التي تواجه البلاد. من هذا المنطلق ,فإن الهدف من هذا المقال ليس هو التوسع في مفهوم المقاربة الامنية بل إن هذا المقال أعد لتحليل الاحتجاجات الجارية في الريف من منظور سياسة هوية(identity politics)وبعبارة أخرى إن هذا المقال يؤكد على أن الاحتجاجات الجارية تدل على ارتفاع سياسة هوية الريف(Rif identity politics) ثانيا: هذا المقال يؤكد على أن المأزق الامني (security dilemma) الذي يتخبط فيه النظام عامل اساسي على عرقلة اي اصلاح حقيقي على المدى الطويل. وأحيرا:إن تأسيس جهوية قائمة على متغيرات(variables)عضوية ستساعد على تجاوز وحل معضلة المأزق الامني وضمان الاستقرار السياسي على المدى البعيد. الاحتجاجات الجارية في الريف كمؤشر حقيقي على تصاعد سياسة هوية إن الشعب الريفي له خصائص فريدة(sui generis)أولا: يتمتع بتجارب تاريخية ومعتقدات مشتركة, ثانيا, له مرجعية تاريخية مشتركة, ثالثا, له تمركز جهوي متجانس, ورابعا, يشكل مجموعة ثقافية متميزة التي لها تاريخ من وجود سياسي مستقل إلى حد كبير (من الناحية التاريخية, لقد كافح الشعب الريفي من أجل الحفاظ وحماية وجوده السياسي المستقل عن الحكومة المركزية). في ضوء هذه الخصائص الفريدة التي يتمتع بها الريف, يبدو من القول بأن الاحتجاجات المستمرة في الريف تحمل القليل بالنسبة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية وأن كانت في الظاهر كذلك. على وجه التحديد إن الاحتجاجات المستمرة تكشف بشكل مستمر ومتدرج في تنامي سياسة هوية. هذه هي البنية العميقة(deep structure)لهذه الاحتجاجات وليس الإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي. إن الحراك الشعبي المنظم في الريف يكشف عن تصاعد شعور قومي قوي (nationalist sentiment)لإحياء التاريخ المجيد للريف ورموزه التاريخية (هذه الرموز أفرغتها الدولة, للأسف الشديد, من هيبتها الحقيقة), وإصلاح سمعة الريف المشوهة(من طرف الدولة)وتأكيد الهوية الفريدة التي يتمتع بها الريف, وأخيرا إعادة الروح إلى الحكم الذاتي (autonomy) الذي كان يتمتع به الريف تاريخيا. إن سياسة هوية لها, حسب kaldor, علاقة بالمطالبة إلى السلطة على أساس هوية خاصة كما هو مجسد في ثقافة ولغة مشتركة أواصل مشترك (Common descent). بعبارة أخرى, إن المطالبة بالتغيير السياسي أو الاجتماعي يصاغ بالماضي المثالي(idealized representation of the past). إحياء الماضي (الذاكرة الجماعية والتقاليد المشتركة) عامل أساسي يساهم في صياغة أي تغيير. قد يبدو,...,بأن الاحتجاجات السلمية في الريف هدفها هو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي, لكن هذا تقزيمي (reductionist)وليس كاف لاستنباط البنية العميقة لهذه الاحتجاجات. إن البنية العميقة التي تحملها هذه الاحتجاجات هي سياسة هوية. إن سنوات القمع الممنهج والتهميش الذي لحق بالريف وطمس هويته, وخصوصا منذ إجهاض انتفاضة 1958 تزكي دعوات تغيير الريف في إطار دستوري دستوري مؤسساتي داخل سيادة الدولة المغربية. الأدلة المادية, التي تؤكد دخول الريف في زمن سياسة هوية كثيرة: المتظاهرين السلميين يشعرون بالفخر برفع علم الجمهورية الريفية. هذا العلم, الذي كان محرما منذ سقوط الجمهورية واختفائها عن المشهد السياسي, هو رمز الانتماء السياسي بالنسبة للريف. من الأدلة المعبرة هي هتافة استقلال الريف من طرف مجموعة محدودة في ايث بوعياش ومطالبة النظام بمغادرة الريف لأن الريف ليس أرضه وأيضا المطالبة بالاعتراف باللغة الريفية المرفوعة من طرف الحركة الامازيغية بالناضور, لأن الريفية متناغمة مع الجغرافية مما يؤدي الى بزوغ القومية الريفية. كل هذه الأدلة وغيرها تؤشر لمرحلة تصاعد الحس القومي الريفي الذي قد يتحول إلى المجاهرة باستقلال الريف إذا استمرت الحكومة في إتباع سياسة الترقيع ( policy of bricolagethe) تجاه الريف. المأزق الأمني والسبيل للخروج منه السبب الأساسي الذي يمنع النظام من القيام بإصلاحات هيكلية طويلة المدى هو ما يسمى في الواقعية(realism) بالمأزق الأمني(Security dilemma). الافتراض الجوهري لهذا المفهوم النظري هو عدم وجود الثقة المتبادلة بين طرفين أو عدة أطراف. في المجال العسكري, المأزق الأمني يشير إلى احتمال إن إجراءات الدولة في توفير الأمن لها (مثل البناء العسكري) قد يؤدي إلى انخفاض امن جارتها التي قد تحذو حذوها وبالتالي تزايد حدة المأزق الأمني وتزايد حدة اللاثقة بينهما. إذا أسقطنا هذا المفهوم على المغرب, سنحصل على المعادلة التالية: أي مسعى حقيقي لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس قواعد(norms) سلمية يلتزم بها الجميع بدون استثناء.يصور تهديدا لاستقرار النظام. بمعنى آخر, تمكين المغاربة(empowering)هو خطوة نحو إضعاف النظام وعزله عن المشهد السياسي. وعلى العكس, إن معظم المغاربة ينظرون إلى الإصلاحات التي يقوم بها النظام بأنها غير مستدامة(unsustainable) وظرفية وقصيرة الأمد. إن عدم توحيد الحسيمة والناضوروباقي مناطق الريف,تحت كيان واحد(جهة)هو مثال حي على حدة المأزق الأمني الذي يؤرق النظام. لان توحيد مناطق الريف تحت كيان واحد, حسب عقيدة النظام المشكلة, سوف يقوي هذه الريف الذي سوف يطالب بالاستقلال والانفصال عن التراب الوطني على المدى البعيد. هذه العقيدة المشكلة لا تجسد عقلية الريف لان الشعب الريفي يرفض أي مطلب انفصالي. ما يريده في الواقع, هو أن يسير شؤون بيته بدون الاحتكام إلى المركزية البعيدة وفق إطار دستوري واضح المعالم وداخل سيادة الدولة المغربية. إن المأزق الأمني, حسب تصوري, هو المشكل الرئيسي وراء تشخيص مؤسسات الدولة(personalization)القائمة على المحسوبية وليس على العلاقة القانونية العقلانية, وراء تدني مستوى أو عدم وجود شرعية عمودية وأفقية. و بالتالي فان مؤسسات الدولة ليست سوى كائنات تحت سيطرة الأشخاص يوظفونها لأهدافهم الشخصية والعائلية وليست كائنات مصممة لخدمة مصالح العباد. فاحتلال مؤسسات الدولة ومناصبها من قبل عائلة الفاسي وان كان بدون مبادئ الجدارة مثال على ذالك.وأخيرا,إن هذا المأزق الأمني للأسف الشديد أدى إلى ما يسمى دولة ذات مأزق قوة(state-strength dilemma). هذا المفهوم يشير إلى كل شيء تفعله الدولة لتصبح قوية (من حيث الاستخراج والإكراه) في الواقع يكرس ضعفها. اعتماد التدابير القسرية المفرطة ضد المغاربة, على سبيل المثال,هو مثال للدولة لإعطاء "انطباع "بأنها قوية, في حين إن هذا الواقع يولد مقاومة(كالاحتجاجات) التي يمكن أن تساهم في إضعاف الدولة , كما وقع في عدة دول من العالم يكمن المخرج في خلق جهوية حقيقية وليس جهوية "موسعة "على أساس متغيرات(variables) عضوية كاللغة, التقاليد المشتركة, الذاكرة الجماعية, التجارب التاريخية المشتركة والأصل المشترك. إن هذا الطرح ليس فقط تخفيف العبء عن الحكومة المركزية, ولكن أيضا تعزيز وتقوية الشرعية الأفقية والعمودية التي سوف تساهم في الاستقرار السياسي للبلاد على المدى الطويل. تخويل المناطق(regionalized entities) بصلاحيات واضحة وجلية مثل التعليم, الشغل, الصحة, العدل وأيضا الشرطة وبعض جوانب السياسة الخارجية(كالاقتصاد والثقافة والسياحة) سوف يضمن المنافسة العادلة والتعلم المتبادل(mutual learning) بين الجهات وفق مبدأ التضامن, سوف يحد من الفساد الممنهج, سوف يقوي المساءلة(accountability), سوف يعزز الحكامة (governance),سوف يقوي اللغة الامازيغية, سوف يضمن تأسيس ا لاحزاب الجهوية, سوف يعيد الإحساس بالمواطنة المغربية(الارتباط بالأرض) وسوف يقوي ويطول عمر النظام باعتباره رمزا للوحدة الوطنية. وعلاوة على ذالك,فان القيمة المضافة لهذه الصيغة السياسية هو تعزيز المقترح المغربي لمنح الحكم الذاتي للصحراء المغربية وإقناع المترددين بقبول المقترح كحل استراتيجي لمشكل الصحراء المغربية. في الختام, إن الاحتجاجات المتواصلة في الريف ليس هدفها الخبز وإنما هدفها الفكرة. والفكرة هنا سياسية بالدرجة الأولى, لنقلها صراحة, إن الشعب الريفي, اليوم وفي ظرفية استثنائية تمر بها شمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ اندلاع ثورة سيدي بوريد, يريد إن يسير نفسه بنفسه داخل منظومة دستورية جلية المعالم وفي إطار سيادة وطنية مغربية ولا يريد الانفصال كما يزعم البعض الحاقدون على الريف العظيم. هذا المطلب مشروع لان تاريخ الريف يزكي ذالك. إن إصلاح هياكل الدولة وتمكين النظام من الخروج من المأزق الأمني يكمن في إنشاء جهوية حقيقية على أساس العناصر المشار إليها آنفا.