تقديم لابد منه: أجلت الكتابة في هذا الموضوع لأكثر من مرة، لأسباب ذاتية، و أخرى موضوعية، لكن هذه المرة لم يعد هناك مجالا للتأجيل، خاصة بعدما وجدت نفسي محاطا بمجموعة من الأسئلة، وربما هي نفسها التي يطرحها بعض المتتبعين، المهتمين والنشطاء، لست هنا بصدد تقييم نتائج الحراك، ربما لأن الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه المهمة، ولست من هواة ممارستها عندما ينتهي كل شيء لتحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، بل من عادتي التعبير عن مواقفي وأرائي بكل جرأة في معمعان الصراع، ومهما كلفي ذلك، وأنا الآن على وعي تام و مسبق أن هذا المقال سيجر علي انتقادات واسعة من محبي الأجوبة الجاهزة المبنية على العاطفة. إن قرار الكتابة على الحراك هو قرار خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر، إنه قرار مساءلة الحراك، محاورته واستفزازه الإستفزاز هنا ليس بالمعنى القدحي بلغة نقدية ومن موقع يسمح لي بممارسة هذه المهمة لأنني لا أتكلم من البرج العالي، بل أتكلم كمنخرط في هذا الحراك منذ لحظة طحن محسن فكري، كما انخرطت في حركات احتجاجية هنا وهناك، ولم ينزل علي النضال من السماء دفعة واحدة. في فهم الحراك عبر استحضار دلالة كرونولوجية الأحداث: في اعتقادي، أي محاولة لفهم الحراك يبقى فهم مشوب بالنقص ما لم نستحضر كرونولوجية الأحداث المتسارعة، التي عقبت لحظة طحن محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016، إنها اللحظة التي عبرت عن الوعي الجماعي، وعن البنية والتركيبة النفسية للإنسان الحر الذي يرفض الحكرة و يعشق الكرامة، إنها لحظة ترجمت على أرض الواقع مقولة نيلسون منديلا المشهورة "ليس حراً من يُهان أمامه إنسان، ولا يشعر بالإهانة"، ففي رمشة عين، بعدما أحس الأحرار بالإهانة خرجوا و تجمهروا في مكان وقوع الجريمة الشنعاء، للإحتجاج والتنديد بالجريمة والإهانة والحكرة، مظاهرات ومسيرات تلقائية، قبل أن يتخذ بعض الشباب مبادرة تأطير هذه المسيرات وعلى رأسهم الناشط ناصر الزفزافي، عدوى الإحتجاجات والتضامن تجاوز المتوقع و تجاوز العرق، الدين، الجغرافيا، مسيرات وطنية في جل مناطق المغرب، يوم وطني ضد الحكرة، وقفات أمام التمثيليات الديبلوماسية المغربية في دول أوروبا، وعي جماهيري قل نظيره، إننا فعلا أمام مرحلة مفصلية و سيناريو البوعزيزي كاد أن يتكرر في حلة مغربية، لكن ماذا حصل بالفعل، كيف، ولماذا خف هذا التضامن على المستوى الوطني؟ هل هو نتيجة طبيعية، أم أن هناك خطة مدروسة لعزل الريف وتركه يواجه النظام لوحده على مطالب هي نفسها مطالب لجميع المغاربة؟ أم أن مستوى الخطاب والقاموس اللغوي المستعمل في بعض الخرجات الإعلامية، هما السبب؟ حاول النظام في البداية إستغلال عنصر الدين، للتأثير على الإحتجاجات، لتفكيكها من الداخل عبر توظيفه لمصطلح الفتنة في محاولة لعزل الحراك الشعبي عن محيطه من العامة من الناس، وهو نفس السيناريو تقريبا الذي استعمله مع حركة 20 فبراير بيد أن تفطن الجماهير والعامة من الناس لهذه الخطة المخزنية الجبانة والخبيثة، كانت صفعة قوية للنظام، ورسالة واضحة المعالم مفادها أن خطاب شيوخ العهر لم يعد مؤثرا ولا يعلى على الحق، وأن الإنسانية أسمى من كل شيئ. مباشرة بعد فشل هذه الخطة الفتنة سيلجأ النظام إلى إفتعال صراع وهمي فايسبوكي بين اليسار والحركة الأمازيغية، و هو صراع لم يكن بالمطلق بريئ، بل كان ممنهج ومخطط، عرف النظام كيف يبلوره فايسبوكيا، لكنه فَشِل نسبيا في بلورته ميدانيا، هذا التطاحن الفايسبوكي إنخرط فيه الطرفين بجدية كان هناك من فُرض عليه هذا النقاش والصراع وكان هناك من كان يلعب دوره لنسف الحراك بعباءة الدفاع عن اللغة، الوطن ، الإنتماء...رغم كل ذلك التطاحن الفايسبوكي، سيفشل النظام في ترجمته واقعيا لنسف الحراك، ليلتجئ بعد ذلك إلى إحتلال ساحة الشهداء بدعوى تنظيم مهرجان جلب الكثير من السخرية، خاصة وأنه جاء كاستجابة لدعوات بعض الجمعيات التي و قعت بيانا تشتكين فيه الروكود الإقصادي!، صمود الحراك لم تنل منه حتى تلك الحيل التي هيأها النظام بعد خروج المنتخب المغربي من تصفيات كأس إفريقيا، وسوق لها الإعلام بشكل يثير الغثيان مستعملين الأسطوانة المملة والمشروخة " الإنفصالين"، يحتفلون بهزيمة المنتخب الوطني، وقلت آنذاك الخروج "للإحتفال" بهزيمة المنتخب حالة سيكولوجية للجماهير، قد يكون هذا الخروج نابع من حب الوطن، إنه تعبير عن رفض الهزيمة في قالب"الإحتفال" بالهزيمة، بل يمكن اعتباره شكل احتجاجي على سياسة النظام الفاسدة في ميدان الرياضة، شأنه شأن الأشكال الإحتجاجية في ميدان الصحة، التعليم، الشغل... . لكن بالمقابل هل نجح النظام في عزل الحراك بالريف؟ هناك من سيعتبر هذا السؤال لا محل له من الإعراب، لأن بالنسبة لهم الحراك بدأ ريفيا وكان كذالك وسيبقى كذلك، هذا هو منطقهم، لكن الواقع أن الحراك بدأ ريفيا وإتخذ بعدا وطنيا بل بعدا دوليا، أطراف أرادت له أن يبقى محليا، ربما هذا الأمر نابع من حسن النية لكن يجب أن نقر أن قراءتهم لم تكن مبنية على تحليل سليم للوضع و للتجارب السابقة، فالنظام في مصلحته أن يُعزل الحراك حتى تكون هناك مبررات ليسوق إعلامه فكرة الإنفصال والإنفصالين... و أيضا لتسهيل مراقبته و السيطرة عليه، خاصة كانت هناك معارضة شرسة لتسمية الحراك، و نحن نعلم جيدا أهمية ودلالة و أبعاد تسمية الحراكات الإحتجاجية التي دائما تحمل تاريخ انطلاق شرارتها، حيث ظل دون تسمية إلى أن أصبح يسمى الآن بالحراك المبارك!. فكرة عزل الحراك وصل إلى محاولة مَرْكزته داخل الحسيمةالمدينة ورفض أو تجاهل بعض دعوات التنسيق الإقليمي مع لجان أخرى، خاصة ونحن نعلم أن هناك لجان أخرى كانت متواجدة ميدانيا قبل طحن شهيد الكرامة محسن فكري، هل مركزة الحراك في الحسيمةالمدينة كان سوء تقدير أم لسبب في نفس يعقوب؟ حاولت جاهدا أن أجد مبررا لخطتهم و قرارهم هذا، لكن، للأسف وجدت نفسي أمام معطيات لن تسمح وتغفر لي إن تغاضيت عنها، أولها كان يوم 9 دجنبر 2016 حيث دأبت الجماهير الشعبية في بوكيدان تخلد ذكرى انتفاضة 10 دجنبر 2010، وكانت دأبت لجنة الحسيمة للحراك تنظيم جموعاتها العامة مع الساعة 19 ليلا، لكن في ذلك اليوم دعت إلى إجتماع عام مع الساعة 15 تزامنا مع الشكل النضالي في بوكيدان! ولقد تابعنا رد فعل لجنة الحسيمة حول أعمال الشغب الذي أقحمت فيه الجماهير، حيث تجاهلت بشكل تام تلك الأحداث ولم تتبن المعتقل ناصر لاري، ولم تدعو لأي وقفة أمام المحكمة، رغم أن المعتقل بمعية الجماهير لبوا نداء اللجنة! وهو نفس السيناريو تقريبا تقوم به هذه اللجنة يوم البارحة مع نداء عائلة المعتقل السياسي البشير بنشعيب، حيث تجاهلت بشكل تام النداء و معركة الأمعاء الخاوية للمعتقل بنشعب، وكأن الأولوية في هذا الوقت بالضبط هي إنارة "الرومبوان"، إن هذا التجاهل بالنسبة لي لم يكن مفاجئا خاصة إذا إستحضرنا مواقف بعض قادات الحراك من أحداث أيت بوعياش 2011 و 2012 دائما ما يتحدثون عن الأخطاء التي إرتكبتها 20 فبراير، وكأنهم يحملون المسؤولية للنشطاء و يبررون النظام من مسؤوليته.! مما يعني تجاهل المعتقلين السياسيين هو موقف سياسي ولم يكن هفوة وسوء تقدير. مطالب إجتماعية وإقتصادية، أم مطالب سياسية؟ منذ الوهلة الأولى أعلنت قيادات الحراك عداؤهم لكل ما هو سياسي، ولكل الشخصيات السياسية، والجمعيات التقدمية بدون استثناء، عداء و إقصاء يُفهم منه، فقدان الثقة في المشهد السياسي، لكن يفسر أيضا أنهم ينفرون من كل ما هو سياسي فهم يلوحون بمناسبة أو بغيرها أن مطالب الحراك مطالب اجتماعية، والحراك حراكا اجتماعيا، و هم أي القادة لا يمارسون السياسة!، لنفترض جدلا أن مطالب الحراك مطالب إجتماعية، لكن إلى من سيرفع الملف المطلبي؟ ومع من ستجلسون في مائدة الحوار؟ طبعا فالحوار ليس خيانة كما يروج البعض ، طبعا سجلسون مع ممثل الدولة في الإقليم العامل/ الوالي، مع رئيس الجهة، مع رؤساء الجماعات المحلية...و كل هؤلاء ينتمون سياسيا لأحزاب، إذن كيف يستقيم المنطق، ترفضون كل ما هو سياسي و لكن في الأخير لا مناص من الحوار مع هذه الجهات لقد سبق أن أعلنتم استعدادكم للحوار في بلاغكم "المشهور" إبان اعتقال المناضل ناصر لاري ، إذن لماذا كل هذه المزايدات؟ ففي الأخير لستم حزبا ثوريا في طريقه لحسم السلطة حتى تقصون كل شيئ؟!. أما فيما يخص طبيعة المطالب المرفوعة إلى الدولة فمهما حاولنا إضفاء الطابع الحقوقي والإجتماعي عليها، تبقى في جوهرها مطالب سياسية، دَافِع إعداد المطالب هي دوافع سياسية نابعة من وعي سياسي، مثلا ضرورة إحداث مستشفى، جامعة...و الإستجابة لهذه المطالب يكون بإرادة وقرار سياسيين، كما هو الشأن بالنسبة للحكرة أيضا، فرفع شعار "لا للحكرة" هو مطلب سياسي محض، لأن عندما تمارس الدولة الحكرة فهو ليس سلوك إجتماعي يستدعي قراءة سوسيولوجية، بل هو سلوك سياسي يستدعي قراءة سياسية، لمعرفة دوافع و أسباب الحكرة، فهذه الأخيرة سلاح النظام لضمان استمراريته، سلاح ممأسس و منظم نظرا لإنتشار الفساد، الرشوة، الإفلات من العقاب... . في فساد النقد و فساد منتحليه : سادت مؤخرا ثقافة أقل ما يقال عنها أنها خطيرة جدا، تكرس مبدأ الطاعة، وإعداد إنسان ذو بعد واحد، إنسان لا يفكر لا ينتقد، إنسان على مقاس الحراك وإلا فأنت مشكوك في أمرك، مشكوش، تريد نسف الحراك، يكفي فقط للتعبير عن رأيك فيما ما يخص هفوة ما، أو إعلان عن رأيك، حتى تنال عليك وابل من الشتائم، منذ متى كان النقد خيانة، ومنذ متى كان التعبير عن الرأي تشويش على الحركات الإحتجاجية؟إن انتقاد تصرف/هفوة/خطاء...لناشط ما، أو إنتقاد قرار ما/بلاغ/بيان...للجنة ما، لا يعني أنك/أننا ضد شخص بعينه أو ضد الحراك، الشخص أو اللجنة ليسوا الحراك، والحراك ليس هو اللجنة و لا الشخص، الحراك هو الجماهير. هناك من يروج وبشكل ساذج أننا نتضايق من الناشط ناصر الزفزافي، مع العلم، ليس هناك أي تضايق بل هو إختلاف في القراء ات والتصورات، وانتقاد بعض الهفوات... بتعبير أدق ممارسة النقد في إطار حرية التعبير. فالسؤال السليم هو لماذا يتضايق البعض من هذه الإنتقادات حتى أصبح كل من يدلي بدلوه يخالف رأي ناصر، خائن في نظرهم ويشوش على الحراك "أعداء الحراك" التي تشبه "أعداء الوطنية" التي يوظفها النظام!؟ كيف يستقيم النضال من أجل الحرية والكرامة...وضد القمع في الوقت الذي نرفض من داخل الحراك حرية الإدلاء بالإنتقادات؟ بمجرد أن نعبر عن موقفنا بخصوص تصريح ما...تصبح خائن مشوش، وهذا يشبه إلى حد كبير طرح النظام، فمثلا عندما يطرح مشروع الوثيقة الدستورية ما عليك إلا التصفيق وعاش الملك، "والدستور يا الوردة وعليك طيح الندة". نحن نقدر أدوار الأشخاص والمناضلين ولا نقدسهم، أكبر أعداء الحراك هم من يروجون لثقافة "عاش" من داخل الحراك هؤلاء أعداء الحرية لا فرق بينهم و بين العياشة محترفي "عاش"، إن من يمارس يخطئ، و دورنا و من موقع المسؤولية تحتم علينا أن ننبه إلى الهفوات و الأخطاء، و لا أن نصطف مع الأغلبية لنكتسب رضى جيمات الفايسبوك. ختام: عدمي من لا يعترف بما قدمه الحراك من دروس في السلمية، الوعي، و طول النفس...، عدمي من لا يعترف بملحمة النساء يوم 8 مارس، عدمي من ينكر دور الشباب في الحفاظ على الحراك وعلى رأسهم المناضل ناصر الزفزافي. الحراك ليس بيضة حتى نخاف عليه إلى هذه الدرجة ، بهذه الخطابات و التحذيرات و التوسلات المبالغ فيها التي تخون ...من ينتقد، فأنتم و بدون وعي منكم تنتقصون من قيمة الحراك فيظن الخصوم أن الحراك بُني على رمال متحركة سيسقط مباشرة بعد هبة رياح عاتية، لكن الحراك قائم على صخور متينة متجذرة في جبال الريف العالية الشامخة الصامدة أمام تحولات الطبيعة، الحراك يستمد قوته من مشروعيته، لقد أصبح أكبر مني و منك، استحضار هاجس الخوف على الحراك لا يخدم الحراك في شيئ، دعوا الناس تنتقد تعبر تتساءل لتتلقى الجواب من الشارع فهذا الأخير هو الناطق الرسمي باسم الحراك. الحراك مستمر باستمرار القلق الوجودي الذي يعبر عنه، يستمر باستمرار الحكرة، باستمرار الفساد، باستمرار الظلم...