بعيدا عن دعوات شيطنة هذا الحراك الذي استكمل شهره السابع بدون أفق مطمئن، وبعيدا عن التوزيع المجّاني لتهم الانفصال والخيانة والتمويل الخارجي، وكذا المعارك الوهمية لأقطاب وصقور شبكة التواصل الاجتماعي، يتأمل المرء العاقل في الدرس المنسي من حدث حراك الريف الذي انتقلت عدواه -التضامنية على الأقل - إلى مدن مغربية كثيرة في الوسط والجنوب، ويتساءل مع نفسه عن الأسباب الحقيقية لهذا الحراك الشمالي، وعن سياقه المجتمعي، وتبعاته، ومسؤولية الدولة - ولا أقول الحكومة المولودة حديثا بشهادة وفاة صالحة للسنوات الخمس المقبلة - في نشأته وتطوره واستمراره؛ فإذا افترضنا النية الحسنة للطرف الأول، وجمعنا شتات تصريحات قادة هذا الحراك التي خصّصوها لبعض وسائل الإعلام الدولية فقط، والتي أجمعت على الطبيعة السلمية للحراك، وعلى إطاره الاجتماعي والحقوقي بالدرجة الأولى، وعلى عدم عسكرة المنطقة داخل البلد الواحد، يتبادر إلى الذهن السؤال المحيّر: أين كانت تعمل السياسات العمومية الوطنية المعتمدة قبل وبعد ورش الجهوية المتقدمة الذي اعتمدته البلاد سنة 2015 ومعه قصة مقتل محسن فكري المشهورة؟ وكيف لقادة هذا الحراك، ومعهم الآلاف من ساكنة المنطقة، أن يتحدثوا هكذا، وبجرأة ومرارة، عن واقع الإقصاء والتهميش والفقر والبطالة، وعن غياب بنيات وفضاءات الخدمات الأساسية والتكميلية، كأن هذه المنطقة من هذه البلاد كانت محتلّة من طرف قوة استعمارية، وتم تحريرها واسترجاعها، ولم يحن الوقت بعد لإعادة إعمارها وتأهيلها؟. الأكيد أن هذه المنطقة سمعت عن برامج وأوراش ومشاريع ميناء طنجة المتوسطي، ومخططات المغرب الأخضر والمغرب الأزرق والإقلاع والتسريع الصناعي، ووكالة تنمية أقاليم الشمال، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وصندوقي التنمية القروية ودعم التماسك الاجتماعي، ومؤسسة محمد الخامس للتضامن، وغيرها كثير مما أسّست له الدولة والحكومة مقرات وفروع وحضور بمختلف جهات المملكة، ووضعت على رأسه نخبة سياسية أو تكنوقراطية من جيش الآمرين بالصرف ومساعديهم. والأكيد أيضا أن هذه المنطقة نفسها التي تشكو من فرط الخصاص الاجتماعي في المقام الأول لديها ممثلون بالجماعات الترابية، وبمجلسي النواب والمستشارين، وبالإدارة العمومية، والأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وحتى بالجالية المغربية المقيمة بالخارج، بل إن فئة غير محدودة منحدرة من المنطقة نفسها لديها حضور وازن بمختلف المؤسسات الدستورية ومواقع سلطة القرار؛ فكيف لهذه المنطقة أن تعرف كل هذا النسيان في خضم هذه الدينامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد التي تحاصرنا يوميا بأخبارها ووجوهها وملتقياتها القنوات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية؟ وهل السياسات العمومية الوطنية القائمة أخطأت الطريق في رحلتها التنموية إلى الشمال الشرقي للبلاد، أم أنها أسقطت من حساباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عمدا منطقة الريف ذات التاريخ الطويل في درس الوطنية وظلم الحرب الكيميائية وجيل الممانعة التاريخية؟. ليس من السهل علينا تصديق هذا الطرح أو ذاك، لأن الأوراق بدأت اليوم تختلط، وبدأت شهية الخصوم تفتح على مائدة التدويل، وهذا ما يجب الانتباه إليه بروح وطنية أيضا، لأن واقع تأخّر المنطقة عن ركب التنمية الجهوية والوطنية هو في الشكل والمضمون حقيقة قائمة وبادية بالعين المجردة، ولأن السياسات العمومية المنجزة، أو التي هي في طور الإنجاز، تحتاج بجرأة إلى وقفة تأمل وتقييم لزوايا المحتوى والاستهداف والأثر، لإسقاط السياسات العمومية الموضوعة للاستهلاك الإعلامي فقط أولا، ولخلخلة السياسات العمومية المناسباتية التي تتموقع بين تجاذبات القوى السياسية القديمة والجديدة، ولتقويم السياسات العمومية الكبرى التي تتحدث بشراهة عن التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة والفوارق الاجتماعية والمجالية، ولتجديد وتشبيب النخب السياسية القادرة على الفعل والحراك المضاد بمنطق التنمية الواقعية المستدامة. أخيرا؛ فمنطقة الريف، مثلها مثل منطقة الواحات والمنطقة الشرقية بالخصوص، وكل مناطق المملكة عموما، تحتاج إلى مصالحة جديدة مع الدولة، ومع القائمين على تدبير الشأن العام، بموجبها يتم إقرار وتثبيت قيم الثقة والنزاهة والحق والواجب، وكذا ترسيخ مبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ليس بمعانيها الدستورية أو الجنائية أو الإدارية فقط، بل بمعانيها الأخلاقية والاجتماعية والحضارية السامية أيضا، وهذا هو ملخّص الدرس المنسي من حدث حراك الريف الذي استنفد من البلاد زمنا سياسيا ضائعا بين قضية القتل والمطلب والاحتجاج والوعد والوعيد ونظرية المؤامرة والتخوين، في حين كان الأولى والأجدى عقد جلسة مكاشفة بين الطرفين على طاولة أبناء البلد الواحد، وإبرام عقد اتفاق مفتوح ديمقراطيا على مداه القريب والبعيد.