يبدو أن الحركات الاحتجاجية بالمغرب قد بدأت تستفيد من دروس الماضي ومن تدبير ملفاتها المطلبية من لدن مؤسسات الدولة، والتي تستعمل في الغالب الخداع والمناورة والعنف الرمزي والمادي لإخماد شرارات الاحتجاج. ففي الريف، وبالرغم من الاعتقالات والأحكام في حق المتظاهرين السلميين، رفض الحراك كل دور لتلك المؤسسات وبقي مصرا على توجيه مطالبه مباشرة إلى الملك، معلنا بذلك بداية زمن سياسي جديد انهارت فيه الثقة في المؤسسات وآليات الوساطة. قيادات الحراك ظلت تؤكد أنها لا تواجه الملك بل تواجه ما تسميه "المخزن"، وتطالب رئيس الدولة بالتدخل لإطلاق سراح كل المعتقلين والمعتقلات والاستجابة لملفهم المطلبي. فنوال بنعيسى على سبيل المثال، والتي لقبها الإعلام بخليفة الزفزافي، أكدت، في أكثر من تصريح للصحافة، أن "أبناء الريف يتوجهون بمطالبهم مباشرة إلى الملك، فلا عداء لديهم معه، هم وطنيون لا يثقون في المخزن". لم يعد، إذن، مسرح الأحداث والعمليات في الريف يتسع لأكثر من ثلاثة أطراف، وهم على التوالي: الملك، والحراك والمخزن. لا يوجه أهل الحراك سهام شعاراتهم إلى المؤسسات المنصوص عليها صراحة دستوريا، بل إلى المخزن الذي يلعب بتلك المؤسسات وفق مصالحه كما يقولون. فبالرغم من أن دستور المملكة يخلو من شيء اسمه المخزن، فهو حاضر ليس فقط في أدبيات كل المعارضين والمستائين من أساليب تدبير الحكم بالبلاد، بل أيضا في خطابات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة سابقا، كلما اشتد عليه خناق الدولة العميقة والتماسيح والعفاريت كما يسميها. وإن كان المخزن أكثر من حالة ذهنية ونفسية موروثة عن الخوف من سلطة وبطش الحاكم وممثليه، فإن تعريفه يختلف من تيار فكري إلى آخر. وبما أن حراك الريف يمتح من أدبيات الحركة الأمازيغية، يمكن القول بأن المخزن عند قياداته هو "بنية عتيقة للحكم، تستند على القوة والبيروقراطية المركزية، وعلى احتكار الثروة والسلطة والقيم من لدن أقلية يجمعها تحالف المصالح والقرب من مركز السلطة". لكل ما سبق، يمكن القول بأن المواجهة في الريف هي بين حراك أخذ بعدا وطنيا ودوليا، وبين مخزن يبدو من خلال استعماله المفرط للقوة والقمع، بأنه قرر إغلاق القوس مهما كلف الأمر، حتى لا يستمر انتقال العدوى. وكيف ما كانت نتائج هذه المواجهة، فإن الفعل الاحتجاجي بالريف تمخضت عنه إرهاصات تحول في أساليب وطبيعة ومضمون الاحتجاجات. تحول سيؤثر لا محالة على مآلات المواجهات المقبلة، طالما استمر الاستبداد والفساد واستمر معهما تأجيل بناء الديمقراطية القائمة على الاستيعاب وليس على الاستبعاد والإقصاء. المغرب، إذن، بكل تعقيداته على أبواب جيل جديد من الاحتجاجات، والمغاربة في حاجة إلى فهم ما يحصل، والفهم في حاجة إلى من يتأمل ويفكر وينتج المعرفة. وفي انتظار انكباب الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية على هذا الجيل الجديد من الاحتجاجات، يمكن لنا كمتتبعين إبداء بعض الملاحظات حول ما يجري ويدور بالريف من تحول في أساليب ومضامين الاحتجاج: أولا: من يبحث عن جذور الإصرار على مواجهة المخزن وليس الملك، سيجدها في تاريخ "السيبة" أو تمرد وانشقاق القبائل عن المخزن. فالسيبة، يكتب شارل أندري جوليان، ليست تشكيكا في شرعية السلطة الشريفية؛ لكنها إصرار على التخلص من سلطة المخزن. فكلما اشتد استبداد وطغيان المخزن واستفحل فساده، تمردت عليه القبائل، تمردات تنتهي في الغالب بتفاهمات بينها وبين السلطان بعد سفك الدماء. وقد سجل التاريخ بأن السلطان عبد الحفيظ خرج عن هذا التقليد في تدبير الصراع بين المخزن وبين القبائل، وباع المغرب لفرنسا سنة 1912 مقابل حمايته من القبائل الأمازيغية التي حاصرت عاصمة حكمه. وفي زمن الحماية، أعاد الماريشال ليوطي النظر في البنية العتيقة للمخزن ليؤسس الاستبداد المخزني الحديث، الذي وفرت له فرنسا كل مقومات التغول والتسلط ليستبد بالحكم، وطوقته بأمانة الحفاظ على مصالحها بالبلاد بعد الحماية. ثانيا: شعارات الحراك بشأن المخزن المستبد أصبحت على لسان كل أجيال الريف، في تناغم بين جراح الكبار التي لم تندمل بعد وبين سخط الشباب والصغار على دولة مخزنية احتقرتهم وهمشتهم؛ فذاكرة الريف تحتفظ للمخزن، على سبيل المثال لا الحصر، بمساهمته في هزيمة الريف بقيادة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1926، كما لم ينس أهل الريف عام "إقبارن" وتنكيل المخزن بهم سنة 1958، يضاف إلى ذلك كله تفقير الريف وتهميشه كغيره من جهات المغرب المنسي المستنزف. ثالثا: تنضخ شعارات حراك الريف بما يفيد فقدان الثقة في المؤسسات وآليات الوساطة، فالمحتجون يعتبرون النخب الحزبية غير مستقلة بقرارها ومجرد أدوات في أيدي لوبيات المصالح المخزنية، وهي استنادا إلى ذلك جزء من المشكلة وليس الحل. بتفكيك شعار "لا للدكاكين السياسية" وربطه بنسبة المقاطعين للانتخابات، ندرك أن الأغلبية الساحقة من المواطنين ترفض تفويض مصائرها للنخبة السياسية عبر آلية الانتخاب؛ فالمتضررون من السياسات العمومية يلجؤون إلى آلية الفعل والتحرك الميدانيين والضغط عبر الاحتجاج، دفاعا عن مصالحهم، بدءا من قضايا البطالة والاستشفاء والتعليم وصولا إلى رفع الحكرة والظلم والتهميش، ولم تعد المؤسسات التمثيلية تعني لهم الشيء الكثير. رابعا: نستخلص من صمود حراك الريف إلى حدود اليوم، بالرغم من القمع والاعتقالات والأحكام بالسجن، أن الفعل الاحتجاجي بالمغرب في حالة مخاض عسير بالريف، قد يتمخض عنه جيل جديد من الاحتجاجات. ومن علامات ذاك المخاض نذكر: أ – تأكد جليا أن فعل الاحتجاج لم يعد حكرا على قيادات متمرسة ومتمكنة من فن الخطابة. يمكن لأناس بسطاء بلا سند تنظيمي وسياسي أن يقودوا الجماهير الغاضبة والمقهورة، حينما يبرهنون بسلوكهم والتزامهم ونظافة اليد بأنهم قادة التغيير المنتظر. وتتميز القيادات الجديدة عن التقليدية بخروجها من رحم معاناة جمهور الاحتجاج، وبتمكنها من لغة الشعب بلا لغو ولا سفسطة، وبحس براغماتي يجعلها ترتب الأولويات جيدا وتركز على المطالب الملحة والملموسة بدءا من المستشفى الجامعي نزولا إلى ثمن السردين. ب – استطاع أهل الريف في ظرف وجيز كسر جدار الصمت والتخلص من الخوف، بعد أن اقتنع الناس بأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه سوى الفقر والحكرة، وبذلك جردوا السلطة من أنجع أسلحتها: خوف الناس منها. كما فشل عقل السلطة في توظيف فزاعة الانفصال وورقة تخويف المغاربة من بعضهم البعض. كما أن وضوح خطاب قيادات الحراك وملفهم المطلبي ويقظة المواطنين والمواطنات من باقي أنحاء المغرب أسهما في خروج طوفان بشري يوم الأحد 11 يونيو لنصرة الريف وبالعاصمة الرباط. ج – أعطى حراك الريف زخما لفكرة إسقاط المخزن باعتباره أصل الاستبداد والفساد والتخلف. قد يخمد عقل السلطة شرارة الحراك في نسخته الحالية، لكن لا يمكنه إلحاق الهزيمة بفكرة الإسقاط؛ فالأفكار لا تهزم طالما بقيت الأسباب التي خرجت من رحمها. وتعتبر معركة الرموز والأعلام من علامات رسوخ تلك الأفكار، فقد تعلمنا من حراك الريف بأن تعلق الناس برمز من الرموز (العلم، النشيد...) لا يكون بالإكراه بل بالتعلق الطوعي والواعي. الرموز تحمل رسائل وتعبر عن هويات فردية وجماعية؛ فتوظيف الحراك للعلم الأمازيغي، مثلا، هو تشبث بالفكرة الأمازيغية وطموح إلى الانتقال من زمن الوطنية المخزنية إلى زمن المواطنة المغربية. د – ظهرت الجالية المغربية بالخارج كمعطى جديد قد يربك معطيات معادلة الاحتجاج وموازين القوى لصالح الحركات الاحتجاجية؛ فقوة التضامن وأعداد المشاركين والمشاركات في بعض المسيرات المساندة للحراك بأوروبا تجعلنا نعتقد بأن الجالية خرجت من حيادها السلبي التاريخي، وقررت الانخراط الإيجابي في معركة المغاربة ضد الفساد والاستبداد. ختاما، نقول بأن المغرب يعيش في عالم معقد، وواهم من يعتقد بأنه يتوفر على أدوات تفسير هذا التعقيد والتنبؤ بما يمكن أن يقع غدا. ارتباك عقل السلطة في تدبيره لحراك الريف انعكاس لهذا التعقيد، لا أحد انتظر هذا التحول في الفعل الاحتجاجي، ولا يمكن للوصفات القديمة إسكات الشارع...ففصل جديد عصي على التنبؤ يكتب.