ما أجمل قراءة تاريخ المغرب لفهم حاضره و استقراء مستقبله , و أكثر ما يشكل جمالية و خصوصية الانسان المغربي كم الحضارات التي شكلت شخصيته , المغربي الذي سكن على ركن خارطة العالم القديم و استقبل على أرضه منذ الأزل شعوبا غازية و أخرى فاتحة وشعوبا جاءت ثم رحلت دون أن تترك آثارا و أخرى اندمجت فأخذت من طباع الانسان الأصلي و أعطت من طباعها فصارت جزءا منه , البعض يُعرف تاريخ المغرب بأنه تاريخ الشعوب التي حكمت هذه البقعة من الخارطة , ولكن يمكن أن نُعرف تاريخ المغرب بتاريخ ثورات شعوبه على حكامه!! لم يبقى من حكم الروماني للمغرب سوى تلك المواقع الأثرية القليلة وتلك القطع النقدية التي تحمل صورا لملوك نصف مغاربة ونصف رومان مرصوصة في المتاحف أو مقبورة في باطن الأرض , بعد الرومان والبيزنطيين جاء الفتح الإسلامي فاستقبله المغاربة لاستعدادهم الفطري لدين التوحيد الجديد لكن سرعان ما ثاروا ضد حكامهم الجدد الذي نكثوا عهد الفاتحين و استغلوا سنة النبي (ص) و آيات القرآن ليستبيحوا الأرض و العرض فكانت ثروات الانسان المغربي الذي كما يقبل الاسلام و العدل بالفطرة فإنه يرفض الظلم و الاستعباد بالفطرة ولو حملت كذبا اسم الخلافة , تناوب على حكم المغرب دول و ممالك باسم الخلافة تارة وتارة أخرى باسم التشيع لآل البيت ومرة بدعوة المهدوية , من الدولة الإدريسية ثم المرابطون و الموحدون ثم المرينيون و الوطاسيون و أخيرا السعديون ثم العلويون الذين يستمر حكم أسرتهم إلى هذه اللحظة. يوصف النظام الحاكم في المغرب منذ القرن 16 ميلادي و خلال حكم السلالتين السعدية و العلوية بمصطلح « المخزن » أو نظام الحكم المخزني الذي من أهم صفاته الطابع الإقتصادي القهري الذي تشير إليه التسمية , حيث تُختزل الدولة في آلية الخزن و مكان الخزن و تتحول كل أجهزتها إلى أدوات قمعية في خدمة الطبقة أو النخبة المخزنية الحاكمة المسلطة على القبائل التي إما تنصاع للحكم المخزني فتسمى مناطقها « ببلاد المخزن » أو تثور في وجه المخزن و آلياته القمعية السياسية و الاقتصادية رافضة حكمه و قراراته فتسمى « ببلاد السيبة » المشتقة من لفظة التسيب أي الخروج على حكم وطاعة السلطان! كذلك كانت حركة 20 فبراير في نظر النظام الحاكم مجرد امتداد لحركات « السيبة » ذات الأهداف الفوضوية التخريبية أما القوى الشبابية و المكونات السياسية للحركة فبدورها كانت ترى في أجهزة الدولة امتدادا للنظام المخزني العريق. مثل باقي بلدان الوطن العربي كان المغرب على موعد مع الربيع الذي حمل اسمه يوم انبعاثه فاصطف في الحراك الشعبي غالبية شبابية من كل التيارات : الإسلامي بجانب اليساري و المتدين بجانب العلماني و الأمازيغي بجانب العروبي للمطالبة بإصلاحات شاملة و لقول " لا " لكافة أشكال الفساد السياسي و الاقتصادي الذي تضررت منه فئات واسعة من الشعب المغربي , وكان الحراك المغربي واسعا ليشمل الكثير من المطالب منها الإجمالي و منها المطالب الفئوية لبعض المتضررين من العمال و المستخدمين في القطاعين العام أو الخاص , و اتسعت بسرعة نطاق الاحتجاجات في النوع و الكم حتى بدأ الكل بالنزول للاحتجاج السلمي في الشارع بما في ذلك أصحاب المطالب الشخصية . تلقى النظام الحاكم الاشارة بشكل سريع وهو يرى في محيطه الاقليمي هذه الثورات الشبابية و هي تُسقط أنظمة كانت تبدو راسخة في الحكم وكانت تستعد لتوريث نظامها أو إعادة استنساخه لعقود أخرى قادمة , تلقى النظام المغربي الاشارة فقام بخطوة اعتبرها الكثير من المراقبين في غاية الذكاء , أعلن الملك في خطابه ل 9 مارس/آذار 2011 تفهمه للمطالب المشروعة للحراك الشبابي فأطلق مشروعه للتعديل الدستوري الجديد الذي سيعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة و سيشمل اصلاحات في الكثير من المؤسسات السياسية و التشريعية و التنفيذية , هذه الخطوة تلقها جزء من الحراك الشعبي بالترحيب و القبول فكان بالنسبة له نهاية لمرحلة الاحتجاج و بداية لمرحلة البناء و الاصلاح من داخل المؤسسات , أما الجزء الآخر من الحراك الذي تقوده « جماعة العدل و الاحسان » و بعض الحركات و الأحزاب اليسارية الردكالية فرفضت هذه المقترحات الملكية و اعتبرتها التفافا على الثورة الناشئة و تدليسا للمطالب الشعبية لتستمر هذه القوى الرافضة للمقترحات التي تحولت من مبادرة ملكية صرفة إلى مشروع إصلاحي بقيادة الملك و بمشاركة «حزب العدالة و التنمية » الذي سيقود الحكومة الجديدة. بعد الخطاب الملكي ل 9 مارس سيتغير سلوك النظام تجاه الحراك من مقاربة المبادرات التنازلية و التصالحية إلى مقاربة الترغيب و الترهيب , حيث بدأ النظام الحاكم بمحاولاته في تفكيك و إنهاء الحراك مرة بتلبية المطالب الفئوية للكثير من المحتجين من موظفي القطاع العام و الخاص الذين كانوا يشاركون في الحراك الشعبي ولكن رافعين المطالب الخاصة بهم إما برفع الأجور أو استعادة عملهم الذي طُردوا منه أو حتى السكوت على البناء العشوائي أو السطو على الأراضي العامة , و المقاربة الثانية هي القمع و التهديد لإخافة و ردع الشرائح الباقية في ساحات الاحتجاج وذلك بالتدخلات العنيفة للقوات العمومية و قوات مكافحة الشغب ضد الوقفات و المسيرات السلمية للحراك. شهور بعد ذلك سيظهر في الحراك الشعبي أو بوادر نهايته و ذلك عندما أعلنت «جماعة العدل و الاحسان » في بيان لها انسحابها من الحراك بعد خلافات مع باقي المكونات وخاصة اليسارية وهذه الخلافات يمكن تلخيصها في: 1- وضع سقف محدود لمطالب الاصلاح والذي كانت ترفض الجماعة أن يتم فرضه عليها سواء من خارج الحراك أو من داخله. 2- حدة القمع الممارس على أعضاء الجماعة دون باقي المكونات أو الأفراد المستقلين. 3- عدم انضباط بعض المكونات بالقرارات المتخذة تشاركيا و توريط الحراك الشعبي في مطالب و أهداف لا تتوافق مع الهوية المغربية و الدين الاسلامي. كان لخروج الجماعة تأثيره الكبير على الحراك لما تحمله من ثقل عددي وتنظيمي , أسابيع بعد ذلك ستخف مظاهر الاحتجاجات و تقل أعداد الوقفات لتختفي تدريجيا وهذا ما حصل بالفعل فقد تحولت الحركة إلى مجرد وقفات أسبوعية بدأت بالخفوت في السنة الأولى للحراك ثم تتحول إلى ذكرى للانطلاقة و مكان لتلاقي المناضلين السابقين في كل 20 فبراير من كل سنة لاسترجاع الذكريات النضالية و استذكار شهداء الحراك الشعبي و إعادة الشعارات التي لم تتحقق لحد الساعة. ماذا حققت حركة 20 فبراير ؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عنه كل فريق من الفاعلين السياسيين المغاربة حسب تموقعه في خارطة الحكم و المعارضة. الدولة العميقة أو « المخزن » فيباهي بكون الحركة جاءت كدليل وبرهان أن لا تغيير في المغرب بدون استقرار للحكم على رأسه الملكية , وكل محاولة لإسقاطها أو للإصلاح السياسي مع تجاوز الملكية سيكون مصيره الفشل أو تخريب البلاد و الحرب الأهلية كما وقع في ليبيا و سوريا واليمن و مصر .. الأحزاب التقليدية و « حزب العدالة و التنمية » الذي أوصله الحراك الشعبي إلى قيادة الحكومة فيعتبر أن حركة 20 فبراير حققت إنجازات مهمة على رأسها دستور 2011 الذي يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة على حساب صلاحيات الملك و كذلك خطاب الملك الذي أقرن فيه « المسئولية بالمحاسبة » , يعترف « حزب العدالة و التنمية » أنه في قيادته للمسئولية لن يكون قادرا على تحويل المغرب من دولة نامية إلى دولة في مصاف الدول المتقدمة ولكنه جاء للإصلاح السياسي بقيادة المؤسسة الملكية , لكن أغلب نشطاء الحراك الشعبي لم يكونوا يطالبون بنقل المغرب في رمشة عين من دولة نامية إلى دولة متقدمة بل إلى وقف الاستبداد و الظلم و اقتصاد الريع و استنزاف ثروات البلاد من طرف أشخاص معروفين ومحميين من جهات عليا في الدولة العميقة و المخزن المغربي أو بالأحرى هم قادة الدولة المخزنية العميقة. جماعة العدل و الاحسان و باقي حركات اليسار التي شكلت المكون الأساسي للحراك الشعبي يرون أن أهم انجازات20 فبراير هو كسر جدار الخوف الذي شكل كمامة تكتم أصوات عذابات المغاربة تحت ظلم و تفقير و استبداد الدولة المخزنية , و أظهرت أيضا قدرة الشعب المغربي على البدل و الانتفاضة و التضحية من أجل كرامته و حقوقه بأفضل ما عنده من وسائل الاحتجاج السلمية و الحضارية في وجه أسوأ ما عند النظام الاستبدادي من وسائل القمع و التركيع الوحشية. لم تكن حركة 20 فبراير وليدة اللحظة أو رد فعل تقليدي للربيع العربي في تونس ثم مصر بل كانت ارهاصات الانتفاضة ظاهرة للعيان قبل سنة 2011 في انتفاضة سكان مدينة سيدي إفني و انتفاضة مدينة صفرو سنة 2008 و2009 و أحداث مخيم إكديم إيزيك بمدينة العيون سنة 2010 , ولن تكون هي نهاية العمل الاحتجاجي الشعبي فهذا ما ظهر بعد ذلك في الاحتجاجات التي شهدتها بعض المدن أو الأماكن حول مطالب اجتماعية أو حقوقية مثل قضية العفو الملكي عن البيدوفيلي الاسباني التي أدت بشكل سريع إلى حالة من الرفض و الغضب في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ثم حادثة قمع الوقفة الاحتجاجية على هذا القرار الذي جاءت لتصب الزيت على النار وتزيد حالة الغضب , لكن تدارك المؤسسة الملكية لهذا الخطأ جاء سريعا حيث أصدر القصر الملكي بيانا ساعات قليلة بعد ذلك لكي يتدارك الخطأ ويتم فتح تحقيق لمعرفة المسئولين عن إدراج اسم الاسباني الذي اغتصب أكثر من 11 طفل مغربي في لائحة العفو الملكي ! , حالات أخرى من الاحتجاج جاءت لتؤكد استمرار حالة الاحتقان و تبين على الثقافة الجديدة التي ظهرت في الجيل الناشئ «ثقافة الاحتجاج و رفض الظلم » : حالة انتفاضة تلاميذ الثانويات على قرار وزير التربية الوطنية برقمنة التنقيط أو ما عُرف بأزمة « برنامج مسار » و كذلك اعتصام و اضراب مئات الأساتذة حملة الشواهد في شوارع الرباط لما يزيد عن 100 يوم . الربيع العربي في نسخته المغربية حركة 20 فبراير جاء ليؤكد مع الأحداث التي سبقته في المغرب وباقي الدول العربية على التحولات التي بدأت تتشكل تحت رماد الوضعية السياسية و الاقتصادية التي تبدو على غير حقيقتها مستقرة في الكثير من الدول العربية , نسبة الساكنة اليافعة و أعداد الشباب المتزايدة التي تشكل نسب كبيرة من ساكنة الوطن العربي في المقابل استمرار الحكم الاستبدادي لأشخاص و فئات لا علاقة لها بما يوجد في أوطانها سوى القمع و الاستغلال و الإذلال , وفشل هذه الأنظمة التي جاوزت الخمسين سنة في تحقيق أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي لدولها بالمقارنة مع الكثير من دول العالم , انتشار وسائل التواصل الاجتماعي و العولمة الفكرية لقيم المعرفة و حقوق الانسان , مثل هذه المعطيات لابد أن تواصل زعزعتها للأنظمة السياسية غير الديمقراطية الحاكمة ولو عرفت هذه الانتفاضات و الحركات كبوات أو فشل أو انطفاء , سيستمر الجيل الناشئ على التأكيد أن قدر هذه الشعوب هو الحرية.