لا يمكن الحديث عن "ثقافة الفضاء" خارج حدود "التنمية الثقافية" والمشاركة المجتمعية الواعية؛ فالفضاء يشمل الرؤية والسمع والشعور والإدراك، وتتفاعل كل العناصر لتمنح "تأمينا ثقافيا" في شروط تحدد العلاقة بين الطرفين (الفضاء والثقافة). إن "ثقافة الفضاء" نظرية اجتماعية تقوم على نسيج قيمي في إطار مجتمع مدني، وتطوير التنمية البشرية ومحاربة الأمية الجمالية يتحققان عبر "البناء التربوي والجمالي للثقافة". إن مفهوم ثقافة الفضاء يحيلنا إلى مفهوم الثقافة ببعدها التربوي والجمالي التخلقي، ويحيل إلى عالم الأفكار والحضارة والتاريخ، أي يصبح الفضاء مفهوما "عمرانيا". ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار، والأفكار تبقى بعد انهيار كل شيء وتمكن من إعادة البناء. إن البعد الأخلاقي محدد أساسي للتمييز بين الثقافات، فهو القيمة المضافة التي يمكن أن تقدمها حضارة معينة، خاصة في زمن انهيار القيم؛ فقد نشعر بالغربة في الفضاءات المغربية، بهيمنة "العولمة الثقافية" بجانبها المائع أحيانا. إن الفضاء الثقافي ذوق راق، يجعلنا نسهم في خلق ثقافة "الفضاءات الحضارية"، عوض الاستلاب وعدم التمييز بين الغث والسمين؛ فالقيم الغربية تنظر إلى العقل السياسي على أساس السلطة وتنظر إلى الثقافة على أساس الصراع والصدام بين القيم والمبادئ، بينما يقوم تصورنا السياسي على الخير والثقافة على "تربية الجمال" وتكوين الإنسان الحضاري الذي يبني. والرؤية الجمالية هي جودة الحياة، أي معرفة كيف نعيش أجمل بما نملك ولو كان بسيطا، هي التي تحمي لحمة المجتمع وتعطي الأولوية للإنسان، لثقافته وفكره وتنمي روح الإبداع فيه، هي التي تركز على الأفكار المتجاوبة مع المشاكل لمواجهتها من أجل إعادة النماء. هذه النظرة التربوية الجمالية تجعل السلوكات الثقافية للمجتمع ممأسسة، وتجعل الثقافة أفكارا قبل أن تكون سلوكات؛ فسلوكك يعبر عن تصورك للسلوك، ولا يوجد سلوك بدون تصور. إن ثقافة الفضاء تتطلب تعميم ثقافة التنمية والبناء، لا ثقافة العنكبوت التخريبية؛ فالسخط على الواقع أحيانا يؤدي إلى التدمير أو "القصاص الذاتي"، حيث تصبح النافورة قمامة أزبال، و(لرمي الأزبال ثقافة)، وتصبح الحدائق ممرات تسهل الطريق، ويغيب الذوق الجمالي لصالح العجز واللامبالاة إن ثقافة الفضاء تبني المجتمع وتنميه وتحمي هويته وتصنع تاريخه، وتستثمر مكوناته وفق رؤيا للعالم. " ثقافة الفضاء" "استنبات" و"تبييئ" إن" ثقافة الفضاء" مجال "للاستنبات الثقافي" بالمدلول الزراعي للثقافة، فالزرع والزريعة في المتخيل المغربي يحيل إلى الأبناء والأجيال المستقبلية، وهو مرتبط بالتنمية البشرية، فلا قيمة للزراعة إذا لم نجد من يزرع، فالزراعة أكبر فضاء مغربي مغبونين فيه، ففضاءات الأرض التي نملك بكل أنواعها، نحسد عليها ولا نعرف قيمتها، ففي فضاء الأراضي المغربية متسع للجميع، فهناك الهكتارات بالآلاف التي لم تجد السواعد لاستثمارها ولا لحفر آبارها، المغاربة لا يعرفون قيمة "الفضاء الأخضر"، فتبنى أحياء كاملة بدون أشجار، ولا يجدون متنفسا للخروج مع الأطفال. إذا أردت معرفة "ثقافة الفضاء" فاسأل الياباني، "يفضيك " من البر إلى البحر إلى السماء، فكل شبر يستغل حتى ولو كان في قمة الجبل، مرأب عمودي، وشقة في عمق البحر، وفندق فيه فقط أسرة للنوم، وأرخبيلات صغيرة الحجم مهددة بالزلازل، ومنجزات دقيقة توافق حجم الأعين، ويبقى الفضاء الياباني منفتحا ومؤثرا في الفضاءات العالمية. إن ثقافة الفضاء تعلم "التبييئ الثقافي"، فأنت صانع الفضاء بنقلك إلى الفضاءات الأخرى باحترام خصوصياتك، فثقافة الفضاء ليست حكرا على أحد، إنها ملك للحضارة، وعبر التاريخ تفاعلت الشعوب وجمعت بين أرقى الفضاءات وفق بنية مقاسية تحترم الهوية. هذا "التبييئ" يرتبط ب"التأثيث الثقافي"، فأنت صاحب الديكور لفضائك حسب ذوقك وجماليتك، فلا فضاء بدون ذوق، ولا ذوق بدون شخصية، وليس من حق أحد أن يفرض ذوقا على آخر. لقد أخفقنا في تشكيل فضائنا الخاص أحرى العام، نفتقد إلى "ثقافة الفضاء" كرؤيا وفكرة للشراكة والتفاعل والتعارف، ونتحمل المسؤولية في عدم "تفضية" الرؤى الفكرية والثقافية ونسج العلاقات الحضارية والإنسانية. إن ثقافة الفضاء تفتح الباب للجميع باختلاف طبائعهم وعيوبهم وهناتهم، حيث تتداخل الخصوصية بالمصلحة الفردية، ويصبح الفضاء هويات فردية ثقافية أو تعددية مجتمعية، فهل ملكنا إحساسا "بالاستيعاب الفضائي" والتذوق الثقافي" أو "الفضاء البيني"؟ وهل يمكن أن نصل إلى الإحساس بأن الفضاء المفتوح جزء من الفضاء البيتي الخاص؟.