في هذا السياق سنتناول جملة نقاط، أولها حداثة المصطلح، وثانيها جملة تعريفات وتحديدات للحضارة، وثالثها تحليل ما يستخلص من التعريفات التي سنقدمها من أفكار ووجهات نظر وآراء، ومن جملة ما سنتناوله موضوع المضمون العقدي أو الإيديولوجي أو الفكري للحضارة. فكلمة "حضارة " سواء عندما يتعلق الأمر بالمعجمية العربية أو المعجمية الغربية لا نجد في مادة حضارة في هذين المعجمين، كلمة تفيد هذا المعنى. فالحضارة في اللغة هي الإقامة في الحضر خلاف البدو، وهي تطلق الآن اصطلاحيا على كل ما أنشأه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ونواحيه عقلا وخلقا، مادة وروحا، دينا ودنيا، فهي في إطلاقها أو عمومها قمة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور وتقلب الأزمان، وما صُوِّرت به علائقه بالكون وما وراءه، وهي- في تخصيصها بجماعة من الناس أو أمة من الأمم- تراث هذه الأمة والجماعة على وجه الخصوص، الذي يميزنا عن غيرنا من الجماعات والأمم، وهي بهذا المعنى الاصطلاحي تضم المدينة التي هي في أصل الاستعمال سكنى المدن التي تقابل الكلمة CIVILIZATION. والحضارة بهذا المعنى أهم من التي تطلق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة، بينما تشمل الحضارة الجانبين الروحي والمادي أو الفكري والصناعي، كأنما لوحظ فيها أن النشاط البشري في مختلف جوانبه ومواهبه يكون في أرقى حالاته في الحواضر والمدن، وأن سكنى الحواضر مرحلة أكثر تقدما من سكنى البادية. والكلمة بهذا المعنى الاصطلاحي-قديمة في الاستعمال العربي، وليست ترجمة للكلمة الأوروبية CIVILIZATION، فقد استعملها ابن خلدون في مقدمة تاريخه، وهي عنده بمعنى أضيق من الحضارة بالمعنى الاصطلاحي الحديث، لأنها لا تصور إلا الجانب المترف من النشاط البشري، ولا تدخل في النشاط الديني والخلقي والعقلي، فهي عنده أحد شطري العمران الذي قسمه إلى بدوي ومدني، وتصوره للحضارة بهذه الصورة فرع من تصوره بفضل البدو على الحضر، فابن خلدون كما سبق الذكر لم يستعمل مصطلح" الحضارة" في مقدمته، ولكنه استعمله كأحد شطري العمران، وألفاظ أخرى كلفظة العمران، وهذه الألفاظ التي استعملها تؤدي عندهم كما تؤدي عندنا اليوم لفظ الحضارة. أما مصطلح" الحضارة" بالمعنى الذي استقر حاليا، هو مصطلح حديث سواء في الكتابات والتنظير بالعربية أو غيرها من الكتابات، لكنه يُؤَوَّل بين عدد كبير من المفكرين والكتاب والمؤرخين مما نتج عنهم كم هائل من التعريفات التي اقترحت له، وهي في جملتها سواء اتفقت معها أم لا، لا شك أنها تعكس جهد فكري في تقديم تحديد نظمته إليه لحظة الحضارة. قالت طائفة من الناس، إنها هي العقل، والذين قالوا بهذا هم العقلانيون من فلاسفة ومفكري الغرب، وهم في كنف ظروف عاشها الغرب في القرون الوسطى، وتميزت بسيطرة الإقطاع والكنيسة التي تشمل المسيحية والنصرانية، فكان أن أُمحي الدين وارتفعت الأصوات في تمجيد العقل من جهة، فرأوا أنه لا حضارة إلا في ضوء العقل، وأنه لا حضارة إلا في ألوان النشاط الإنساني التي يمثلها العقل، وفي هذا السياق نجد طائفة من المفكرين تقول: أن الحضارة هي العلم. والعلم الذي يعنيه هؤلاء، هو العلم الذي يقوم على المفهوم المادي، ويستنتج الوسائل المادية الملموسة. وهناك رأي آخر يقول أصحابه.. أن الحضارة هي الاقتصاد، أي أن هؤلاء القائلين بهذا الرأي ينطلقون من أن الحياة ترتكز على مرتكزات أساسية وجوهرية، المعطى الرئيسي لها هو الحضارة، فلا يتصور في رأيهم وجود حضارة بدون حضارة، ولكن الوسائل المعنية هي بالذات العناصر التي يفسر بها الفكر الماركسي( الكون، التاريخ، قيام الدولة، سقوطها) الحياة برمتها. فالحضارة إذن ..هي كل ملموس محسوس تحت البصر، يستطيع المرء أن ينتفع به، ومرتكزات الحضارة في ضوء هذه التعريفات عناصر مادية حين يتعلق الأمر بالتفكير لها، ومادية حين يتعلق الأمر بالبحث عن ظواهرها في مختلف المجالات. نضيف إلى ذلك هذا التعريف الذي يقول فيه صاحبه:« إن الحضارة هي النمط الكامل لسلوك الإنسان ونتائجه مجسدة في الفكر والكلام والفن، ويعتمد على قدرة الإنسان على التعلم، ونقل المعرفة للأجيال المتعاقبة من خلال استعمال الأدوات واللغة ومناهج التفكير المجرد ». وفي تعريف آخر للحضارة، ينص على أنها كل ما يتقبله الإنسان كطريقة للتفكير والسلوك والنظريات الخاصة بتفسير الكون تفسيرا فلسفيا ساعد على فهم الحياة وتسهيل المعيشة بشكل أو بآخر، وهي ( عبارة عن أساليب التي تهدي إلى إقرار النظام الاجتماعي وانتشار نماذج السلوك المقررة ) فهي التعبيرات المحددة توقفنا أمام حقيقة واحدة وهي حينما ننظر إلى هذه الحضارة، نجد أنفسنا ونحن نلاحظ دوراتها حول معنى واحد لا ثاني لها، إن الحضارة في جانب هام لها، هي سلوك وفعل وموقف، وما يمكن استخلاصه من كل التعريفات السائدة كما نلاحظ من هذه التعريفات، جملة تعريفات أخرى ( الفكر، الفن، المعرفة، اللغة ) استعمال اللغة ومناهج التفكير المجدد. الحضارة ما يتقبله الإنسان كطريقة للتفكير والنظريات الخاصة بتفسير الكون تفسيرا نظريا، فالحضارة إذن معنى ومادة، أو فكر وفعل ووجهة نظر، من هنا قيل أن الحضارة ذات وجهين: * وجه معنوي.. وهو الوجه الذي عبرنا عنه بالفكر والنظر. * وجه مادي.. وهو الذي يمكن أن نلتمسه بعدة مجالات تتصل بأساليب الحكم ووسائل الاقتصاد بحياة الإنسان ككل . * سمات الحضارة الإسلامية: الحضارة بناء فكري ومادي وروحي، وهي نتاج جهد ودأب متواصلين، وحصيلة كشف وإبداع متلاحقين.. ولكل حضارة شخصية متميزة ذات سمات أساسية ترجع إلى الفكرة أو المبدأ الذي تتبناه والظروف التي تلابس نشأتها. ويمكن استخلاص السمات الأساسية للحضارة الإسلامية كما يلي: 1. إنها حضارة ربانية، فأساس الإسلام الإيمان بالمصدر الإلهي للدين، وأن القرآن وحي الله إلى رسوله محمدe. 2. وهي حضارة "الانفتاح" على الحضارات الأخرى تتقبل التراث الإنساني وتضيف إليه. 3. وهي كذلك حضارة "إنسانية" لا عنصرية فيها، بل الناس سواسية، وهي تهدف إلى رفعة الإنسان. 4. كما أن أساس الاقتناع فيها هو الدليل العقلي.. والقرآن هو المعجزة الباقية بعد أن انتهى عهد المعجزة الكونية. 5. وهي حضارة "الامتداد".. امتداد بشري، فهي تضم أجناسا بشرية متنوعة وامتداد في المكان وامتداد في العمق، فقد ظلت ثقافتها وحضارتها متمتعة بالحيوية والنشاط. 6. والإسلام ينظر إلى الكون على أنه "صديق" وما فيه هو مجال واسع للبحث والتأمل. 7. ولذلك كان للحضارة الإسلامية موقف رائع من العلم والمعرفة: فقد رغبت فيهما وحررت عقل الإنسان وحفزته إلى البحث في آيات الله، وتنافس في تشجيع العلم وإكرام العلماء والخلفاء والأمراء. 8. والاجتهاد من أبرز هذه السمات أيضا، فقد كفل لهذه الحضارة حيوية ونماء دائبين. العلاقة بين الغرب والحضارة الإسلامية: لقد قدم في هذا الموضوع أكثر من بحث، ومعظم المشاركين من الباحثين يردون هذه العلاقة إلى أصلها، وهو الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، ذلك بأن حركة الفتوح الإسلامية ودخول الناس في الإسلام، أفزع الكنيسة آنئذ ولما كانت أوضاع العالم المسيحي لا تساعد على مواجهة الفتوح، فليس في وسع الكنيسة إلا أن تعمد إلى التشويه الفكري للإسلام والافتراء عليه، ومن هنا بدأت البذور الأولى للاستشراق في أحضان الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها في غرب أوروبا، وأصدر مجمع فينا الكنسي 1311-1312ه قرارا بتدريس العربية، والملاحظ أن هذا المجمع عقد بعد أقل من عشرين عاما على طرد آخر البقايا الصليبية من بلاد الشام. وبرز في غرب أوروبا تياران: * تيار الاهتمام بتراث المسلمين. * تيار الكراهية للإسلام وحضارته. ونمت حركة الاستشراق من خلال هذين التيارين، وقد استهدفت كثير من الأبحاث الاستشراقية خدمة الحملة الظالمة التي شنها رجال الدين المسيحي على الإسلام. وهذا هو السر فيما ظهر في تلك الدراسات من تجريح صريح أو غمز خفي، ويبدو أن هذه النظرة إلى الإسلام لم تتغير لدى الغربيين في العصر الحديث عما كان عليه أسلافهم الأوائل، وهكذا جاءت الكتب والبحوث الحديثة في الغرب لا تختلف في روحها ونظرتها إلى الإسلام ومادتها العلمية عما كتبه السابقون. ويعتبر كتاب [ تاريخ الإنسانية ] الصادر عن اليونسكو نموذجا واضحا.. ونحن نسوق مثلا واحدا مما ورد فيه.. فقد ذكر الكتاب أن الشريعة الإسلامية لم يكن لها وجود في القرن الأول الهجري بأكمله وأن المسلمين « استقوا نظمهم القضائية والإدارية مما كان معمولا به في البلاد التي فتحوها من قوانين رومانية بيزنطية أو فارسية ساسانية فضلا عما أخذوه عن التلموذ وعن القانون الكنسي الخاص بالكنيسة الشرقية »[1]. وهكذا تم الخلط في أكبر موسوعة تاريخية صدرت عن اليونسكو حتى الآن بين الأحكام القضائية وكلها مستمدة من الكتاب والسنة وبين النظم الإدارية التي طبقت في الدولة الإسلامية. اقتران النهضة بحركة الجهاد: إن علاقة التجاذب المتبادل بين النهضة والجهاد في الإسلام سهلة التفسير: ففي الإسلام لا يحقق النصر العسكري ولا تعاظم النفوذ السياسي معناهما إلا من خلال الإنجاز الحضاري الشامل الذي يسخران في سبيله، ومن هنا ندرك كيف اقترنت بأسماء القادة الكبار البارزين جملة من الإنجازات البارزة في تاريخ الحضارة الإسلامية. وبالمقابل نجد وثبة الأمة الجهادية لا تكون ماضية الحد إلا إذا كان الرأي العام الإسلامي معبأ بمغزاه الحضاري، وكانت الفكرة الكلية الإسلامية عن الكون والحياة متوهجة في نفوس المسلمين. ولهذا لم يكن مستغربا بعد هذا كله أن تكون المساجد المنتشرة في كل مدائن الإسلام منطلقا للنهضة الفكرية، وفي الوقت نفسه منطلقا لحركة الجهاد. إننا نلاحظ هذه الظاهرة في العصر الأيوبي والمملوكي، كما نلاحظها في العصر العثماني، وفي دولة المرابطين والموحدين والملثمين في المغرب. فقد ارتبط إسم مدينة "القدس" باسم صلاح الدين الأيوبي الذي عمل على إعادة الكيان السياسي لدولة الإسلام إلى سابق عهده، وكان الجهاد في سبيل الله أهم ما قام به، على أن الوجه الآخر لانتصارات صلاح الدين يبدو في نهضة الحركة العلمية في القدس. فقد عني بإقامة معاهد العلم ورعاية العلماء حتى امتد أثر هذه النهضة العلمية إلى بلاد الشام والعراق والمغرب والأندلس وبلاد فارس والهند والأفغان. واستمر تيار النهضة في العصر المملوكي من بعد، وبرزت آثارها بروزا واضحا، حتى لقد عدلنا المؤرخون أكثر من 250 عالما اشتغلوا في معاهد القدس وحدها، ومما يشار إليه أن العلوم التطبيقية نشطت كذلك نشاطا ملحوظا، وسطعت أعلام كبيرة لعلماء في الرياضيات كابن الهيثم (توفي 815ه) وفي علم التوقيت والهيئة كابن شرف المقدسي، وفي الجبر والمقابلة كأحمد بن عبد الله الكناني (توفي 870 ه) وفي الطب كمحمد بن سعيد التميمي، وكان البيمارستان الصلاحي ( نسبة إلى صلاح الدين ) من أهم المراكز الطبية في القدس. وتعد الآثار الباقية في مدينة القدس من أجمل ما خلده التاريخ، وفي العهود العثمانية يلمع اسم "محمد الفاتح" الذي حقق الله تعالى به نبوة نبيهe بفتح القسطنطينية، ولم يكن فتحها إلا مقدمة لتحقيق النهضة الشاملة التي تجلت في الحركة العلمية، فقد جعل محمد الفاتح القسطنطينية مركزا للحياة الإدارية والتجارية، وبذل جهدا منظما لتطويرها، واجتذب إليها عددا كبيرا من المفكرين والعلماء، وحول ثماني كنائس فيها إلى معاهد للعلم، ونشطت حركة التأليف الموسوعي واستمرت فترة طويلة من بعده. ولعل من مشاهير تلك الفترة الكاتب الحلبي مصطفى بن عبد الله المشهور بحاجي خليفة (1609-1657م) الذي يعد كتابه [ كشف الظنون ] أكبر موسوعة في أسماء الكتب التي ظهرت في العالم الإسلامي باللغات الثلاثة: العربية، الفارسية والتركية، ولقد قال بعض المؤرخين أن الأرستقراطية الوحيدة في دولة محمد الفاتح كانت أرستقراطية العلم، والحق أن حمل الأتراك لمسؤوليات الجهاد منذ القرن التاسع الميلادي في الثغور الشمالية الإسلامية هو الذي هيأهم فيما بعد لهذا الدور، ويعترف المؤرخون بأن المشايخ هم الذين كانوا يوقدون حماسة الجهاد وعلى أكتافهم قامت إمارة "الغزاة" الأتراك في غربي الأناضول ومنها كانت الدولة العثمانية. وفي المغرب العربي لا تتخلف هذه الظاهرة أيضا، فقد بلغت بلاد المغرب الذروة على عهد المرابطين والموحدين، ودفعت دولتا "العباد المجاهدين" بفضل النهضة الدينية السياسية الحضارة المغربية إلى عصرها الذهبي، وكان الجهاد هو بؤرة تلك النهضة، فالرباط -في المغرب- هو الثغر الذي يرابط فيه المجاهدون، والمرابط هو العابد المجاهد. والمثل الأول للمجاهدين العباد في المغرب هو القائد المسلم عقبة بن نافع مؤسس مدينة القيروان، وكانت تلك الربط مدارس دينية كالمسجد، تحمل عبء النهضة الثقافية مثلما تحمل مسؤوليات الجهاد. وفيما بعد عندما استعاد النورمانديون صقلية، وبدءوا يغيرون على السواحل التونسية، حتى استولوا على المهدية، ضعفت الربط والمحارس، وانتقل مركز الثقل الإسلامي إلى سواحل المغرب الأقصى الجنوبية على تخوم السودان الغربي الصحراوية، حيث قام رباط فتى جديد في مصب نهر السينغال، هو رباط الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي الذي بث روحا جديدة في المسلمين من بربر الصحراء الملثمين، فأعادوا سيرة المجاهدين العباد من المرابطين والموحدين. ملاحظات حول تاريخ الحضارة الإسلامية: عرض الدكتور صالح العلي جملة من الملاحظات حول معالجة التاريخ الإسلامي، منها أن مجرى التاريخ في العالم الإسلامي لا يتطابق مع مجرى التاريخ الأوروبي وعلاماته الفارقة المميزة، ولذلك فليس من الصواب اتخاذ التقسيمات في التاريخ الأوروبي وتطبيقات على تاريخنا، ومن ناحية أخرى إذا قبلنا اعتبار دراسة التاريخ تشمل الإنسان في مختلف جوانبه السياسية والاجتماعية والفنية والفكرية.. فعلينا أن نبحث عن معيار جديد لتقسيم حقبنا التاريخية. كما عالج الدكتور أحمد أبو زيد في بحثه عن العائلة والدين في المجتمع العربي المعاصر التغير الاجتماعي الذي طرأ على العائلة "العربية" منذ نهاية القرن التاسع عشر بفعل التغيرات السريعة التي أصابت نظمه الاجتماعية وأنماط ثقافته التقليدية. تلك التغييرات التي نشأت عن الاتصال بالغرب وحضارته، ويلفت النظر إلى أن كتاب [ تاريخ الإنسانية ] المذكور لم يخصص سوى أقل من صفحة واحدة لدراسة العائلة في المجتمعات الإسلامية، ثم إنه -الكتاب- اتخذ من العائلة الغربية مرجعا يقيس إليه النظام العائلي الإسلامي. ويلاحظ أن أبرز التغيرات هو الاتجاه العام المتزايد نحو العائلة الصغيرة على حساب العائلة التقليدية المركبة الممتدة، كما امتد التغير إلى الزواج التعددي، فصار الميل إلى الزواج الأحادي يزداد بسبب كثرة مطالب الحياة وتعقدها. كما عرض الدكتور أحمد مختار العبادي، الدور الحضاري للمدينة الأندلسية التي تجلى فيها الطابع الإسلامي للمدينة، كما تجلى فيها إلى جانبه الطابع المحلي نتيجة لمؤثرات البيئة، وقد برز الطابع الإسلامي من مسجدها الجامع، ووجود مقر الولاة على مقربة منه، لأن صاحب السلطان هو صاحب الصلاة والخطبة، كما أن الحياة الاقتصادية للمدينة تتركز بالقرب من المسجد الجامع. ويبرز الطابع الإسلامي كذلك في شوارع المدينة وساحاتها الصغيرة، وفي أرباضها أو ضواحيها مساحة مكشوفة تسمى الشريعة أو المصلى تقام فيها صلوات الأعياد والاستسقاء، كما تشمل المدينة على حدائق للنزهة، وأرض فضاء للمصانع والمقابر، وأما الطابع المحلي فيبدو في الخطط أو التقسيم الإداري، وقد تمتعت المدن والكور بنوع من الاستقلال الإداري عن قرطبة. وظهر الطابع المحلي كذلك في تنوع السكان فمنهم العرب والبربر، والمستعربون واليهود، كما ظهر في نمط الحياة الاقتصادية، والحياة العلمية والفنية[2]. مدخل عام لتحديد مصطلح الحضارة في المفهوم الغربي: لقد عرف مصطلح " الحضارة " من خلال تحديدات متعددة تدل على عدم اتفاق المفكرين على مفهوم واحد، ففي القرن 17 و 18، كانت تعد شكلا من أشكال الثقافة، لأن العلماء كانوا متأثرين بالمكتشفات العلمية التي تحققت في عصرهم، أدت إلى تقدم في مجال الحياة الاجتماعية والفردية. فكانت الحضارة عندهم عبارة عن مجموعة من القيم والنماذج تحققها الإنسانية من خلال تطورها، ومجموعة أنماط اجتماعية وأخلاقية وصناعية يحققها المجتمع في نشاطه توصلا على سعادة أفراده، والتقدم العلمي والازدهار الفني والأدبي من معالم الحضارة وأسبابها. ونجد الأنثربولوجيين وعلماء الاجتماع الأوائل مثل" إميل دوركايم" و" مارسيل مويس" ومعظم الأمريكيين والفرنسيين يسوون بين مدلول الحضارة ومدلول الثقافة، وإن قيل أن الثقافة هي كل استشارة للذهن وتهذيب الذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع، وتشمل المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يساهم بها الفرد في مجتمعه، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إلينا ما أضاف في الحاضر وهي عنوان المجتمعات البشرية. أما الحضارة فهي جملة المظاهر التي تدل على الرقي العلمي والفني والأدبي مما ينتقل من جيل لآخر في مجتمع أو مجتمعات مشابهة، ويفرق عادة بينها وبين الثقافة على أساس أن الثقافة ذات طابع فردي، وتنصب خاصة على الجوانب الروحية، بينما تبدو الحضارة ذات طابع اجتماعي ومادي. وقد ترسخ في عقلية الغربي لمدة طويلة، وبفعل ما حققه من تقدم تقني وعلمي، أن الحضارة لا تضاف لغير الشعوب الأوروبية، فهي وحدها المجتمعات المتحضرة، أما غيرها من الشعوب فهي المتوحشة أو المتبربرة، فكان المقياس في ذلك ماديا صرفا مع إهمال قيمته الروحية والأخلاقية. ومع القرن 20 ستتغير هذه النظرية عند معظم الباحثين في المجال الحضاري، فلم يعودوا يفرقون بين شعوب متحضرة وشعوب همجية غير متحضرة؛ لأن مفهوم الحضارة ومفهوم التقنية قد تغير في أفهامهم عن ذي قبل، فأصبحت من ثم الحضارة عندهم في كل جهد يبذله الإنسان لتحسين أحواله المعيشية في دنياه ماديا أو معنويا. أما التكنولوجيا فأصبحت تعني تطبيق الإنسان للمعرفة المتاحة له ابتغاء تطوير حياته وتيسيرها ما أمكن، فلم يعد الخلاف قائما بين حضارة شعب وآخر، على أن أحدهما متحضر والآخر غير ذلك، بل أصبح يقوم في مستوى الحضارة عند كل منهما، ومع تغير نظرة الغربي بصدد هذا الموضوع، فلا زالت بعض الأفهام وخاصة عند الغرب تأخذ بالتصور الذي كان لدى الغربيين في القرن 19. وأما الجواب عن السؤال: مَن المنشئ الحقيقي للحضارة الفرد أم المجتمع؟ فإنه قد تنوع كذلك بتنوع الاتجاهات والمدارس، فمن الباحثين من رأى أن المجتمع بأعرافه الاجتماعية هو الذي يوجه التاريخ ويحدد له مسار مستقبله، ورواد هذا الاتجاه هم أصحاب الفلسفة الوضعية الفرنسية، وعلماء الاجتماع بوجه عام. وكان طبيعيا أن يرفض هذا الرأي مفكرون آخرون يردون للفرد فاعليته أو يمكنونه من إرادته التي سلبها الوضعيين، وبالتالي يردون قيادة المجتمع في حاضره ومستقبله إلى الفرد، وقد احتلت النزعة الاجتماعية التاريخية مكان الصدارة في تفكير القرن ،19 فانصرف المفكرون عن دراسة الإنسان مستقلا عن أقرانه، وعالجوه من حيث هو عضو في جماعة يخضع لتأثيرها ويستجيب لتياراتها ولا يملك أن يتصدي لمقاومتها أو يسيطر على توجيهها. وقد بدت هذه الظاهرة عند "أوكست كونت" سنة 1957، وبلورها "دوركايم"، فقد اهتم بدراسة الظاهرة الاجتماعية توطئة لإقامة علما واقعيا مستقلا، ورأى أنها نشأت خارج شعور الفرد كحقيقة موضوعية تؤثر في الفرد وتوجه سلوكه وتفكيره وشعوره على غير إرادة منه، بل ليس في وسعه أن يقاوم تأثيرها، بل هي تخضع لقوانين علمية شأنها شأن الظواهر الطبيعية، ومن ثم تخضع لدراسة علمية موضوعية لا تتدخل فيها الأهواء ( أهواء الباحث ) وهي تنشأ بنشأة الاجتماع البشري لأنها من صنيع العقل الجماعي. ومن ثم تكون قيم الأخلاق ومُثلها العليا من صنف الظواهر الاجتماعية التي تنشأ باجتماع الناس بعضهم ببعض ولا تكون قط من صنع الأفراد أو الفلاسفة. ولكن هذا الاتجاه الاجتماعي الذي حسم دور المجتمع في توجيه التاريخ على حساب الفرد، قد تداعى أمام نظرية حسمت دور الفرد -البطل- على حساب المجموع، ويقال أن رائدها الأول كان "توماس كازلايك". ففي مطلع القرن 20 أكد المفكرون النزعة الفردية، ونشأ المذهب التارخي الذي يذهب أصحابه إلى أن الفرد هو الذي يحدد معنى التاريخ، وطبيعي أن تكون هناك مواجهة ما بين تصورات التيارين باعتبار أن لفظي الفرد والمجتمع غامضان غموضا شديدا في المعرفة الغربية، وأن هذا الغموض سيستمر قائما طالما اعتُبر الفرد والمجتمع لفظين متضادين. وفي سياق البحث عن العوامل الفاعلة التي تنشأ الحضارة، نجد آراء أخرى تتجه في تحليلها نحو أسباب أخرى كالبنية الجغرافية والجنس المتحرر منه. ومن رواد الرأي الأول "هانت كتن" في كتابه [ المنابع الرئيسية للحضارة ] وفيه رد الحضارة والتقدم إلى المناخ المعتدل البارد، وقال إن جميع المناطق الحارة والمدارية سكانها متخلفون متأخرون. أما أصحاب الرأي الثاني القائل بنظرية تقسيم البشرية إلى شعبين: آري هو الأصل الذي تنتمي إليه الأمم الأوربية وبعض الأمم الأسيوية ممن انحدرت لغتهم من أصل واحد هي اللغة السانكرينية أو غيرها. وأول الداعين إليها أرستقراطية فرنسا "سوزين أربركوين" وقد زعم أن الشعوب الآرية وحدها دون غيرها التي خلفت كل من له قيمة في حضارة وقامت بالحفاظ عليه، وقيل إن السلالة الآرية هي منبع جميع الحضارات العالمية من قديم الزمان إلى حديثه. ولا محالة، فهذه النظرية المزعومة ظهرت في عصر ينوء بتعصب ديني بغيض، وتحزب جنسي واضح، والمتبع لأبحاث المعنيين بتلك النظرية يلاحظ أن فكرة إقحام السامية والآرية على نشأة الحضارات البشرية يحيل على التفوق الحضاري الذي ساء في الصين ومصر قديما. ولا يستطيع أحد من العلماء أن يأتي بسند علمي واحد على أن السلالة الآرية كانت موجودة بالفعل وكانت هي المنشأ. وقد زكى هذه النظرية "أرنست رينان" في كتابيه [ تاريخ اللغات السامية ] و [ ابن رشد وفلسفته ] وفيهما أكد أن الجنس السامي دون الجنس الآري في قدراته العقلية، وقد تأثر به بعض معاصريه وخلفائه، وصرح في كتابه الأول بأن خواص النفس السامية تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من جهة الدين وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدينة. وأخلص أنواع الجنس السامي هم العرب، أما النفس الآرية فتتميز بميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف. ويقول في كتابه الثاني: ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة. وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتحاما صرفا وتقليدا للفلسفة اليونانية. بعض ملامح الحضارة الغربية في مسيرتها الطويلة: بدأت الحضارة الغربية مع عصر النهضة أو الانبعاث الذي رافق ظهور العصور الحديثة، حيث كان إلى حد كبير مرحلة انتقالية بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، هذه المرحلة لم تكن في الواقع منفصلة تماما عن الأزمنة السابقة واللاحقة، باعتبار أن الكثير من جذورها امتد عميقا في قلب العصور الحدبثة. إلا أنه كانت لها دوما ميزات وخصائص جعلت المؤرخين والباحثين يعطونها طابعا مميزا أو يصنفونها على أنها حقبة تاريخية على شيء من الاستقلال عما سبقها ولحقها. كانت النهضة في هذه الفترة عامة وشاملة، حيث ظهرت آثارها من خلال ما حدث من تغيير بارز في الحياة الفكرية والثقافية والفنية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل هذا ما جعل أبرز مؤرخي عصر النهضة السويسري" DURLIHURET" يعرفها بأنها الفترة التي اكتشف فيها الإنسان ذاته، وكون فيها نظرة عن الحياة إلى جانب بعثه للعلم القديم بما فيه من حضارة وفنون. وما كانت هذه النهضة قد ظهرت بالمدن إلا بمساعدة الطبقة البورجوازية وفي ظل الدولة القومية التي جاءت علمانية الطابع بعيدة من قعود الكنيسة الكاثولوكية، الشيء الذي جعل النتاج الفكري لعصر النهضة علماني الطابع وفي حالات كثيرة مخالفا للكنيسة وسياستها. وتجدر الإشارة إلى أن الانبعاث الحضاري كان في المدن الإيطالية، مثل: البندقية وفلورانسا، إذ أنها حصلت خلال العصور الوسطى على مظاهر الحياة القديمة فبنت بعض مؤسساتها السياسية والبلدية الموروثة من أيام الرومان. ومن أبرز مظاهر عصر الانبعاث محاولة العودة إلى التراث الأوروبي القديم من يوناني ولاتيني بدراسته والتعرف على ما فيه من معالم العلم والمعرفة، ذلك أن طيلة العصور الوسطى خلف النسيان والإهمال لهذا التراث، فالكنيسة في هذه العصور ما كانت تجد في تراث القدامى إلا صورة لوثنيتهم. وبالتالي فليس في إحيائه والمحافظة عليه فائدة ترتجى، ومع هذا كان رجال الكنيسة يعيدون اليونانية ويعرفون تراثها ولكنهم ما كانوا يرضون بانتشاره ونعيم أفكاره لما فيه من أفكار وفلسفات وقيم لا تقرها المسيحية. ففي أواخر العصور الوسطى، ومع تكاثر المدارس والجامعات وظهور طبقة المتعلمين والمثقفين في المدن من العلمانيين، صار هؤلاء يتجهون بصورة متزايدة نحوها في التراثين اليوناني واللاتيني من كنوز فكرية وأدبية. وربما كان للعرب في الأندلس فضل كبير في توجيه هؤلاء بصورة خاصة نحو آثار اليونان القدماء بما نقلوه من تراثهم إلى اللغة العربية والعبرانية واللاتينية. وفي عصر النهضة أكد الباحثون جهودهم في جمع المخطوطات اليونانية واللاتينية من الكنائس والإدارات. وقديما هم حكام المدن الإيطالية الأثرياء في هذه الحركة لما دفعوه من أموال لجامعي تراث القدماء. كان إقبال الناس شديدا على التراث اليوناني إذ تنافست البيوتات الحاكمة في إيطاليا على اقتناء مخطوطات والبحث عنها في الإمبراطورية البيزنطية، كذلك أقبل الإيطاليون على الهجرة إلى القسطنطينية للبحث عن المخطوطات القديمة لدراسة اللغة اليونانية، كما دعوا كبار العلماء للتدريس في الجامعات البيزنطية. والحدث البارز في عصر النهضة كان في تغيير نظرة الناس إلى نتاج الرومان القدامى وفي محاولتهم لدراسته وفهمه، فقد صار الدارسون ينظرون على أنه تراث فكري قام بذاته يجب دراسته من حيث الشكل والأسلوب والبلاغة في التصوير والإبداع في التعبير ليمكن فعلا تذوقه وفهمه، وكذلك اهتم الناس بدراسة عمق هذا التراث للتعرف على روح الأقدمين واكتشاف ما كان عندهم من معاني إنسانية بغض النظر عما إذا كانت تلك الأفكار منسجمة مع المعتقدات الدينية في عصر النهضة. وقد وافق حركة إحياء التراث القديم ظهور نظرة جديدة عند رجال النهضة وهو ما اعتاد الناس تدعيته بالنزعة الإنسانية، إذ تحرك العلماء من منطلق جديد يستهدف دراسة الإنسان لذاته وبمعزل عن كل ما يحيط به من أفكار وعقائد، وهذا ما ساعد رجال الانبعاث على تجاوز مواقف مفكري العصور الوسطى والذي كان يفرض تجاوز إنسانية الإنسان ومتطلبات الجسد، والاهتمام بالروح فقط، وعلاقة الإنسان بالخالق واليوم الآخر. فعلاقة الإنسان بالأرض والمحيط والمادة والحاضر كلها كانت أمور ثانوية، لقد أبرز مفكروا عصر النهضة فكرا جديدا ونظرة مستجدة للإنسان فيها الكثير من الاعتداد بالنفس والثقة بأهميته ودوره الكبير في العالم والوجود. فصوروه في ملامح جديدة كما أرادوه هم، فجاء قويا مؤمنا بذاته واثقا من نفسه فنانا أديبا شاعرا... فهم في بحثهم ودراستهم للتراث القديم اجتهدوا لإظهار وتأكيد قيمة الإنسان مما يتوافق مع نظرتهم الإنسانية الجديدة. وفي إطار الحركة الإنسانية ظهرت اتجاهات فكرية مختلفة نتجت بصورة خاصة عن تأثر الدارسين بآراء وأفكار القدماء وفلسفاتهم، وفي الوقت نفسه عن درجة ارتباطهم بالواقع الفكري والعقائدي لأوروبا في ذلك الوقت وبصورة خاصة بالمسيحية، وأهم هذه الاتجاهات: * التيار الإنساني المسيحي: وقد برز بصورة أساسية عند أولئك المفكرين الذين كانوا شديدي الارتباط بالمسيحية والكنيسة، ولكنهم ما كانوا قد أعجبوا بالآداب القديمة، فعملوا على إحيائها ونشرها ساعين إلى التوفيق لما فيها من مثل وأفكار وبين واقعهم العقدي وتفكيرهم المسيحي، فالهدف الأساسي لفلسفة هؤلاء كان يتمثل في الوصول إلى الله عن طريق بعض الفلسفات اليونانية وخاصة الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة. * التيار الوثني: وكان رجال هذا التيار أقرب إلى تفكير المدرسة العقلانية الحديثة، فقد تشبع بعض أقطابه بأفكار أرسطو وتمسك بالتعرف عليها مباشرة عبر النصوص اليونانية القديمة رافضا لكل ما أضيف لفكر أرسطو من قبل "ابن رشد" أو "توماس الأكويني". وهذا وقد كان عامل مهم ساهم في إخراج الناس من جمود مجتمعات العصور الوسطى، وهو اكتشاف الطباعة إذ ساعد على نشر التراث القديم على نطاق واسع، وجعل الكتب في متناول مختلف فئات الناس بعد إذ كانت حكرا على الحكام الأثرياء ورجال الدين. وكان أول كتاب طبع على حروف منفصلة سنة 1454م وكان نسخة لاتينية من الكتاب المقدس خرجت على مطبعة يوحنا كوتسنبرغ، ثم انتشرت الطباعة في أوروبا بسرعة مذهلة وخاصة وأن التكاليف خفضت إلى الخمس. بادر الإنسانيون بسرعة لاستغلال هذا الاكتشاف، فنشروا تراث الإغريق من خلال نصوصه الأصلية القديمة في أوروبا التي ما عرفت في السابق إلا القليل منه، وعبر ترجمات عقيمة ومشوهة، وكذلك نشروا على نطاق واسع تراث الرومان القدماء. كما نسجل هنا ظاهرة فكرية مهمة وجدت في عهد النهضة، وهي اعتماد البحث العلمي والتعليل المنطقي والتحليل المتحرر من قيود ومسلمات العصور الوسطى، إذ لم يعد الإنسان الغربي يستسيغ قبول علم التاريخ القائم على جمع الروايات وسردها، بل اعتمد الباحثون على إخضاع الرواية للبحث والتحليل، ورفض ما لا يقره العقل والمنطق. ومن أبرز رجال هاته المدرسة في التاريخ "ميكيافلي" القاضي والمؤرخ، والكاتب "ألفلورنس" الذي صور إلى حد كبير وبمنتهى الدقة واقع الحياة السياسية الأوروبية في مطلع العصور الحديثة. ومن أبرز ملامح عصر النهضة الحركة الفنية النشيطة التي عرفت طريقها منذ مطلع القرن 11، وحققت تطورا كبيرا في بعض الفنون كالنحت والعمارة والتصوير، حتى أن بعض مؤرخي هذه الحضارة أطلقوا عليه عصر النهضة الفنية. وكخلاصة عن هذا العصر، نقول إن كثيرا من الباحثين المحدثين والمعاصرين يظهر لهم أن عصر النهضة هو الذي أمد العالم الجديد بأكثر مقومات حضارتها الراهنة، وكان مصدرا من مصادر الثقافة والمدنية في العصر الحديث. وستظهر آثار ذلك في القرن 17و18. هذا الثاني الذي شهد في منتصفه مولد الانقلاب الصناعي الفريد من نوعه في تاريخ الغرب. وكان من معالم ذلك الانقلاب، تقدم العلوم لاستخدام الآلات والأجهزة وظهور المخترعات الجديدة التي غزت كل شيء. بدأ الانقلاب الصناعي في إنجلترا ومنها إلى الأمم الأوروبية فسائر العالم، وكان أبرز ما ميز الثورة الصناعية أنها أمدت الإنسان بقدرة مكنته من التحكم في الطبيعة والزيادة في إنتاجه الصناعي والزراعي. وبعد أن كانت الزراعة المورد الرئيسي لثورة الأمم الأوروبية أخذت الصناعة تحتل المكان الأول في حياتها. وموازاة مع ذلك بدأت في القرن 18 حركة فلسفية تتميز بفكرة التقدم ورفض الثقة بالتقاليد والإيمان بالعقل والتفاؤل بالمستقبل قابلت هذه الحركة نزعة تتعارض مع نشر المعارف والأخذ بالمبادئ العقلية، وسميت لذلك بنزعة التعمية في مقابل نزعة التنوير. وكان رواد حركة التنوير يؤمنون بأن العلوم الطبيعية والرياضية تنمو وتتقدم، وأن تطبيق دراستها عمليا يؤدي إلى ما يسمى بالتكنولوجيا التي تعد قوام الحضارة الغربية حتى أيامنا الحاضرة. وكان رواد هذه الحركة يستخفون بالماضي ويجاهدون لتقويض الحكم المطلق، ويقاومون نظام الحماية في عالم الاقتصاد، فطالب الاقتصاديون بالحرية وتقويض القيود التجارية والصناعية، وهاجم السياسيون منهم نظام الامتياز والحكم المطلق الذي يتعارض مع مبادئ الإخاء، ودعوا إلى الحرية والمساواة، وكان أكبر الاقتصاديين"ISMIN" وأكثر السياسيين" فولتير" و " جاك روسو"، فقامت طائفة من العلماء الفرنسيين على رأسهم "ديدرو" بإصدار موسوعة لأربعة وعشرين مجلدا ضمنوها إيمانهم بالعقل والعلم والحرية والتقدم. وقد شارك في هذه الموسوعة فلاسفة التنوير، وذلك بتمهيدهم للثورة الفرنسية التي كانت أكبر معالمها تتتمثل في إقلاع الأنظمة والمبادئ القديمة السائدة والتمهيد لإقامتها من جديد على مبادئ الإخاء والحرية والمساواة بالرغم من أن الثورة كثورة قد اقترنت بالتخريب والفوضى والظلم، وانتهت الثورة بثورة أخرى في ألمانيا أعلنها " كارل ماركس" و " أنجلز". وهكذا سيتابع الانقلاب الصناعي مسيرته في القرن 19، وذلك بظهور طاقات جديدة في الصناعة مع تقدم في وسائل الاتصال، ووفرة في الإنتاج تطلبت البحث عن أسواق جديدة، وكان من أظهر الطاقات الجديدة، الكهرباء والبترول، وشهد القرن 19 انقلابات أخرى خطيرة على المستوى السياسي والاجتماعي حتى قيل أن أوربا قد خلقت خلقا جديدا، ففي هذا القرن انتصر مبدأ الديمقراطية وسيادة الشعوب، واختفت عدم المساواة سياسيا، ولكن بقي مع ذلك التفاوت على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، بل اشتد عقب التقدم الصناعي في القرن 19، إذ وجدت عنه أرستقراطية المال وطبقة العمال التي كانت أكثر طبقات الشعب تعرضا لأزمات البؤس، ففي بداية النصف الأول من القرن، نشأ النظام الرأسمالي ودعا الاقتصاديون إلى إطلاق حرية الصناعة والتجارة، وبظهور الاختراعات الصناعية نقصت قيمة العمال، فخفضوا أجورهم بينما كان الممولون ينعمون بثراء ضخم. ومن ثم نشأت المبادئ الاشتراكية بنقد مبادئ الاقتصاديين في حرية بدعوى أنها تسببت في تدهور الإنتاج والحالة الاقتصادية والاجتماعية، ومثل الاشتراكيين في فرنسا "سان سيمون" وكان يعيب هذا التفكير على أنه خيالي، على يد " كارل ماركس" في ألمانيا الذي دعا إلى امتلاك الأمة ( الحكومة) لموارد الثروة ( وسائل الإنتاج ) حتى ينعدم النظام الرأسمالي وتوزع الأرباح على العمال بقدر نصيبهم في العمل. ومع توديع القرن 19 والإقبال على القرن 20، تبين مدى تمكن الإنسان الغربي من السيطرة على ظواهر الطبيعة ومدى فرض سلطانهم على عالم الفضاء الذي غزاه بإمكانياته التكنولوجية ولا شك أن هذا قد ارتقى بحياة الإنسان في كل مجالاتها وحققت لهم من الكتب المادية ما لا يمكن حصره، لكن نستطيع أن نستنج شيئا مهما في كل ما سبق ذكره وهو أن التقدم الحضاري في أوربا كان قوامه تقدم العلم وتحويل قوانينه إلى تكنولوجيا أسفرت عن مخترعات تمثلت في الآلة التي غزت جميع مجالات الحياة، فقد جعل الغرب لعلمه شروطا لازمة ينبغي توفرها في كل عالم أثناء مزاولة عمله منها ما سماه بالموضوعية أو إقصاء الخبرة الذاتية، بمعنى أن يدرس العالم الظواهر والجزئيات المحسوسة كما هي في الواقع لا كما يريد. ومنها أيضا النزاهة، أي أن يتخلى الباحث عن رغباته وميوله ومعتقداته مع توخي الدقة دون تحيز، ومن هنا نلاحظ أن ما يميز أسلوبهم ومنهجهم العلمي هو فقدان الاعتبارات الإنسانية والروحية والأخلاقية، فإذا نجح المخترع في تحويل مادة من المواد إلى مدمرات كان ذلك نجاحا علميا ولو أدى هذا إلى استخدام الاختراع في تخريب الحضارة والبشرية. إن الحديث عن "الحضارة " هو حديث الساعة، بل هو حديث العصر ولغته وأسلوبه، والحضارة في مفهومها العام: هي سلوك ونظام وقيم ومعان وأسس مبادئ ومنظومات، وطبيعة حياة يزخر بها مجتمع ما. وتسيطر على مجريات الأحداث فيه يدعمها ويحافظ على بقائها عمل متصل، وفعالية عالية مرتفعة يسهم فيها كل إنسان قادر مؤهل بقدر طاقته وتأهيله، وتبقى الحضارة والرقي ما بقي العمل المتصل والعطاء المتجدد والفعالية المرتفعة، فيتطور الفكر ويتفاعل، فتظهر المخترعات وتتطور الاكتشافات لتنتج أدوات تلك الحضارة ومنجزاتها. وحضارة الغرب، هي حضارة العصر التي بسطت رواقها ومدّت أثارها في كل محفل، بحيث لا يلتفت الإنسان يمينا أو يسارا إلا وقد احتوته من كل جانب وحاصرته في كل شيء، في مطعمه وملبسه ومسكنه وصناعته وتجارته، كل هذا شكل ضغطا على إنسان العصر، بدأ واضحا على مسيرة وحياة إنسان المجتمعات النامية عامة والمسلم خاصة، حتى لكان الأمر عند ظاهرة يتكرر حدوثها كل حين في مجتمعاتنا المسلمة، لتعيش بيننا ونتعامل معها، وبها ولها. هندسة الضغط الحضاري المعاصر: إن التعرف على كيفية الانتقال الحضاري وكيفية حدوثه وميكانكيته أمر هام، ويتطلب الكثير من التأمل والتبصر فيما يمكن أن يسمى بعلم الاتصال الحضاري، ويدخل في مظاهره انتشار المخترعات أو بتعبير آخر، كيف تتسرب وتنساب أفكار وعادات وتقاليد جديدة في مجتمع ما ؟ هل يتم هذا قهرا وقسرا، أو طوعا واختيارا؟ * تأثير الإعلام على الظاهرة الحضارية.. إن وسائل الإعلام في المجتمعات النامية، تستطيع أن تساعد في الإجابة على هذا التساؤل، مثلما أنها قادرة على المساهمة في هذا القهر والقسر بالنسبة للأمة عموما، أو بالنسبة لتسرب حالة نفسية فيها. فقضية تسرب الحضارات، أو تأثير حضارة مسيطرة على أمة مضغوطة كرها أو طوعا، يحدث بنسب متفاوتة. فإذا كان الإعلام في ذلك المجتمع نشيطا نجد أن طريقة النقل بالاتصال تكون أكثر تأثيرا، لأن الإعلام عادة ما يزين للناس من اقتناء المنتجات الحديثة في جميع قطاعات الحياة. * أثر نظم التعليم على الضغط الحضاري .. إن نظم التعليم في العالم العربي والإسلامي عموما نُقلت بصورة أو بأخرى من الغرب، فالتأثيرات الحضارية على المجتمع كبيرة، نتيجة أن نظم التعليم القائمة في بقاع شتى من عالمنا العربي بل والإسلامي واهية، ولكن العيب ليس في النقل، ولكن العيب في أننا نقلنا ثم جمدنا، بمعنى أننا لم نطور ما نقلنا، لم نعد صياغته ليتلاءم معه. * طبيعة التحديث والاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة.. إن الفجوة الحضارية بين الحضارة الضاغطة والمجتمع المضغوط تهيء نقل عالم الأشياء بسرعة كبيرة أكثر من أي شيء آخر، ومن هنا فإن التحديث في مجتمعاتنا، أصبح يرتكز في الاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة في عالم الأشياء. فنحن اليوم نبني بيوتنا على نسق غربي، ونؤثثها بأثاث غربي، وننجزها بأجهزة غربية، بل إننا أحيانا نسبق الغرب في انتشار استخدام بعض أدواته. محنة المسلم مع حضارة عصره: لقد آن لنا - نحن المسلمين- أن ندرك أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها ونظمها، وهما مصدر سلطانها وقوتها، أصبحت تشكل تحديا مباشرا للإنسان المسلم، وأسلوب حياته جدير بأن يتقبله، ويسعى ما وسعه الجهد لمواجهته، فالحرص على الذاتية، والتمسك بالخصوصية، يتمثلان في المحافظة على القيم والمبادئ والأسس النابعة من عقيدة التوحيد التي يجب أن يدين لها ويلتزم بتطبيق تعاليمها، ويصوغ حياته على منهجها، لأنه إن هو فرط فيها فقد يميزه وأفقد ذاتيته، وكأن إنسان في هذه الدنيا ذهب يبحث عن مخرج من تخلفه فلم يجد إلا طريق الحضارة الغربية المعاصرة وما تفرضه من نظم وقيم ومبادئ وسلوك ومعاملات فاعتنقها، لا يقدر الفكاك منها. فيصبح إنسان تلك المجتمعات كغراب يقلد مشية الحمامة، فلا هو نسخة كاملة من إنسان الغرب، ولا هو بقي على حاله محافظا على كيانه، ومؤكدا انتمائه ومعتزا بشخصيته. إذن، من معاناة الإنسان المسلم الحقيقية في حضارة العصر، تبدأ يوم يفقد ذاكرته الحضارية ويتخلى عن ذاته ويقطع صلته بقيمته الفاعلة والصالح من تراثه، فنزول مقاومته وثقل مناعته، ويرتمي في أحضان السيئ من السلوك والمعوج من المبادئ والقيم باسم التقدم والتطور، والتقدم والتطور من كل ذلك براء. دوائر المحنة : تتركز في دوائر ثلاث متصلة: 1. 1. الانبهار بحضارة العصر لدرجة الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء، وكل هذا دفع به إلى التقليد والمحاكاة ليجد نفسه في نهاية المطاف منقادا طواعية إلى الرضوخ لسلطان تلك الحضارة فيصبح تابعا لها تأمر فيطيع. 2. 2. الإفراط في التغذي بالماضي كرد فعل غير مباشر لذلك الانبهار، مما يقود المسلم المعاصر –في عمومه- إلى الاتكاء على مخدة التراث فيروح في سبات عميق، لا يحس بما حوله من متغيرات، وما يحيط به من تحديات، وعندما يستيقظ سنجده مندهشا للتطورات التي أحاطت به من كل جانب، فإذا لم يستطع أن يستوعبها يبدأ في مقاومتها والقدح فيها بدلا من أن يحتويها. فاليوم لا نملك حضارة تحمل سماتنا، وتعبر عن هويتنا، ولكننا نعيش في ظلال حضارة أقامها الأجداد، متمثلة في التراث العريق الذي ورثناه ولم نبذل الجهد الكافي لإحيائه وتقديمه بأسلوب العصر ليكون أحد مصادر التطور والتقدم والنهضة. 1. 3. خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث.. إن ما أصاب العقل المسلم من ركود وخمول بل وغياب تام عن مجريات الأحداث في المجتمعات المسلمة، ترتب عليه خروجه من دوائر التحدي والاكتفاء بالمشاهدة، فأسقط بذلك عن نفسه المسلمة واجب التكليف الذي فرضه الله على الإنسان لعمارة الأرض عندما استخلفه فيها. فهذا الكسل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في مجموعها جعلتها تابعة بعد أن كانت متبوعة، وأصبح العقل البشري فيها لا يتفاعل مع الحياة من حوله. شروط الخروج من المحنة: وذلك بشرطين اثنين: 1. 1. الإنسان ركيزة التطور وهدفه.. للإنسان في المشوار الحضاري مكانة هامة وعليه واجبات جسام، فإذا كانت الحضارة تتجه إليه بجوهرها وفنونها وعلومها، وكل ما يتمخض عنها، فإن الهدف الأول من مناهج التطور وخطط التنمية يجب أن توضع، بحيث توجد منه إنسانا سويا متوازنا ليؤدي دوره ويقوم بواجباته، إن فعل هذا فإنه يبعد عن مجتمعه ما يقوض أركانه ويهز جذوره، فيعيش المجتمع المسلم معافى من أمراض الحضارة سليما من خُباتها وشرورها، والعاقل من اتعظ بغيره. 2. 2. تحقيق الذاتية في التطور، ومن خلاله يتفق علماء التنمية على أن مسيرتها في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية ذلك المجتمع متطابقة مع تصوراته متمشية مع احتياجاتها، لأن تبني أفكارا تنموية غريبة من مجتمع ما، وصبّها في القوال الاجتماعية لذلك المجتمع لا يأتي بخير، ولا يفضي بالنتائج المرجوة. كما أصبح من المؤكد أن التنمية لا تخدم مجتمعها إلا إذا تمت داخل إطاره الاجتماعي الذي يعكس قيمه وأخلاقياته ومبادئه وعاداته وطرق معيشة أبنائه. منهج الخروج من المحنة: ركائز المنهج: * الركيزة الأولى : شحذ الفعالية الروحية في الفرد والأمة. * الركيزة الثانية : استيعاب حضارة العصر استيعابا كاملا. * الركيزة الثالثة : تبني أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل. * الركيزة الرابعة : ضرورة التفاعل بين ديناميكية الأفكار وديناميكية النظم. * الركيزة الخامسة : تمييز الحضارة المعاصرة وتصحيح النظرة إليها. * الركيزة السادسة: حماية المنجزات الحضارية للأمة. لقد استبانت لنا ملحمة الإنسان المسلم وحضارته الباسقة، يبقى أن نحدد معالم طريق الخروج من المحنة، ومواجهة التحدي الذي فرض حضارة بادخة مسيطرة بإنجازاته تقنية هائلة، تعمق الفجوة الحضارية بين المسلم وعالمه المعاصر. إننا واجدون بكل تأكيد الشروط الضرورية، والأصول الأولى الكفيلة بالبعث الحضاري المرتقب، والاستراتيجية الحضارية المناسبة لتنقذنا مما تعانيه مجتمعاتنا وديارنا من الحرمان والتخلف، وذلكم من خلال: 1. 1. فعاليتنا الروحية، ومعطياتنا القيمية، وعقيدتنا الموحية، وخطوطنا التربوية المأمولة في البيت..المدرسة.. المناخ العام.. والقدوة الصالحة. 2. 2. استيعابنا لحضارة العصر على أسس علمية وتعليمية متطورة، وتزاوج بين العلم والحرفة يمكننا بها وبالجهد والمجاهدة من استنبات التقنية في بلداننا. 3. 3. تبني الأساليب الحضارية الإيجابية التي تناسبنا في الحضارة المعاصرة، دون أن تعاب بسلبياتها الفكرية والاجتماعية، مع الجد والاجتهاد في إبداع البدائل للنظم الحضارية الحاكمة على أيدي المتخصصين في دراسات النظم التي تحكم مؤسسات شبيهة بمؤسساتنا المرجوة، سيما وأن ديننا بسعته يشمل على الأصول العامة والقواعد الكلية والثوابت اللازمة كافة لانبثاق أرقى النظم الحضارية. 4. 4. ضرورة التفاعل المطلوب بين ديناميكية كل من: الأفكار والنظم والأمن من حيث أن النظم والأفكار قديمها وحديثها أر ينقصه الكمال وليس فيها جميعا شيء مقدس، ولكأن الزمن نهر جار يخط طريقه في حياة البشر، فتتحرك الأفكار والنظم والزمن كل خلف الآخر في دورة ديناميكية تستهدف دائما الوصول إلى الكمال. 5. 5. تصحيح النظرة إلى الحضارة المعاصرة بعد فحصها وفرزها من خلال التعامل معها والبحث في دروسها، والفقه العميق لعملية توارث الحضارات حلولها وإحلالها ونشأة أطوارها ودوراتها، كل في ظلال الآخر وحضانته، وضرورة الإفادة من نقد العلماء والمصلحين للحضارة الغربية، والتركيز على الكيف والجوهر والإيجابيات في عوالم النظم والفكر والمنهجية. 6. 6. حماية منجزاتنا الحضارية المأمولة بديمومة التطور والتقدم والحركة، وحماية الأمة من أمراض الحضارة من خلال العناية بسيماتنا الذاتية، بسياجاتها الواقعية لقيمنا ومبادئنا من جراثيم الحضارة، والحرص على بناء أجهزتنا الدفاعية الحامية لثغورنا وأنظمتنا في كل مجال وافق. خاتمة: فالحق الذي لا ريب فيه، أن بين أيدينا في كل ما سلف، أعظم منهاج وأكرم دين يمنحنا هذه الاستراتيجية، ويضع أصابعنا على شتى أصولها وفروعها وكلياتها وجزئياتها وجميع خطوطها المتوازية والمتقاطعة، لقد أراد الله لديننا الإسلامي الحنيف أن يكون حماية للناس وأمنا وشفاء ورحمة وفضلا وهدى ونعمة لا تطاولها في دنيا الناس نعمة. بقلم الأستاذ : محمد عادل التريكي [1] ص: 544-545. [2] عن مجلة الوعي الإسلامي، العدد 245 جمادى الأولى 1405ه- يناير / فبراير 1985م.