نلاحظ ندرة الكتب والمقالات والدراسات التي تتحدث عن الأندلس أو ما نسميها اليوم بإسبانيا دون التعرض للمتطلبات والخلفية الثقافية والتاريخية التي ربطتنا وتربطنا بالشعوب الصديقة، وعلى الأخص إسبانيا لخصوصيتها وخصوصية مكوناتها البشرية والفكرية ولدورها وإسهاماتها العظيمة في نقل التراث والحضارة العربية الإسلامية في أوائل العصر الحديث. فالحقيقة الماثلة أمام أعيننا وأمام التاريخ هي أن إسبانيا كانت ويجب أن تظل دولة صديقة للعرب والمسلمين تاريخيا وحضاريا، وذلك لماضيها العربي الإسلامي وآثارها الإسلامية الباقية في كل مدن وقرى إسبانيا اليوم، التي تجهر بهذا الماضي وهذه الآثار الباقية، التي تذكر شعب إسبانيا اليوم بأن العرب والمسلمين عاشوا على هذه الأراضي أكثر من تسعة قرون. فإسبانيا اليوم هي فسيفساء من عناصر الحضارة العربية الإسلامية التي حملت كل ما شيدته الشعوب التي نزحت إليها كالسلتيين والفينيقيين والإغريق والقرطاجنيين والرومان والقوط وأخيرا العرب المسلمين، أقام كل منهم حضارته وثقافته المتنوعة والمتداخلة وأصبحت مكوناتها الذاتية والشخصية إسبانية أندلسية نتيجة لهذا المزج والخلط والتعدد من كل هذه الشعوب واللغات والعادات والتقاليد المتعاقبة على إسبانيا. إذا كان القرن الحادي عشر في الأندلس عصر كبار العلماء في الفلك، فإن القرن الثاني عشر كان عصر الأطباء والفلاسفة. وقد برع ابن رشد في كلا المجالين، وبلغ من تأثير أعماله في الغرب أن العالم الغربي في القرن الخامس عشر اعتقد أن نور المعرفة لم يكن يصدر من الشرق بل من الأندلس. وقد أشار إلى ابن رشد وفلسفته الذي نظم مسار الفلسفة العالمية عبر التاريخ ووصل أطرافها. هذه هي حقيقة البيئة الخصبة الإسبانية التي اختصت بها الحضارة الإسبانية العربية الإسلامية الأندلسية زمنا طويلا وأخذت سبيلها إلى الانتشار في العالم أجمع. وامتد تأثير ابن رشد في الفكر الإنساني عبر التاريخ وكانت كتبه تدرس في الجامعات الأوربية حتى بداية القرن التاسع عشر. ولقد كان مذهب ابن رشد خير دليل على أهميته كما كان إنتاجه الوفير القيم أساسا لتعلم الأجيال الأوروبية في الفلسفة والطب وبقية العلوم. وقد كان لمدرسة المترجمين بطليطلة دورا وإسهاما هاما في نشر العلوم وخاصة الفلسفة العربية في أوروبا وترجمة مؤلفات ابن رشد إلى اللاتينية والعبرية وغيرها. وهذا يجعلنا نعترف بدور الثقافة العربية الأندلسية المتنوعة التي مهدت كما ذكرنا من قبل الطريق أمام النهضة الغربية الحديثة. ونشير إلى ابن عربي أيضا الذي ترك لنا تراثا عظيما انتشر في العالم الإسلامي وفي الأندلس، وهذا مما يؤكد أن تاريخ الفكر الإسباني وخاصة الأندلسي ترجع أصوله وتأثيراته إلى الثقافة الإسبانية على امتداد عصورها وخاصة القرون الوسطى، حيث عرف المثقفون الأوربيون منذ زمن بعيد الفلاسفة الأندلسيين وخاصة ابن رشد الشارح الجيد والمعلق الجريء على مؤلفات أرسطو حيث إن الحياة الفكرية في الأندلس خلال السنوات الأولى من الفتح العربي الإسلامي لإسبانيا.ولذلك اهتمت وتهتم إسبانيا اليوم بالفلسفة والفلاسفة القدامى والمحدثين أمثال أورتيجا وجاست وأونامونو وماريا ثمبرانو وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين لإيمانهم بالمنهج العلمي العقلاني والمعرفة العلمية لحل المشاكل التي يتعرض لها الفرد في كل مراحل حياته لتساعده على التقدم الفكري والإنساني باعتبار الفلسفة أصدق تعبير عن روح العصر الذي نعيش فيه اعتمادا على العقل العلمي لتصحيح كثير من آراء وأفكار ومناهج البحث وأسلوب التفكير وتوظيفه في مجتمعنا المعاصر، والاستفادة من ذلك بالكتابة والتأليف والإبداع ليكون نبراسا وحافزا على المعرفة. وقد سبقتنا الشعوب الأوروبية اليوم واستطاعت إعمال العقل وتفعيله وفرض تأثيره على الشعوب الأخرى ليخدم مصالح وأغراض مواطنيها. فبالعلم يستطيع الإنسان تشكيل العقل للوصول إلى المعرفة العلمية الحقيقية لحل مشاكله وتذليل الصعاب والعقبات التي يواجهها الفرد لتطوير واقعه وتقدم فكره ليدافع عن كيانه وكيان مجتمعه ووجوده أيضا. كل هذا بفضل المفكرين والفلاسفة العظام، وللحق الفضل لا يرجع للعرب المسلمين فقط وإنما يعود إلى البيئة والمناخ الثقافي الخصب، الذي كان يتمتع به شعب الأندلس في هذه الأراضي على مدى المراحل التاريخية في عهد القوط الغربيين والفينيقيين والقرطاجنيين ثم الرومان. الدكتور جمال عبد الكريم