من مظاهر التسامح الذي نهجته الدول الإسلامية التي حكمت الأندلس تجاه المسيحيين الكاثوليكيين: أنها تركت لهم نظامهم الاجتماعي والقضائي كما كان في العصر القوطي دون تدخل أو إكراه، بل حاولت دائما أن تجد الحلول عبر الاجتهادات التي كانت تقدم للفقهاء. أما بالنسبة لحرية المعتقد بالنسبة لمسيحيي الأندلس؛ فإن السلطة الإسلامية كفلت لهم حريتهم الدينية منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس، وكذلك استمر الأمر خلال عصر الولاة والإمارة والخلافة. بل إن التسامح الديني تجاههم بلغ ذروته في عصر ملوك الطوائف. والراجح أن التسامح الديني الذي أبداه مسلمو الأندلس، والسلوكات الحضارية التي تعاملوا بها مع الأهالي المسيحيين جعلهم يعتنقون الإسلام على غرار إخوانهم النصارى الأريوسيين الموحدين. فالمصادر تمدنا بين الفينة والأخرى بأخبار بعض المسيحيين الذين أسلموا، ومن بينهم: جد إبراهيم بن سفرج المدعو بابن همشك. ويمثل اعتناق مسيحيي إشبيلية الإسلام بكيفية جماعية في عصر المرابطين أهم نموذج لاعتناق النصارى الإسلام. وقد تأثر النصارى في الأندلس وخارج الأندلس بمفكرين مسلمين كبار، وترجموا كتبهم، سواء في علوم الفلسفة، والأدب، والسياسة، والتاريخ، وغير ذلك؛ كابن رشد، وأبي حيان، وابن البيطار، وقد ألف العلامة محمد إبراهيم الكتاني رحمه الله بحثا قيما بعنوان: "هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحي"، ضمنه صورا قيمة من مدى تأثير هذا العلم المسلم في الفكر المسيحي الأندلسي، والإصلاحي فيما بعد. قال المستشرق أسين بلاسيوس في مقدمة "الفصل لابن حزم": "إن ابن حزم كان أول محرك للمدرسة الحديثة الحرة التي ينتمي إليها هارناك وهاش وهولتسمان إذ يتميز كهؤلاء النقاد البروتستانتيين بالتفريق بين الديانة المسيحية الأصلية وإنجيل بولس الذي يتهمه كما يتهمونه هم أيضاً بأنه أول مشوه لإنجيل عيسى". كما عقد مقارنة بين فكر توماس الإكويني ñ أحد الزعماء الروحيين للمدرسة البروتستانتية - وابن حزم أثبت من خلالها تأثر الإكويني البين بفكر ابن حزم، بل زعم بعض الباحثين أنه نقل عنه في بعض كتبه. ومن صور التسامح الاجتماعي الأخرى: احترام الدول الإسلامية تقاليد وأعراف اليهود بالأندلس، حيث خصصت لهم مقابر خاصة تمشيا مع عوائدهم وتقاليدهم في دفن موتاهم. ولا غرو فقد صنف يهوذا هاليفي المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن كتابا حول اليهودية وعلاقتها بالأديان الأخرى، وأصبح اليهود في عصر الطوائف والمرابطين يتمتعون بامتيازات لم يحصلوا عليها منذ عهود طويلة. وبلغت حرية النشاط الديني ذروتها مع إسحاق الفاسي (ت497ه 1163م) اليهودي الذي خلف موسى بن عزرا في منصب "حبر غرناطة" في بداية القرن السادس الهجري، ولعب دورا أساسيا في التكوين الديني ليهود الأندلس. والذي يعد حجة في الدراسات التلموذية، وقد استغرق شرحه للتلمود خمسين سنة كاملة. وبعد هجرته من قلعة بني حماد استقر في فاس، ثم انتقل إلى مدينة أليسانة، حيث أسس مدرسة أصبحت من أهم مراكز الدراسات التلمودية، وخلف عدة تلاميذ. ويأتي بعده في الأهمية أبراهام بن عزرا (466-565ه 1073-1163م) الذي شرح القوانين التلمودية في 24 مجلدا، إلى جانب نبوغه في مجال الشعر . ومن الشخصيات اليهودية التي اعتنقت الإسلام: أبو الفضل ابن حسداي فضلا عن عدد هام ممن أسلموا، حتى إن ظاهرة دخول اليهود للإسلام أصبحت شائعة، وأصبح العامة الأندلسيون يطلقون مصطلح "أسلمي" على كل من أسلم من اليهود. وفي مجال الفلسفة بزغ العديد من اليهود؛ ومنهم: يهودا بن صمويل هاليفي المعروف في المصادر العربية بأبي الحسن. وقد ألف كتابا هاما عبّر فيه عن آرائه الفلسفية دون معارضة أي سلطة اسلامية، فضلا عن أبي عمر يوسف بن الصديق الذي صنف مؤلفا في الفلسفة هدف من ورائه إلى تعريف معاصريه بالحقائق الكبرى للأخلاق. ويبدو أن الفلاسفة اليهود تأثروا بالفلسفة العربية، وهذا في حد ذاته دليل على التفاعل بين مسلمي الأندلس واليهود. ويعد أبو جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي أول المتأثرين بابن باجة الذي كان يراسله بكيفية مستمرة، فضلا عن أسماء فلاسفة آخرين لا يسمح المجال بذكرهم أولا بأول. ولعل من أهم مظاهر التعايش الإسلامي اليهودي في بلاد الأندلس، الشاعر الإسرائيلي إسحاق بن إبراهيم بن سهل الأندلسي الذي ألف قصيدة طنانة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في مطلعها: جَعَلَ المُهيمنُ حُبّ أحمدَ شيمةً وَأتَى بِه في المُرسلينَ كَرِيمة فَغدَا هوَاهُ على القُلُوبِ تَمِيمَةً وَغدَا هُداهُ لِهديِهم تَتَميمَا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمَا أبدَى جَبينُ أبِيهِ شاهِدَ نُورِهِ سَجعت به الكهَّان قبل ظهوره كَالطَّيرِ غَرّد مُعرِباً بصَفِيرِهِ عن وَجهِ إصباحِ يُطِلّ وَسِيمَا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمَا أنسَ الرّسَالَةَ بعد شِدّةِ نَفرَةٍ مُنجي البرّيَّة وَهيَ في يد غمرَة مُحيِي النُّبُوّة وَالهدى عن فَترَةٍ فكَأنَّما كَفَلَ الرّشَادَ يَتِيمَا صَلُّوا عَلَيه وَسَلِّمُوا تَسلِيمَا الأبيات، وهي طويلة أوردها بتمامها الحافظ المقري في الجزء الأخير من كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب". غير أن هذا التوازن والتعايش بقدر ما كان فيه يمن وحفاظ على المسيحية الكاثوليكية، بقدر ما كان وبالا على الإسلام في الأندلس واليهود في الأندلس أيضا، بحيث انهارت تلك الحضارة بعد سقوط غرناطة على يد المسيحيين الكاثوليكيين القادمين من خارج إيبيريا، والذين هدموا تلك الحضارة بإعانة إخوانهم من وسط أوروبا وأطرافها ومباركة وتحريض المرجعية البابوية في روما، أولئك الغزاة الذين استعمروا البلاد، وأجبروا أهلها على دينهم، عن طريق الإحراق بالنار، والتعذيب والتقتيل الذي قامت به الكنيسة عن طريق محاكم التفتيش التي سطرت أسوأ وأبشع الجرائم الإنسانية، من أجل فرض دين وفكر غريب على بلاد الأندلس عبر تاريخها، وهدم حضارة مازال الإسبان يقتاتون من خيراتها إلى الآن، مع ما واكب ذلك من محو لجل العادات المحلية الإنسانية من لباس ولغة ولهجات وعادات اجتماعية وغيرها، وفرض طقوس إرهابية ووثنية، وتحطيم للقدرات الإنسانية الجبارة، وتهجير النخبة العالمة والمفكرة والصانعة، تلك الجريمة الشنعاء التي مازالت البابوية الكاثوليكية تستنكف عن الاعتذار عنها والاعتراف بخطئها. استطاع المستعمر الكاثوليكي أن يطرد من الأندلس النخبة الدينية، والفلسفية، والمثقفة، والصناعية، والتجارية، والزراعية، ولكن بقي السواد الأعظم من سكان الأندلس، بكافة مناطقها عرضة للتجهيل، والأسر، والاسترقاق، والقمع الجسدي والفكري، حتى ركبت الكنيسة في عقولهم أن "المستعمر العربي" خرج من الأندلس، وطُرد أبدًا، والواقع أنه لم يكن أي مستعمر عربي في الأندلس، إنما هم آباء وأجداد سكانها الذين سكنوها منذ غابر الأحقاب والسنين، واندمجت فيها دماء الشعوب التي اشرأبت للحضارة والعلم والدين، من عرب، وفرس، وبربر، وزنج، وأوروبيين، وغجر، وعبريين، إضافة إلى إخوانهم الأندلسيين. ولكن ما جاءت الحرية في العقد الثامن من القرن العشرين، وانهارت هيمنة الكنيسة، حتى عاد جل الإسبان إلى توحيد الله تعالى، فهم يؤمنون بالله الواحد، ويرفضون عقائد الكنيسة، كما أقبل الآلاف منهم زرافات ووحدانا على الإسلام - دين آبائهم وأجدادهم - يتعلمونه ويرجعون إليه، وتستعيد نخبة منهم اللغة العربية - لغة تلك الحضارة الكبيرة -التي كان آباؤهم من روادها في العالم، بحيث لا تكاد مدينة أو قرية، خاصة في منطقة الأندلس وبلنسية، إلا وتجد بها مسجدا أو مركزا إسلاميا، أما المطاعم الإسلامية الحلال؛ فانتشرت في جميع البلاد. فهذه نبذة مختصرة عن مدى التعايش الإسلامي اليهودي المسيحي في بلاد الأندلس أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، وكيف خرجت من هذه الرقعة الصغيرة حضارة تعتبر من أبرز وأجمل الحضارات التي انتفعت ومازالت تنتفع بها الإنسانية، وتعتبرها فترة تاريخية تزدهي بها على مر السنين والأحقاب. ❊❊❊❊❊❊❊❊ مراجع البحث: 1 - "الإجتهاد والمجتهدون في الأندلس والمغرب"تأليف محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني. تقديم الدكتور محمد حمزة بن علي الكتاني. منشورات دار الكتب العلمية. 2 - "إنبعاث الإسلام في الأندلس" تأليف الدكتور علي بن المنتصر الكتاني، منشورات دار الكتب العلمية. 3 - "محطات في التسامح بين الأديان والشعوب بالأندلس". بقلم: الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش. نشر موقع مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات. 4 - "نفح الطيب من خصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب". تأليف أحمد بن محمد المقري التلمساني الفاسي. نسخة محطوطة، وقد طبع عدة طبعات. 5 - "ومازالت الأندلس تمنحنا دروسًا". بقلم: بشرى مهيب. نشر بموقع "إسلام أونلاين" بتاريخ 31/1/2002.