الرئيس الانتقالي في سوريا: نعمل على وحدة البلاد وتحقيق السلم الأهلي    حماس تعلن أسماء ثلاثة رهائن إسرائيليين ستفرج عنهم السبت    انخفاض بنسبة 0.2% في أسعار إنتاج الصناعات التحويلية بالمغرب    أداء إيجابي في بورصة الدار البيضاء    أسعار النفط ترتفع إلى أزيد من 76 دولارا للبرميل    توقعات بتصدير المغرب 90 ألف طن من الأفوكادو في 2025    اليمن يجدد الدعم لمغربية الصحراء    حصيلة النشاط القضائي بالقنيطرة‬    حماس تفرج السبت عن ثلاثة رهائن    "مجموعة العمل من أجل فلسطين" تحتج أمام البرلمان وفاء للشهيد محمد الضيف    إيطاليا تحظر الوصول إلى تطبيق "ديب سيك" الصيني    يوروبا ليغ: الكعبي يقود أولمبياكس لدور الثمن والنصيري يساهم في عبور فنربخشة للملحق    توقيف شخص بطنجة مبحوث عنه وطنيا متورط في قضايا سرقة واعتداء    إعادة فتح معبري سبتة ومليلية.. ضغط إسباني وتريث مغربي    استئناف النقل البحري بين طنجة وطريفة بعد توقف بسبب الرياح العاتية    حكم بالسجن على عميد شرطة بتهمة التزوير وتعنيف معتقل    التمرينات الرياضية قبل سن ال50 تعزز صحة الدماغ وتقلل من الزهايمر    إلموندو الإسبانية تكتب: المغرب يحظى بمكانة خاصة لدى إدارة ترامب وواشنطن تعتبره حليفًا أكثر أهمية    المحكمة التجارية تجدد الإذن باستمرار نشاط "سامير"    التعاون السعودي يعلن ضم اللاعب الصابيري خلال فترة الانتقالات الشتوية الحالية    وزير الخارجية اليمني يؤكد دعم بلاده الكامل لمغربية الصحراء خلال لقائه مع رئيس الحكوم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي تعزز وعي الجيل المتصل في مجال الأمن الرقمي    الفلاحون في جهة طنجة تطوان الحسيمة يستبشرون بالتساقطات المطرية    نهضة بركان يواصل التألق ويعزز صدارته بفوز مهم على الجيش الملكي    كيوسك الجمعة | 97 % من الأطفال المغاربة يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    اللجنة التأديبية الفرنسية تقرر إيقاف بنعطية 6 أشهر    ارتفاع أسعار الذهب    "كاف" يعلن عن تمديد فترة تسجيل اللاعبين المشاركين في دوري الأبطال وكأس الكونفدرالية    الدولي المغربي حكيم زياش ينضم رسميا للدحيل القطري    سانتو دومينغو.. تسليط الضوء على التقدم الذي أحرزه المغرب في مجال التعليم    أجواء ممطرة في توقعات طقس الجمعة    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    العثور على الصندوقين الأسودين للطائرة التي تحطمت في واشنطن    وتتواصل بلا هوادة الحرب التي تشنها جهوية الدرك بالجديدة على مروجي '"الماحيا"    نتائج الخبرة العلمية تكشف قدرة خلية "الأشقاء الثلاثة" على تصنيع متفجرات خطيرة (فيديو)    الجيش الملكي يخسر بثنائية بركانية    النقابة الوطنية للصحافة ومهن الإعلام بإقليم العرائش تكرم منجزات شخصيات السنة    من المدن إلى المطبخ .. "أكاديمية المملكة" تستعرض مداخل تاريخ المغرب    «استمزاج للرأي محدود جدا » عن التاكسيات!    زياش إلى الدحيل القطري    إطلاق النسخة الأولى من مهرجان "ألوان الشرق" في تاوريرت    برقية تعزية ومواساة من الملك إلى خادم الحرمين الشريفين إثر وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود    الملك يهنئ العاهل فيليبي السادس    وفاة الكاتب الصحفي والروائي المصري محمد جبريل    مع الشّاعر "أدونيس" فى ذكرىَ ميلاده الخامسة والتسعين    جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام 2025 تكرّم جهود بارزة في نشر المعرفة الإسلامية    الطيب حمضي ل"رسالة 24″: تفشي الحصبة لن يؤدي إلى حجر صحي أو إغلاق المدارس    أمراض معدية تستنفر التعليم والصحة    المؤسسة الوطنية للمتاحف وصندوق الإيداع والتدبير يوقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتعزيز المشهد الثقافي بالدار البيضاء    المَطْرْقة.. وباء بوحمرون / الحوز / المراحيض العمومية (فيديو)    علاج غريب وغير متوقع لمرض "ألزهايمر"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلم الذهبي في الأندلس.. شهادة لم تتكرر كثيرا على العيش المشترك

هل ينتمي الإسلام إلى أوروبا؟ هل يصح وجود جامع بجانب كنيسة، أم علينا الانغلاق بمنع بناء مئذنة الجامع على مقربة من برج أجراس الكنيسة؟ هل الإسلام كائن غريب يهددنا من الخارج؟ هذا ما دعا الكاتب نافيد كِرماني للرد على هذا السؤال بسؤال معاكس يطرح نفسة طبيعياً ضمن عنوان كتابه الذي صدر حديثاً، وهو: 'من نحن؟'.
يمكن الاختلاف على حدود قارة أوروبا التي ثُبتت بشكل عشوائي. ولكننا عندما نأخذها كما هي لا نستطيع أن ننكر أن الإسلام قد ضرب على مدى التاريخ جذوراً عميقة في مناطق عديدة من قارتنا الأوروبية: فهو حاضر حتى الآن في روسيا (لا في القوقاز فحسب) وفي جنوب شرق أوروبا (لا في البوسنه فحسب) ؛ وكان حاضراً لمدة طويلة في شبه جزيرة إيبيريا. فقبل 1300 عام بالضبط، أي في سنة 711م كان القائد العربي موسى بن نصير قد اتجه بجيوشه من مصر إلى شمال إفريقيا، فأخضع سكانها البربر وأرسل طارق بن زياد لعبور مضيق جبل طارق واختراق مملكة القوط الغربية. ثم جابه في التاسع عشر من تموز/يوليو ملك القوط رودريغو على نهر غواد اليتي (وادي لكة) قرب قاديش في معركة فاصلة.
سقط رودريغو (لذريق) وأضحت هسبانيا (Hispania) بعد موقعة نهر غواد اليتي مفتوحة أمام المسلمين الغزاة. وظل الإسلام في البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى سقوط الأندلس سنة 1492 - بل ولاحقاً حتى سنة 1614 ، أي بعد طرد آخر من عُمِّد منهم إجبارياً - القوة المؤثرة سياسياً ودينياً واجتماعياً وثقافيا في هذا الجزء من أوروبا، وحملت البلاد خلال هذه الفترة الطويلة التي تقارب الألف سنة اسم الأندلس الذي أطلقه العرب على شبه الجزيرة. وتوجد كلمة الأندلس بالعربية ومقابلها 'هسبانيا باللاتينية' على قطع النقود المتداولة في فترة ما بعد فتح العرب بلاد الأندلس مباشرة. ثم تحولت الأندلس فيما بعد إلى مصطلح يجمع الجغرافيا والتاريخ ويرمز إلى مكان نفوذ الإسلام على الأراضي الإيبيرية الذي أخذ يتغير ويتقلص شيئاً فشيئاً.
هذا الإسلام، عصر الإسلام المغربي (كما يسمونه أيضاً) في هسبانيا هو جزء من التاريخ الأوروبي. ينتمي جامع قرطبة وقصر إشبيليا وقصر الحمراء في غرناطة للقرون الأوروبية الوسطى مثلها مثل القلاع والحصون والكاتدرائيات القوطية والرومانية.
تظهر هنا بجلاء شبكة العلاقات التي ربطت ما بين الشرق والغرب. فقد تقبلت ثقافة المور تأثيرات الشرق واستوعبتها وخلقت منها مادة ثقافية جديدة.كان مضيق جبل طارق الذي يعتبر اليوم حداً فاصلاً بين العالم الأول والعالم الثالث جسراً لا تُنقل عبره الجيوش والبضائع فحسب بل وجدت عبره كذلك الأفكار والفلسفات والفنون والتقنيات والصناعات اليدوية والأزياء طريقها إلى هنا. كما انتقلت عبره فنون الشعر أيضا: ففي الأندلس ألّف شعراء مسلمون ومسيحيون ويهود شعراً يعدّ من أجمل الآداب العالمية.
كانت قرطبة في القرن العاشر عاصمة زاهية لمملكة إسلامية مستقلة، وكانت دون مقاربة أكبر مدينة في أوروبا كلها. فكان مبعوثو القيصر يتجمدون إجلالاً ومهابة أمام بهاء القصر. وكانت مكتبة قرطبة تحوي كتباً يفوق عددها عدد الكتب في أوروبا الغربية كلها. وقد وصفت الشاعرة روزفيتا فون غاندرزهايم التي عاشت في تلك الفترة، وهي أول امرأة ألمانية تكتب الشعر، أن مدينة قرطبة تتمتع بأشهر زينة على الكرة الأرضية. وقد ظل الازدهار الحضاري والاقتصادي في إسبانيا الإسلامية مستمراً حتى بعد انهيار الخلافة في القرن الحادي عشر سياسياً وعسكرياً وتشتت الأندلس إلى العديد من المملكات الصغيرة.
لم يبدأ الانحدار الحضاري إلا في القرن الثاني عشر عندما استولت قبائل البربر على الحكم وأخذت تنتشر في الشمال المسيحي فكرة الحرب الصليبية التي انتهت أخيراً بسقوط قصر الحمراء في غرناطة على يد الملك الكاثوليكي فِردناند ملك أراغون وإزابيلا ملكة كاستيليا سنة 1492.
كانت الفنون حتى في هذه الفترة المتأخرة في أوج ازدهارها: فقصر الحمراء الذي لا يزال يُعتبر في العالم أجمع تجسيداً للحضارة الإسلامية ومثلاً على الفن المعماري والجمالي الإسلامي المغربي (الموري)، نشأ في القرن الرابع عشر، في فترة تميزت بالضعف السياسي والإغماء العسكري كإزهار متأخر لمدينة توشك على الانهيار.
لقد أصبحت الأندلس موضوعاً للتجلي الرومنطيقي. إذ ازداد اهتمام عامة الناس بأطلال قصر الحمراء بخاصة بعد نشر رواية 'قصص الحمراء' للكاتب الأمريكي واشنطن إرفينغ سنة 1832.
ثم تحولت الأندلس في القرن التاسع عشر إلى مفهوم آخر للإسلام يتجلّى بطابع المسلم المغربي (الموري) النبيل الذي يحارب بفروسية ويدافع بمروءة عن أبرياء وقعوا في مأزق. ولا تزال أسطورة إسبانيا الإسلامية قائمة إلى يومنا هذا، دولة يسودها التعدد الثقافي السلمي ولا يعكر صفوها أي توتر أو خلافات. ويقابل هذه الأسطورة عدم تسامح الكنيسة الكاثوليكية وعدوانيتها الظلامية التي بلغت قمتها بإنشاء محاكم التفتيش لقهر من تبقى من المسلمين المشكوك في صدق مسيحيتهم بعد تنصُّرهم.
أصبح الأندلس موضوعاً للتجلي لا في الغرب فحسب بل وفي الشرق أيضاً. وما زال حكم المسلمين إسبانيا يُعتبر اليوم عصراً ذهبياً. وكان أحمد شوقي، وهو أهم شاعر مصري في القرن العشرين، مقيماً في إسبانيا من سنة 1914 حتى1920. وقد كتب أشعاراً مطولة خلّد فيها حلم الأندلس. فقصر الحمراء لا يكتظ اليوم بالسواح الغربيين فحسب، بل ويستقطب كذلك مغربيين وعرباً وأجناساً أخرى يأتون ليغتبطوا بعظمة الماضي.
لكن، إلى جانب الافتخار بالثقافة يوجد أيضاً حنين إلى ماضٍ إسلامي، وهو ليس دائماً بالسلمي، لأنه ينطلق من أن الأندلس كانت تنتمي إلى 'دار الإسلام'. ففى أقصى جنوب جبل طارق ومقابل الشواطئ الإفريقية افتتحت العائلة السعودية المالكة سنة 1997 للمسلمين المقيمين هناك جامعاً ضخماً ذا بناء تذكاري تطل مئذنته وجهة أوروبا. وفي سنة 2003 افتُتِح جامع في غرناطة على الرغم من ممانعة شديدة من دير قريب للراهبات. ولا يُطلّ الجامع على المنظر الخلاب لقصر الحمراء فحسب، بل وتنطلق منه بنشاط ونجاح الدعوة لنشر الإسلام. وهكذا تتواصل أسطورة الأندلس بهذه الطريقة أيضاً ويتسع مجال تأثيرها.
إلا أن هذه الأسطورة متناقضة في حد ذاتها كباقي الأساطير. فهي تجسد العديد من مُثل تاريخية متناقضة. فالمسلم المغربي كان في نظر المسيحيين في إسبانيا يشكّل الخطر الدائم والعدو الذي يتوجب التصدي له من جهة، والذي يشع منه افتتان سري من جهة أخرى. إذ أن احتلال المسلمين شبه الجزيرة الإيبيرية شكّل للمسيحيين نكبة وجود أوجبت عليهم استردادها. ولا يزال لذلك الصراع تأثير حتى اليوم في جدال الهوية الوطنية الإسبانية.
وبالمقابل فإن المسلمين الذين طردوا من الأندلس ما زالوا يرون فيها جنة ماضيهم. إلا أن أحداً منهم لا يسعى أو ينوي بجدية - رغم السياسات الرمزية - إلى إعادة تشكيلها. لكنها تبقى صفحة تاريخية براقة يطيب الحلم بها.
على الرغم من تلك الأضرار الأخيرة التي نجمت عن التناقضات القديمة وأصابت كلا الجانبين، فقد ساد في العصر الحديث تصور أن نموذج الأندلس الفعلي يكمن في التغلب على المتناقضات. إذ تُعتبر إسبانيا العصور الوسطى مكاناً تعايشت فيه الأديان التوحيدية مع بعضها البعض في سلام ووئام. مثل هذا التعايش convivencia لم يتحقق على هذه الصورة في أي مكان آخر.
إن تفسير التاريخ هكذا اعتماداً على حقائق تاريخية مبرر فعلاً، وإن كانت ثمة بعض الاختلافات الصغيرة التي كثيراً ما يصرف النظر عنها عمداً. ولا ريب من جهة ثانية في أنه من الخطأ والمبالغة النظر إلى تلك الفترة التاريخية على أنها جنة متعددة الثقافات، وأنها كانت تعيش في سلام دائم. فكثيراً ما كانت هناك حروب دامية. كما كانت هناك أيضاً فترات متكررة شهدت عقد اتفاقات تعاون تتخطى الفوارق الدينية ولا تقتصر على الشؤون الثقافية فحسب، بل تتعداها إلى السياسية والعسكرية أيضاً.
كان ملوك إسبانيا المسيحيون يدينون بالولاء للخليفة في قرطبة ويدفعون له الجزية، ويزوجون بناتهم للأمراء المسلمين. إذ كان تفوق إسبانيا المسلمة في القرن العاشر الميلادي، عصر الحكم الاسلامي في قرطبة، طاغياً لدرجة أن المسيحيين كانوا عاجزين عن مواجهته ففضلوا التفاهم سلمياً بدلاً من الخوض في حروب لا أمل في كسبها.
بعد انهيار الخلافة في القرن الحادي عشر بدأت تتكون مملكات إسلامية صغيرة متعددة (طوائف) راحت تتنافس فيما بينها على السلطة والنفوذ. ولم تكن الفوارق الدينية في هذه الحروب الصغيرة الدائمة ذات أهمية. إذ كان الحاكم المسلم كثيراً ما يستعين بالمسيحيين ضد أعدائه المسلمين. كما كان الملوك المسيحيون يعقدون بالمقابل أحلافاً مع المسلمين ضد جيرانهم المسيحيين.
فقد دخل في خدمة المسلمين أحد المحاربين المسيحيين الأبطال، وهو رودريغو دياز فيفار الذي اشتهر بلقب السيد (Cid) وذلك بعد أن خذله ملك كاستيليا الذي نفاه بعد إخلاصه المطلق له. وكان رودريغو بالطبع يتكلم العربية، وكان لَقَبَه (Cid) مشتقاً من اللغة العربية، ومعناه سيّد.
لقد ظل شعور التضامن المتغلِّب على التناقضات قائماً في إسبانيا حتى نهاية القرن الحادي عشر. فالكثير من الأعياد الدينية كان يُحتَفَل بها سوية وكان عيد الفصح أو عيد الفطر يوحد المسلمين والمسيحيين. لذلك يمكن اعتبار أن إسبانيا هذه الفترة كانت مأوىً مشتركاً للحياة (morada vital) تَمَكّن الناس فيها من التغلب على الفوارق الدينية. وفي سنة 1085 احتل جيش عسكري أوروبي موحّد مدينة طليطلة الواقعة في وسط شبه الجزيرة، وكانت لها أهمية رمزية كعاصمة سابقة لدولة القوط الغربية المنهارة. وحال ضعف ملوك الطوائف العسكري بخلافاتهم المتواصلة دون تمكنهم من فعل شيء إزاء هذا الزحف المسيحي. غير أن ملوك الطوائف استعانوا في ساعة الشدة هذه بالمرابطين من شمال إفريقيا، وهم مجاهدون متشددون (دينياً) ومحاربون أشدّاء. وقد أنقذ المرابطون الإسلام في إسبانيا في واقع الأمر، لكنهم استنكروا على ملوك الطوائف مروقهم في الحياة وتحالفهم مع المسيحيين. فقاموا بالقضاء على هذه المملكات شيئاً فشيئاً وأسسوا مُلكهم الخاص.
تبدد الحلم الأندلسي. وتمت أفرقة الإسلام الإسباني (تحويله إلى إسلام إفريقي)كما تمت أوربة المسيحية الإسبانية (تحولها إلى مسيحية أوروبية)، وتحولت المناوشات الحدودية إلى جهاد وحروب صليبية.
تبدلت أحوال المعارك أثناء القرن الثاني عشر باستمرار، إذ صارت سجالاً: يوم لك ويوم عليك إلى أن كان النصر أخيراً ونهائياً للجانب المسيحي وحده في القرن الثالث عشر. بعد ذلك ظلت مملكة غرناطة الصغيرة هي الوحيدة المتبقية على شكل مملكة غير مستقلة هامشية تابعة للملك الكاستيلي، إلى أن تم القضاء عليها في السنة المصيرية 1492 كآخر بقايا الإسلام في إسبانيا.
لا يمكن بالطبع فهم التعايش بين الطوائف الدينية وفقاً لمعيار الانتصار والانكسار فقط. فقد سمح مسيحيو إسبانيا، وبخاصة بعد انتصاراتهم العسكرية، بالأخذ من الثقافة الإسلامية المتفوقة، والتلاقح معها في عدة مجالات.
إن التكافل الحضاري ما بين الشرق والغرب هو الذي يشكّل إنجاز الأندلس الفريد من نوعه. ولهذا التكافل الحضاري أهمية كبيرة في تاريخ الفكر الأوروبي. إذ كان اليهود في كثير من الأحيان الوسيط بين هذين العالمين، وكان تأثيرهم في إسبانيا، حيث كان للفلسفة دور مميز، أهمّ من أي مكان آخر في أوروباً.
ليست الحضارة الإسلامية وارثة للحضارة اليونانية القديمة بقدر أقل من الغرب المسيحي. إذ أن المسلمين بسيطرتهم على المملكة البيزنطية واجهوا الأعمال العلمية والفلسفية اليونانية. فانكبوا في القرن التاسع على ترجمة هذه الأعمال إلى اللغة العربية في عاصمة الخليفة العبّاسي بغداد بوساطة مسيحيين من الشام. وبذلك تطورت العربية إلى لغة ثقافية عالمية. بينما فُقِدت معرفة الغرب باليونانية واندثرت بذلك الطريق إلى المصدر، بينما ظل هذا التراث يحيا في الشرق في شكله المعرّب. ونتج عن لقاء الفكر اليوناني بالدين الشرقي توترات عميقة التأثير، ليس أقلها أن التأمل العقلاني وجد نفسه في مواجهة مع الوحي الإلهي.
لم يكن ثمة من سبيل لتفادي هذه الأزمة التي طبعت عالمنا الشرقي- المتوسطي- الغربي المشترك بشكل عميق. أي عقلٍ ناقد درس فلسفة أرسطو كان لا بد له من أن يتصادم مع المذهب الأرثودكسي السائد وذلك على مستوى الأديان السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.
أسس في القرن الثاني عشر أحد كبار الكنيسة الإسبانية وأسقف طليطلة رايموند مدرسة للترجمة كانت بعالميتها تدعو اليهود والمسلمين إليها رغم أنها كانت تحت سيطرة الحكم المسيحي. وفي هذا الجو متعدد الثقافات تمت ترجمة أعمال فلسفية وعلمية لا حصر لها من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية لتصبح متوفرة في الغرب أيضاً.
وهنا تأتي أهمية مميزة لترجمة أعمال أرسطو المعرّبة. فقد أحدث انتشار مذهب العقلانية الأرسطوطاليسي في أوروبا ثورة فكرية، وبخاصةٍ في جامعة السوربون حديثة التأسيس. إذ وجد الدين المسيحي نفسه شأنه شأن الدين اليهودي والدين الإسلامي - يواجه نفس السؤال المبدئي: كيف يمكن التوفيق ما بين الدين والعقل؟
في جانب المسيحيين حاول توماس الإكويني التوفيق ما بين التفكير المنطقي والوحي الإلهي. و في جانب اليهود حاول موسى بن ميمون من قرطبة (الملقب ب ميمونيدس) حل هذه المعضلة الكبيرة. وفي الإسلام أصبحت تلك المعضلة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بابن رشد القرطبي الأصل أيضاً والملقب في أوروبا ب أفيرويس ِAverroes. وابن رشد هو أهم حامل لفكر أرسطوطالس في القرون الوسطى. فقد ألف شروحاً لجميع أعمال أرسطو، كان لترجماتها إلى اللاتينية تأثير عميق في الغرب. ومثل الأكويني وابن ميمون حاول ابن رشد وعلى طريقته الخاصة حل التناقض الأبدي بين الوحي الإلهي وتفكير الإنسان العقلاني المنطقي، واضعاً بذلك حجر الأساس للنقد الديني في الإسلام القائم على أسس عقلانية.
لا يُمكن تصور مسار تطور أوروبا والعالم لو تمكت أفكار هذا الأندلسي العظيم من توطيد نفسها في العالم الإسلامي، ولو أن آخرين بعده احتضنوا أفكاره وطوروها. لكنه للأسف وقع ضحية لحرّاس الدين الأصوليين وملاحقتهم. لقد عظُم تأثير أعماله في بلاد الغرب دون العالم الإسلامي، حيث نُسيت أعماله وساد محلها جمود فكري. وهكذا فإن أهم ما تركه الإسلام الإسباني - وهو فكر ابن رشد الأرسطي - لم يستطع إطلاق تأثيره التحرري في العالم الإسلامي نفسه. واليوم يستمر إحياء ذكرى ابن رشد في مؤسسة ابن رشد للفكر الحر التي أسست سنة 1998 في برلين بمناسبة الذكرى ال 800 لوفاة هذا الفيلسوف العظيم والتي تهدف إلى دعم التنوير في العالم العربي بمنح جوائز سنوية للتغيير والشجاعة الأدبية والفكر الحر.
نعم، إنّ الإسلام ينتمي لأوروبا. فهو جزء من العالم المتطبع بالسامية واليونانية الذي نعيش نحن فيه حتى اليوم. وكلمة نحن هنا تحوي بلاد الغرب وبلاد الشرق على حد سواء وكاتدرائية قرطبة تُذكّر بذلك: فالجامع المستقر على أعمدة قديمة تم تحويله إلى بيت عبادة مسيحي. وبإدراك هذه الوحدة فقط يمكن أن يحدث الحوار ومع الوقت ربما يستتب السلام أيضا- ولا توجد عصور تُدلي بشهادتها عن هذا الهدف البعيد الأمل بأفضل وأجمل من الأندلس.
أ.جورج بوسونغ
أستاذ اللغات الرومانية في جامعة زيورخ
ترجمة نبيل بشناق، طبيب مقيم في برلين/ألمانيا
نشر المقال الأصلي بالألمانية في صحيفة 'دي تسايت' بتاريخ 16 يونيو 2011، ص 24.
Georg Bossong, Al-Andalus, goldener Traum, DIE ZEIT, Heft Nr. 25 (16. Juni 2011), Seite 24
الأستاذ بوسونج سمح لي بترجمة المقال للعربية ونشره بالعربية.
عن القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.