مجلس الحكومة يعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والغرب وأهمية التواصل الثقافي والحضاري
نشر في العلم يوم 04 - 02 - 2011

كثر الحديث في السنوات الأخيرة من القرن العشرين عن نهاية الإيديولوجيات ونهاية التاريخ، هذه المقولة التي طرحها الأمريكي من أصل ياباني (فوكوياما) والتي حاول من خلالها أن يستثمر سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي ودول أوربا الشرقية، وانهيار نموذج معين للبناء الاشتراكي لكي يؤكد بذلك أننا نشهد (نهاية التاريخ) ثم سقوط حائط برلين الذي يعد علامة العصر وبداية التحول الكبير في مسار حركة التاريخ سياسيا واجتماعيا وعسكريا واقتصاديا، وبالتزامن مع طروحات ومقولات النظام العالمي الجديد: »وصراع الحضارات« الذي أطلقه (هنتنغون) سنة 1993م، والقائم على أن النزاعات الدولية سواء منها الإقليمية أو العالمية ستكون في المستقبل على شكل (صدام حضارات) وليس على شكل (صراع إيديولوجيات) والتأكيد والإلحاح في الخاتمة على ضرورة أن يتخذ الغرب جميع التدابير على المستوي القريب كما على المستوى البعيد للدفاع عن مركزه ومصالحه. (1)
كل هذا فجر سلسلة من الأزمات والقضايا الجيدة لتضاف إلى الكم المتراكم من الأزمات وبؤر التوتر التي كان يعانيها العالم ولا يزال ودخل العالم في دوامة من الأحداث وصلت إلى مرحلة وصفها البعض بأنها (عصر الأزمة) أو عصر الصراع الخطير.
الإسلام في الواجهة
يرى الدكتور محمد عابد الجابري أن خطورة مقالة هنتغتون تكمن في ما بين (المقدمة) و (النتيجة) ويشغل كل منهما بضعة أسطر لا غير، أما (بؤرة) الموضوع بالتعبير الأمريكي فهو »الإسلام« بالدرجة الأولى.
ذلك أن صاحب المقالة يركز على الإسلام سواء في تحليله (التاريخي) أو في عرضه لوقائع الحاضر (2). والإسلام الآن ومنذ عقدين من السنين أصبح في الخوف سمة العصر الحديث؟ يعلل الدكتور المهدي المنجزة ذلك بانعدام الثقة في الذات الغربية، وزعزعة الثقة في النفس. فانتاب من جراء ذلك الغرب خوف وارتباك بيّن.
»وفي رأيي لفهم هذا العنف الغربي وإصراره على محاولة غزوه الحضاري لباقي بلدان العالم، ولكي نفهم جيدا إعلامه باعتباره يكشف عما بداخله ، ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا الشعور بالخوف الذي يسيطر عليه. ففي هذا السياق لدى حجج حول الموضوع.. لقد ظهرت في الغرب عشرات من الكتب بعناوين فيها الخوف، لدرجة أن الكلمة انتقلت إلى الصحف والمجلات وشاشات التليفزيون وأمواج الإذاعات، دائما تصادفنا كلمة الخوف .. الخوف مماذا؟ الخوف من الديمقراطية، من الإسلام، من اليابان، من الحضارات الأخرى... لقد صارت الحضارة الغربية حضارة خوف، والحضارة التي يدخلها الخوف بهذا الهوس الشديد، والمبني بالخصوص على انعدام الثقة في النفس، تدخل في مراحل اندفاعية ويبقى على الآخرين أن يؤدوا ثمن هذا الاندفاع حتى وجود توازن جديد في العالم« (3).
إن قوة الإعلان الفاعلة التي يحسن الغرب استخدامها للتأثير والتوجيه في الأفكار والأحداث حولت العالم إلى بيت صغير تعرف فيه الشاذة والفاذة. وأصبحت الصورة المعاصرة عن (الإسلام) ترتسم في أذهان الغربيين من عدة مكونات أعمقها العوامل التاريخية، فالمسيحية التي تمثل العالم (الغربي) تشتبك لأكثر من ألف عام مع العالم (الإسلامي).
جذور الصراع بين الشرق والغرب
كان بزوغ فجر الإسلام الخاطف، وقيام إمبراطورية العرب الواسعة بين اسبانيا والهند، مع حضارتهم التي ازدهرت ازدهارا عجيبا مشكلة عويصة حارت أوربا في القرون الوسطى في فهمها كما احتارت في أي سبيل تسلك وأي عمل حاسم تقوم به لتقرير موقفها من الشرق: أ حروب صليبية، أم تبشير، أم معايشة أم تبادل تجاري؟ وقد احتاج الوصول إلى قرار بشأن هذا إلى معرفة صحيحة وإلى حكم عادل.
وبحكم قانون التطور ونمو الحاجات العلمية، توقفت العلاقات، وحصلت اتصالات مباشرة واحتك عالما الشرق والغرب احتكاكا مباشرا في اسبانيا وصقلية. ثم حدثت تحولات في الاتجاه المعاكس: الحروب الصليبية ثم الهيمنة الإمبريالية واستعمار أوربا لبعض الدول الإسلامية. وأصبح الغرب يمتلك الكثير من المعلومات حول الإسلام، وهي معلومات متنوعة في مصدرها ومختلفة في منابعها، ولكنه يمتلك القليل من الإدراك الواعي الجيد بأمر هذا الدين. ويرى المفكر الاسباني خوان غويتسولو (أنه منذ بداية »مشكلة الشرق« والمستعمرون الانجلو فرنسيون يضعون أنفسهم رهن إشارة الأطماع الإمبريالية لبلدانهم، فقد كانوا عبارة عن طليعة أو قنطرة بتحقيقاتهم وآرائهم لتدخل الجيش بعد ذلك. إن طموح رجل النهضة ليجمع بين السلاح والقلم جعله يتحول إلى عالم أو رحالة أو دارس اللغات أو من المتعاطين لدراسة الشرق الأدنى وشمال افريقيا قصد إخضاع القلم إلى الأهداف التوسعية للسيف. وغني عن كل بيان أن معرفتهم عوض أن تظهر حقيقة التصورات المضادة للإسلام فإنها غالبا ماكانت تستعمل لتدعيمها.
فالتصورات والحقائق والأفكار المسبقة والأساطير والنوادر وبعض التفاصيل تأخذ في كتابهم طابع قرارات لا رجعة فيها وتصبح ذات صلاحية مسلم بها).(4)
أما أسباب عدم تفهم الغرب للإسلام فهي عديدة ومعقدة وتستند بشكل خاص إلى محركات دينية وتاريخية ونفسية وثقافية وتربوية كما أنها شرعت تستند مؤخرا إلى اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية. فقد ظل الإسلام يثير اهتمام الكثيرين ومخاوفهم، وتنظر إليه نظرة عداوة نظرا إلى أن التاريخ كان في معظمه تاريخ صراع متواصل وفي كل صراع يعتقد كل طرف أن الشر في الطرف الخصم. كما عملت اليهودية العالمية على تغذية هذا الصراع واستمراره بجميع الوسائل، وكثيرة هي الأكاذيب والخرافات التي ابتدعها هؤلاء عن الإسلام والعرب. وقد ولد احتكاك الغرب بالشرق ردود فعل عربية وإسلامية متعددة وذات مستويات مختلفة. ولقد كان لعامل التنافس الحاد بين البرجوازيتين المتطورتين الانجليزية والفرنسية على منطقة الشرق، دور هام في حمل الفئات المثقفة العربية والإسلامية على تعميق ردود فعلها ورفعها إلى مستوى المواقف المعلنة والصريحة من الأجنبي الدخيل الذي داهم البلاد العربية الإسلامية بقوة جيوشه وتنوع أسلحته وشدة مكره، وخاصة بعد احتلال مصر من طرف الانجليز سنة 1882.
لقد كان رد الفعل الإسلامي هو أول ردود الفعل التي أدي إلى بلورتها الاحتلال الأجنبي لمصر والشام. فبعد الاحتلال الانجليزي لمصر قام هناك تيار ديني إسلامي أعلن موقف المعارضة والرفض للوجود الأجنبي على أرض مصر، وعمل دعاة هذا التيار على حمل الجماهير العربية والإسلامية على مقاومة الأجنبي الغازي، والوقوف في وجه كل تحدياته الحضارية والاجتماعية. ولقد قامت على أساس هذا الرفض دعوة دينية سلفية تدعو المسلمين إلى العودة إلى النبع، أي إلى أصول الدعوة المحمدية التي هي جوهر الإسلام الصحيح، وكان الشعار الذي رفعه هذا التيار في وجه التحدي الأجنبي المتمثل في الاستعمار الغربي بغزوه الفكري والحضاري وبسيطرته السياسية والاقتصادية، هو إصلاح أمر الأمة الإسلامية بعودتها إلى مصدر قوتها في الماضي وهو الإسلام الصحيح، وكان هذا هو جوهر الدعوة السلفية القديمة، التي قادها ابن تيمية وابن حنبل والتي أحياها محمد بن عبد الوهاب في الحجاز، بعد أن بدأ انهيار الإمبراطورية العثمانية يلوح في الأفق.
إن التيار السلفي بكل فصائله لم ير في الغرب الحديث إلا ذلك الخصم العنيد والقديم للشرق الإسلامي المؤمن، فهو مصدر الكفر والإلحاد وهو المتربص الدائم بالإسلام والمسلمين. إذن فالتقابل هنا هو بين ماهو إسلامي وما هو مسيحي بقطع النظر عن أي تحديد تاريخي لهذا أو ذاك.
لقد كانت الرغبة في الحفاظ على أصالة الذات العربية وصيانة الأنا الإسلامي المستقر في عمق هذه الذات، والذي تقوم على أساسه هويتها التاريخية التي اكتسبتها مع مجيء الإسلام، يقول الدكتور صبري حافظ: «تنطوي العلاقة بين العرب (الشرق) وأروبا( الغرب) على قدر كبير من الكثافة والتوتر والتعقيد، ليس فقط لأنها علاقة حركية مشروطة بقدر كبير من الحتمية والقدرية التي لافكاك منها، أو لأنها علاقة تاريخية تمتد من الأغوار إلى قرون وقرون وتبتدئ عبر كل مرحلة تاريخية معينة في صورة متميزة ورداء جديد، وان لم تخل هذه الصورة جميعا من سمتي التوتر والتعقيد. ولكن أيضا لأنها بين قطبي حضارتين متباينتين، بل متنافرتين، ومن هنا فإنما تنهض على جدلية الجذب والتنافر واستهواء الضد لنقيضه ورغبته في الاستحواذ عليه والصراع معه وأحيانا تدميره، وتنطوي عبر مراحلها التاريخية على قدر كبير من تبادل الأدوار والمراكز، بحيث تخضع حضارة لأخرى مرة ثم تعود هذه الحضارة الخاضعة فتنهض من كبوتها، بل تخضع الحضارة التي هزمتها من قبل لنفوذها وأحيانا لسيطرتها الكاملة»(5).
هذا النمط المتكرر من الاتصال الحضاري بين الشرق وبين الغرب، بما فيه من أخذ وعطاء متعاقبين، يثبت لنا أن للعلاقة بين هذين الإقليمين طابعا فريدا يندر أن نجد له نظيرا في حالات الاتصال الحضاري الأخرى. ذلك لأن هناك أدلة لاشك فيها على أن ما وصل إليه الغرب في مرحلته الراهنة من تقدم، إنما كان نتيجة لتضافر حضارات الشرق معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة. ففي مراحل متعددة كان الشرق يقدم إلى الغرب المادة الخام لحضارته، فيصوغها هذا في أشكال محددة منظمة: قدم إليه معلومات عملية تطبيقية مستمدة من خبرته الحرفية والزراعية القديمة، فصاغها الغرب في اليونان على شكل نظريات هندسية ورياضية أيام فيتاغورس وإقليدس. وقدم إليه مبادئ روحية في العقيدة المسيحية جعلها الغرب لاهوتا منظما في العصور الوسطى، وصورها تبعا لمقتضيات حياته الخاصة في حركات الإصلاح الديني في عصر النهضة. وقدم إليه ترجمات للفلسفة اليونانية وشروحا لها، ومناهج تجريبية للبحث العلمي الذي ازدهر في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاتخذ الغرب من هذا كله أساسا لنهضة علمية وفكرية ضخمة تتسع آفاقها حتى اليوم على نحو متزايد. وعلى ذلك، فإذا كان الغرب في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم متفوقا على غيره من الحضارات تفوقا لاشك فيه، وإذا كان المثقفون المنتمون إلى حضارات متعددة يجدون حرجا في الأخذ عن حضارة غريبة تماما عنهم كالحضارة الغربية، فينبغي كما يرى الدكتور فؤاد زكريا أن يخف هذا الحرج إلى حد بعيد عند المثقفين المنتمين إلى الحضارة العربية، وحضارة الشرق الأوسط بوجه عام، إذ أنهم حين يأخذون اليوم عن الغرب فهم إنما يهتدون من جديد إلى كثير من العناصر التي سبق لبلادهم أن قدمتها للغرب وإن تكن مصوغة في شكل جديد. وإذا كان الأمر كذلك، فمن واجبنا أن نتخلى تماما عن ذلك الموقف الذي نعتقد فيه بوجود ثنائية حضارية قاطعة، لا يكون لنا فيها مفر من الاختيار بين أحد أمرين لا ثالث لهما: إما التمسك بتراثنا القومي، وإما مسايرة الحضارة الغربية. ذلك لأن تراثنا متداخل مع تاريخهم، وماضينا قد أثر في حاضرهم، والدور الذي قمنا به لكي تبلغ حضارة الغرب مستواها الحالي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولو جاز لنا أن نضع عقولنا أمام هذا الاختيار المزدوج ونرغمها على أن ننحاز إلى أحد الطرفين دون الآخر، لجاز للغرب بدوره أن يدعو إلى التخلي عن كل ما يتصل بالمسيحية من قريب أو بعيد لأنها ذات أصل شرقي ولجاز أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي، لأنها ذات أصل شرقي ولجاز أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي، لأن القوة الدافعة لها كانت علوم العرب وفلسفاتهم(6)
ولكن الحقيقة المؤلمة كما جسدها الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا هي: «إنه رغم التقدم التكنولوجي ووسائل الاتصالات الجماعية التي حققناها في النصف الثاني من القرن العشرين ورغما عن سهولة السفر والتنقل الجماعي واختلاط الأجناس البشرية والهبوط المتزايد - أو هكذا نعتقد - في أسرار وغرائب عالمنا، فإن سوء الفهم بين العالمين الإسلامي والغربي مازال قائما وفي الواقع فإن سوء الفهم هذا هو في ازدياد. ولايمكن أن يكون هذا سببه الجهل في العالم الغربي.
فهناك بليون مسلم موزعون في أنحاء العالم، عدة ملايين منهم يعيشون في دول رابطة الكومنولث منهم مليون مسلم في بريطانيا وحوالي عشرة ملايين موزعون في مختلف أنحاء العالم الغربي، إن المجتمع الإسلامي في بريطانيا هو في ازدياد ونمو منذ عشرات السنين وهناك حوالي خمسمائة جامع في بريطانيا، كما أن الاهتمام الشعبي بالتراث الإسلامي يزداد بسرعة في بريطانيا.. الإسلام هو بيننا وحوالينا، ومع ذلك ما زال الشك بل الخوف مستمرا، وفي أعقاب انتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينيات فإن إمكانيات السلام يجب أن تكون أقوى وأكثر منها في أي وقت في هذا القرن.. إنه من الغريب أن يستمر سوء الفهم قائما بين العالمين الإسلامي والمسيحي، إذ أن الروابط التي تجمع بين عالمينا هي أقوى بكثير من العوامل التي تفرق بيننا. فإن المسلمين والمسيحيين واليهود هم كلهم (أصحاب كتاب) فالإسلام والمسيحية من ناحية يشتركان في فكرة التوحيد، الإيمان بإله قدسي واحد، وزوال حياتنا الدنيوية يوما ما ومحاسبتنا على ما اقترفناه من أعمال في هذا العالم، وكذلك في اعتقادنا في حياة ثانية. كما أننا نجد لدينا قيما مشتركة رئيسية كاحترامنا للمعرفة والعدل والعطف على الفقير والمستضعفين واهتمامنا بالحياة العائلية واحترام الوالدين».(7)
من المهم التسليم بأن التقاليد الإسلامية تطمح نحو رؤية العالم كوحدة متكاملة يمتزج فيها الدين بالسياسة، ويكون المجتمع الواحد جزء من كل، وبالمقابل تميل التقاليد الدينية المسيحية في الغرب إلى اعتبار الدين أمرا منفصلا عن السياسة، والى اعتبار السياسة والاقتصاد أداتين لخدمة المصالح الشخصية. وهذا الاختلاف في الرؤية هو أساس الخلاف بين التوجه السياسي النفعي في الغرب من جهة، والسياسة الواقعية من جهة أخرى، أضف إلى ذلك ميل الغرب إلى الوقوف ضد كل ماهو أجنبي، دون اعتبار القيم الأخلاقية، كما هو الحال في أوساط الأمة الإسلامية.
تنامي التيار العنصري في الغرب
شهد العقد الأخير من القرن العشرين تنامي التيارات اليمينية في أوربا بسبب تزايد الحضور الإسلامي في الغرب، وسجلت هذه التيارات اليمينية حضورا تبعث على القلق، فظهر على سبيل المثال: فلاميش بلوك في بلجيكا، والحزب القومي البريطاني، وحزب الشعب الدانمركي، والجبهة الوطنية الفرنسية، ورابطة الشمال الايطالي، وحزب الشعب السويسري. ولعل العديد من الحكومات الأوروبية اليوم تضم تيارات يمينية ضمانا للأغلبية البرلمانية على الرغم من العداء العلني الذي تبديه هذه التيارات للإسلام والمسلمين.
وقد ا رتفعت العديد من الأصوات في أوربا تطالب بحماية المصالح الأوروبية لتمرر خطابها المناوئ للجهد الإسلامي، فبدأت الحملة للحد من الهجرة، والمطالبة بسن قوانين تحظر الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة وتشديد قوانين اللجوء. وقد صرح المستشرق برنارد لويس لصحيفة (دي فيلت) الألمانية بأن «أوربا ستكون جزءا من المغرب العربي. وليس العكس، لماذا؟ لأن التوجهات الحالية تظهر أن أوربا ستشهد أغلبية مسلمة في نهاية القرن الواحد والعشرين على أقصى تقدير، إذ فضلا عن الأعداد المتزايدة من المهاجرين العرب والمسلمين، فإن الأوروبيين يتأخرون في سن الزواج ولا ينجبون سوى عدد قليل من الأطفال بعكس مسلمي أوربا الذين يتزوجون في سن مبكرة وينجبون عددا أكبر من الأطفال»(8)
أما جريدة (لوموند) الفرنسية فقد أنجزت ملحقا خاصا عن الإسلام في: 1994/10/13 ضم مجموعة من المقالات لأسماء فرنسية إضافة إلى استطلاع للرأي نشرت نتائجه بنفس الملحق. ورد في الاستطلاع أن الإسلام يعتبر الدين الثاني في فرنسا، لكنه دين غير محبوب ومحتقر بالنسبة للفرنسيين. لأنه يرفض كل ماهو غربي، ويميل بشكل كبير إلى التعصب.. وقد ركزت الصحيفة في كل المقالات التي ضمنها الملحق الإسلامي على العناصر التي تضاعف من كراهية الإنسان الغربي للإسلام والمسلم. فقد تحدثت عن القهر الذي تعانيه المرأة في بعض بلدان الشرق، وقطع يد السارق والانتصار لتعدد الزوجات واستفراد الرجل بالعصمة، وجلد الزاني.. لأنه لايوجد في الإسلام إلا هذه الأمور، بينما أغفلت كل حديث عن النبل والتسامح والإخاء والعدالة. وهو ما أكدته المستشرقة الفرنسية (آنا ماري ديل كامبر) المتخصصة في الفقه الإسلامي التي تقول: «إن الغرب يكره الإسلام لأنه يجهله، باعتبار أن الإنسان عدو ما يجهل. فكلمة «مسلم» لاتستدعي في ذهن الغرب - للأسف الشديد - سوى الجهل والصحراء وحياة البداوة.
أما صورة نبي الإسلام فقد أمعن الغربيون في الإساءة إليها. ويجب تصحيح هذه الصّورة كما قدّموها ليس فقط لأنّها مغلوطة من أساسها، ولكن أيضا لأن الدّين الإسلامي دين التسامح وعقيدته إنسانية شاملة كما أنه يخاطب في الإنسان أقدس موهبة فيه وهي العقل.. فهو دين العقل والحرية ويحترم أهل الكتاب(9).
الهوامش:
1- تعرضت المقولة لردود ومناقشات في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها/انظر دراسة الدكتور محمد عابد الجابري في جريدة الاتحاد الاشتراكي/عدد: 1997/2/3م/ص=4
2- انظر دراسته عن قضايا الفكر المعاصر (صدام الحضارات) الحلقة9/صحيفة الاتحاد الاشتراكي/عدد= 1997/2/23م/ص=4
3- انظر حوارا معه في جريدة (الاتحاد الاشتراكي) عدد 1993/2/15م/ص=5 اجراه معه عبد السلام بنعيسى
4- تأملات في الاستعراب الاسباني (العلم الثقافي) عدد: 722(198/12/15م/ص=5
5- انظر مجلة «فصول» المصرية / عدد=3 الثالث 1983م/ص=233
6- انظر مجلة «الفكر المعاصر» بتصرف /عدد=السابع/1965م/ص=48
7- انظر محاضرته المنشورة في صحيفة (الشرف الأوسط «القسم الأول») عدد=1993/11/6م/ص=21
8- نقلا عن صحيفة (القدس) = 2004/09/10م/ص=19
9- انظر حوارا معها في صحيفة الميثاق الوطني عددا=1993/10/29 م ص=5


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.