إنها أزمة إبداع حقيقية تمتد جذورها إلى الوضعية المزرية للفنون والأجناس الإبداعية في منظومة التربية والتكوين المدرسي والجامعي، وضعف التكوين الفني في العديد من المجالات الحرفية والإبداعية، وشيوع نوع من الفوضى في تنظيم وتدبير الإنتاج التلفزي والصناعة الفنية التي تخضع لاعتبارات وشروط أخرى غير الكفاءة والجودة والتنافس النزيه، وعدم انخراط المثقفين والمبدعين المتمكنين من أصول وتقنيات الكتابة والإخراج والإبداع الدرامي والسينمائي في عمليات الإنتاج وتطوير العمل الفني والفرجة التلفزية. تعتبر الثقافة والفنون من مقومات وجود المجتمعات البشرية، وانعكاسا دالا لاختياراتها وقدرتها على تدبير مكونات كيانها الاجتماعي والتاريخي وتغذية صيرورة تطورها السياسي والحضاري. فهي تعبر عن وضعية الحريات والديمقراطية في البلد وعن ملكات الإبداع في الشخصية الفردية والجماعية وما يرتبط بها من حساسيات وتجارب وأحلام وإحباطات، ومن جرأة وإعمال للخيال والفكر الخلاق في الرفع من الوعي والذوق العامين في المجتمع. بيد أن “الإبداعية ” وامتدادات الحياة الثقافية لا تقتصر فقط على الممارسة الفنية والإنتاج الأدبي والفعل الثقافي، بقدر ما تتمظهر وتشتغل أو تنحرف وتتعطل من خلال مختلف مسارات الحياة العامة والخاصة في المجتمع، حيث أن الثقافة والفن إنتاج وتلقي وتفاعل فكري ووجداني، ومنظومة قيم وتبادلات رمزية وتحققات جمالية تؤثر في بنية السلوك الاجتماعي والوعي والذوق العامين. وبقدر ما ترتقي الممارسة الفنية والانهماك الثقافي والجمالي في ظل شروط سياسية واجتماعية وتربوية مواتية وديمقراطية، بقدر ما يتغذى الوجدان ويتحرر الخيال والفكر وتسمو الأذواق والحساسيات الثقافية، ويتمكن الفنان والفاعل الثقافي من أداء وظيفته في التغيير والنقد والاستفزاز والخلق والإمتاع وتعزيز ذاتية الأفراد والمجتمع. هذه القيم والتحققات أو الإخفاقات التي تطبع الفعل الثقافي والممارسة الفنية هي التي تمنحنا صورة أوضح على مستوى ومكانة الإبداع في المجتمع ومدى تحقق الفن والثقافة كحاجة إنسانية وقيمة عليا ذات تأثير فعلي على الوجدان والفكر والوعي السائد. كما أن دور الفنان والشاعر والروائي والمسرحي والتشكيلي والمبدع في مختلف مجالات وأشكال التعبير والإنتاج هو الارتقاء بهذه الممارسة لتضطلع بالدور المذكور انطلاقا من اختيارات وحساسيات وتصورات وخطابات تساهم في إفعام أفاق الخيال والفكر الخلاق في فضاء المشترك العام والحياة الثقافية. كان الفن يضطلع بهذه الأدوار عبر إمكانيات الإنتاج والتلقي المتوفرة، بما في ذلك التربية والتعليم والإعلام والنشاط الثقافي والولوج العمومي إلى الإبداع والإنتاج عبر بوابة المسارح وشاشات السينما والمتاحف والأروقة والنوادي والمدرسة والجامعة ... كما كانت الممارسة الثقافية والانشغالات الفنية محدودة في دارة التداول التقليدية التي لا تتعدى في كثير من الأحيان إمكانيات الممارس والفاعل الثقافي المباشر أي الإدارة الوصية أو منظمي بعض اللقاءات ودور النشر والنقد وبعض المنابر الإعلامية. أما اليوم فقد تغير مفهوم الفن وأشكال التعبير والإنتاج، وظهرت العديد من الوسائط وإمكانيات التلقي والتأثير في الذوق ووجدان الأفراد والجماعات وميولاتها وأفاق انتظارها الثقافي والفني، وصارت الدراما والكوميديا التلفزية والكليبات الغنائية ومختلف الإنتاجات الموسيقية والسينمائية التي تبث على العشرات من القنوات وعلى امتداد الأوقات والأمكنة، هي صانعة الأذواق ومنتجة الأفكار والتمثلات والسلوكات الاجتماعية وموجهة الرأي والوجدان الفردي والجماعي في فضاء الاستهلاك. ففي غياب سياسة ثقافية واضحة وفاعلة في مسارات الحياة العامة، وأمام نكوص الفعل الثقافي والإبداع الفني المرتبط بمؤطرات فكرية ونقدية وجمالية، وفي انعدام الولوج العمومي إلى الفن عبر تقاليد تواصلية منتظمة ومرافق ثقافية عمومية ونشيطة وممارسة إبداعية مثيرة للتجديد والاستجابة لميولات المتلقي وانتظاراته وأفق تطويرها، وفي واقع سمته الأساسية سيادة الخيار الايديولوجي المهيمن واستقالة المثقف والفنان المبدع وتراجع قيم الخيال والجمال والخلق، في هذا الوضع إذن تصير القنوات التلفزية ووسائل الاتصال الجديدة هي الفاعل الثقافي المتحكم في توجهات الأفراد والمجتمع وصناعة الأذواق والصور وتشكيل الوجدان والمتخيل العام في المجتمع. هذا ما يحصل اليوم بالضبط في المغرب، حيث أصبحت الدراما التلفزية وبرامج الكوميديا ووصلات الإشهار والإنتاجات والأفلام التي تبثها قنوات القطب العمومي، خصوصا في شهر رمضان حيث الاستعداد المطلق للمشاهد لتلقي و”ابتلاع” كل شيء، هي المادة “الفنية” المشكلة للذوق العام ولتمثلات واستعدادات الجمهور وردوده الحسيه وسلوكه الاجتماعي. هذه الأعمال التي لا تخضع إلا لمنطق الربح المادي والصفقة التجارية وصناعة الفرجة بأشكال صارت مبتذلة وتفتقد إلى شروط الإبداع والإنتاج الثقافي المؤطر باختيارات ذوقية وجمالية مرتبطة بمشروع ثقافي وإعلامي راق يسعى إلى تطوير وتحرير الشخصية الفردية والجماعية وتطويرالذوق العام. أبانت عشرات الإنتاجات التلفزيونية التي توالت على شاشتي القناتين خلال السنوات الأخيرة عن فقر كبير في صناعة الدراما والكوميديا وخلق الترفيه والفرجة، بما في ذلك الأفلام والسلسلات والكاميرات الخفية والسهرات... ، وتأكد ضعف الكتابات والسيناريوهات والدراماتورجيا والتصوير والإخراج في العديد منها، وبدت في كثير من حلقاتها أكثر قربا من الفرجة الشعبية والإيقاعات الهجينة والواقعية المبتذلة دون مجهودات هامة على مستوى الإبداع في النصوص والأفكار والمقاربة الإبداعية للموضوع الفني والترفيهي أو الاجتماعي. إنها أزمة إبداع حقيقية تمتد جذورها إلى الوضعية المزرية للفنون والأجناس الإبداعية في منظومة التربية والتكوين المدرسي والجامعي، وضعف التكوين الفني في العديد من المجالات الحرفية والإبداعية، وشيوع نوع من الفوضى في تنظيم وتدبير الإنتاج التلفزي والصناعة الفنية التي تخضع لاعتبارات وشروط أخرى غير الكفاءة والجودة والتنافس النزيه، وعدم انخراط المثقفين والمبدعين المتمكنين من أصول وتقنيات الكتابة والإخراج والإبداع الدرامي والسينمائي في عمليات الإنتاج وتطوير العمل الفني والفرجة التلفزية. إضافة إلى ارتباط هذه الأعمال والخدمات الفنية بهواجس أخرى من بينها عمل السلطة وإرادة التحكم والتوجيه والابتذال، وتقديم الفرجة والدراما الشعبوية أو المستلبة لخلق احتفالية اجتماعية زائفة. إن التصور المتحكم في وظيفة الفن والتلفزيون وصناعة المتعة والفرجة في المجتمعات المعاصرة هو منطق الاستهلاك وامتلاك الشعور العام وتوجيهه، وصناعة الأذواق والميولات والحاجات التي تفضي إلى تبضيع العمل الفني وإنتاج فرجة واحتفالية اجتماعية مدرة للربح . وعندما تنضاف الرغبة في التحكم وإخضاع الذوات والأفكار والأجساد تتحول أدوات التعبير والإنتاج الفني المواتية لهذا المنطق إلى آلية لتبديد الحس الجمالي والنقدي ولتكريس الحرمان الثقافي والخنوع الاجتماعي وبسط الابتذال. ففي المجتمعات التي تحظى فيها الثقافة والممارسة الفنية بوظيفتها النقدية والجمالية ودورها في صقل الأذواق والارتقاء بالحساسيات والأفكار والتبادلات الرمزية، وتطوير الحس النقدي وأفق انتظار الجمهور والمتلقي، وذلك عبر امتدادات الفضاء المدرسي والجامعي والتكوين والتربية والحياة الثقافية والفنية، تتشكل مقومات الذاتية الفردية والجماعية ومناعتها الحسية والنقدية كما تتبلور القدرات الإبداعية وإمكانيات التجديد والخلق الفني الرفيع. وهذا ما ينعكس بشكل جلي ومباشر في مختلف مسارات وتمظهرات الحياة الفنية والممارسة الإبداعية في فضاء المجتمع بما في ذلك وسائل الاتصال والقنوات التلفزية وإنتاجاتها الدرامية ووصلاتها الإشهارية وموادها البصرية والغنائية والموسيقية، حيث تكون أمام اختيارين: إما أن تعكس درجة الوعي العام والذوق الجمالي وتستجيب لحاجيات وانتظارات المجتمع عبر تقديم أعمال إبداعية تحترم ذكاءهم وذوقهم وشروط الفرجة والمتعة الرفيعة، إما أن تترك مهجورة في زاوية “السيجور” لينصرف المواطنون والمواطنات إلى حال سبيل الفن الحقيقي عبر صفحات الرواية والشعر ومعارض التشكيل وقاعات السينما والمسارح والتلقي الفني الحر والرصين . لكن في غياب الإمكانية الثانية، أي الإنتاج والتلقي الفني الرصين، نتيجة أزمة المنظومة التربوية ونكوص الثقافة وأدلجتها وتراجع الفن وانعدام الولوج العمومي إلى حياة فنية طبيعية وسليمة، وهذا ما يحدث في المغرب، تبقى دراما وكوميديا التلفزة المبتذلة والإنتاجات المفتقدة إلى خصائص الإبداع والمعالجة الفنية والجمالية، هي ملجأ الجمهور العريض و”مطبخ” الذوق والحس الفني لدى شرائح عظمى من المواطنين، وذلك بشكل يؤكد أن أزمة الإبداع المستشرية على عدة مناحي في المجتمع هي نتيجة طبيعية للوضع السياسي والثقافي المتردي وجزء من الوجود الاجتماعي والتاريخي المعطوب، وأحد رهانات التطور والتحديث والتغيير المنشود. بقلم: رشيد الحاحي